الاقتصاد ومستقبل السودان السياسي

عادت إلى الواجهة في العاصمة السودانية الخرطوم ثلاث ظواهر (ومشاهد)، كان سكان هذه المدينة مترامية الأطراف يعتقدون أنهم ودّعوها إلى غير رجعة، هي صفوف الخبز وصفوف الوقود والانقطاع المتكرّر الطويل للتيار الكهربائي. وتتحالف هذه الظواهر المنهكة التي يعمّ البلاء بها، مع أزماتٍ أخرى، أصبح بعضها شبه دائم، مثل التدهور اليومي لسعر العملة، وما يتبعه من ارتفاع مستمر في أسعار الضروريات، وبعضها طارئ، مثل الآثار الجانبية لهطول الأمطار الغزيرة، متمثلةً في تعويق الحركة، وتحوّل شوارع العاصمة إلى برك ومستنقعات ذات مخاطر متعدّدة على الحياة. وقد تصل هذه المخاطر، في الأطراف والعشوائيات وبعض الأقاليم، إلى هلاك محقّق، أو في أقل تقدير، فقدان المأوى والممتلكات بانهيار المنازل على ساكنيها.
ولعلها مفارقةً أن نظام الإنقاذ الحاكم كان يعدّ من إنجازاته إنهاء صفوف الخبز والوقود التي نكّدت حياة المواطنين عشية انقلاب 30 يونيو/ حزيران عام 1989، وسنوات حكم الإنقاذ الأولى. نعم، كان هناك ثمنٌ باهظ، تمثل في التحرير الكامل (والمتعجل بحسب كثيرين) للسوق، واتباع السياسات النيوليبرالية، على حساب الشرائح الأضعف اقتصادياً، ولكن استخراج النفط عام 1999، ثم تحقيق سلام الجنوب في 2005، فتحا الباب لحقبة استقرار اقتصادي ونمو لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ بداية الستينات. ولكن عواقب كارثة إقليم دارفور، وما تبعها من فشل في الحفاظ على وحدة السودان، هدّدت هذه الإنجازات والمكاسب التي لم يستثمرها النظام على كل حال، ولم يحقّق المردود السياسي المرجوّ منها. ويعود هذا إلى خلل جوهري في تركيبته وبنيته السياسية، فضلاً عن غياب الرؤية والإرادة السياسية.
ولكن بغض النظر عن هذه المشكلة، كان يحقّ للنظام أن يجادل بأنه يوفّر الضروريات للمواطن من خبز ووقود وكهرباء، وحتى وإن كانت الأسعار ليست في متناول كثيرين. وكانت أبواق
“أحجم مستثمرون كثيرون عن إنفاذ مشاريع في السودان، بسبب مطالب غير معقولة من وسطاء ومسؤولين” النظام قد هلّلت لبناء سد مروي الذي اعتبرته “إنجاز القرن”، وبشّرت بأنه يحل مشكلة الطاقة الكهربائية في السودان. واستصغرت، في سبيل ذلك، تضحيات عشرات الآلاف من المواطنين ممن هجّروا من مساكنهم، وفقدوا معاشهم وأراضيهم الزراعية، من أجل بناء السد. أما الآن، فيخيّم صمتٌ مريبٌ وسط الدوائر التي روّجت تلك الأسطورة، ولا توجد أي تفسيراتٍ رسميةٍ مقنعةٍ لأزمة التيار الكهربائي، فضلاً عن محاسبةٍ للمسؤولين عما آل إليه الحال.
وفي هذا الإطار، لا يتوجه الجدل الدائر حول ترشيح الرئيس عمر البشير لولاية ثالثة تحت دستور عام 2005، في مخالفة لذلك الدستور، إلى لب المسألة. صحيحٌ أن هذا عَرَضٌ مهم من أعراض المشكلة، يكشف عن عجز ما يسمّى الحزب الكامل عن تجديد نفسه، وإيجاد بديل من داخله لشخص حكم ثلاثين عاماً. أما جوهر المسألة فهو أن البشير يحكم حالياً، والأزمات تتفاقم. ولا شك أن أفضل دعاية انتخابية لأي مرشح في مقعد السلطة تتمثل في إثبات الكفاءة في معالجة الأزمات التي تواجه المواطن، وأهمها جميعاً مسألة الخبز. وعليه، فإن التحدّي أمام البشير هو، في أضعف الإيمان، إيجاد حلول لهذه الأزمات قبل موعد الانتخابات المقبلة، وإلا فعلى أي أساسٍ يطلب أن ينتخبه الناخبون، في حال ما ترشح كما هو متوقع؟
قبل ذلك وبعده، ليست مهمة الحكم معالجة الأزمات، خصوصا الأزمات التي تمت معالجتها بالفعل وبنجاح من قبل، بل الحيلولة دون وقوعها من الأساس، فليس المطلوب من أي حكومةٍ انتظار تفجّر الأزمات، ثم الهرولة لمعالجتها، بل المطلوب هو تطوير الأوضاع، ودفعها إلى الأمام، وإلا لبقيت الإنسانية في العصر الحجري. ولأن موضوع اهتمامنا اليوم هو معالجة الوضع الاقتصادي، فإن من البديهيات أن أقل المطلوب من أجل دعم الاقتصاد عدم تحميله أعباء السياسة وإخفاقاتها. والمعروف أن أحد أهم مركّبات الحداثة المعاصرة، بل ومنطلقها، كان تبلور استقلالية الساحة الاقتصادية عن بقية الفضاءات، خصوصا السياسة، فقد تحققت النهضة الاقتصادية الرأسمالية في الدول التي قللت تدخلها في شأن الاقتصاد، وتركت لأهله حرية العمل فيه، وقد نبه ابن خلدون وغيره إلى مفاسد انغماس الدولة في شؤون الاقتصاد.
ولعل أهم شواهد الانحراف في السودان تحوّل السياسة إلى تجارة ومورد للكسب، وصيرورة المنصب الحكومي مغنماً ومكسباً يتسابق عليه المتسابقون، مع ما يتبع ذلك من نفاقٍ وفساد. وفي المقابل، تحولت موارد الكسب الحقيقية إلى مغرم، بحيث يواجه النشاط الاقتصادي الحر عقباتٍ بيروقراطيةً وأعباء ضريبيةً لا حصر لها. ولعلها مفارقة أن وظائف كثيرين ممن يسمّون أنفسهم شاغلي “المناصب الدستورية” (وهل هناك مناصب غير دستورية في البلاد؟)، خصوصا مناصب “المحاصصة”، يمكن الاستغناء عنها من دون أي تأثير سلبي. ذلك أن كثيرين من شاغليها لا يديرون ملفات معلومة، أو يضطلعون بمهام واضحة، بل إن بعضهم لا يقيم في البلاد بصفة مستمرة أساساً. وفي المقابل، نجد أن أصحاب الأعمال يواجهون ضغوطاً لا حصر لها، بدءاً من مظاهر تعنّت صغار البيروقراطيين، ومطالب بعضهم غير المشروعة. علمت مثلاً من صديقٍ حاول إنشاء مركز صحي خاص أنه واجه عقباتٍ بيروقراطيةً لا حصر لها كادت أن تمنع تأسيس المركز، على الرغم من حاجة البلاد إليه، بسبب عدم كفاية المرافق الصحية. أما بعد أن أنشأ المركز، وما حققه من نجاح، فقد بدأ يواجه زيادة في المطالب الضريبية، بلغ بعضها 25 ضعفاً خلال بضع سنوات!
لاحظوا أننا لم نتحدث بعد عن الفساد، وهو يمثل تكلفةً يصعب حصر أبعادها. على سبيل المثال، أحجم مستثمرون كثيرون عن إنفاذ مشاريع في السودان، بسبب مطالب غير معقولة من بعض الوسطاء والمسؤولين، فأضعف الإيمان هو ألا تصبح الدولة مصدر الكسب والثراء، وأن يتحوّل السوق إلى مغرم وساحة لقطاع الطرق، فمن أراد أن يخدم الشعب في منصب
“لا توجد أي تفسيراتٍ رسميةٍ مقنعةٍ لأزمة التيار الكهربائي، فضلاً عن محاسبةٍ للمسؤولين عما آل إليه الحال” “دستوري”، فيجب أن يكتفي براتب نظرائه من المهنيين، من أطباء ومهندسين وأكاديميين، وأن تكفّ يده عن التكسّب غير المشروع من المنصب، وأن يحظر عليه تعيين أقربائه في مناصب الحظوة، أو إعطاء أصدقائه وأوليائه (وأركان حزبه) أفضليةً على غيرهم في الانتفاع بموارد الدولة. وباختصار، يجب أن يكون الاقتصاد هو المنطق السائد في السوق، ومنطق السياسة في الساحة السياسية. وذلك بدلاً من العكس: أن تكون السياسة تجارة وتكسّباً، والسوق مهلكة وحلبة تصارع سياسي. وبهذا تكفّ الدولة عن خنق الاقتصاد وإفساده، ويقتصر تدخلها على توفير الموارد للخدمات الأساسية، ولدعم من يحتاج الدعم.
ولن يهم عندها من يترشّح لمنصب الرئاسة وبقية المناصب، إذا أصبحت المناصب للخدمة وليست للتكسّب، وتم تقليص مخصصات المسؤولين وصلاحياتهم في الاستفادة من المنصب إلى أدنى حد، في حدود المعقول، كما كانت سنّة الخلفاء الراشدين، وهي سنّة الحاكم في الديمقراطيات اليوم، فمن تقدّم للمنصب بعد ذلك، وهو قابل هذه الشروط، عندها فأهلاً ومرحباً بمن يتصدّى للواجب، إن صدق. وفي المقابل، وبالقدر نفسه، حين يصبح المجال الاقتصادي مفتوحاً لأهل المبادرات الشريفة، بعيداً عن تدخلات البيروقراطيين والسياسيين والمحاسيب وأصحاب الحظوة، فمن يحقق النجاح عندها بجهده وعرقه ومهاراته، بعد أن يؤدّي ما عليه لوطنه، فهنيئاً له ما كسب وربح.

العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *