على أحد الألواح المحفوظة عن الحضارة الهندية منذ مئات السنين، كُتب النص الآتي: “يستحيل على الإنسان ألّا يذوق طعم العسل إذا لامس لسانه، وعليه فإنه يستحيل أيضاً على من يدير أموال الملك ألّا يأخذ لنفسه منها ولو شيئاً قليلاً”، كما يُرْوَى أن الوزير إبن الفرات جَهَرَ، في خريف الدولة العباسية، بقبول الرشوة واعتبرها من أبواب تسهيل قضاء الحوائج .. فالفساد – بمعنى إساءة استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة – موجود منذ أن وجدت الحكومات حتى أصبح في العصر الحالي قضية عالمية لدرجة أن الأمم المتحدة أفردت إتفاقية خاصة لمكافحته .. وتتفاوت نسب الفساد من دولة لآخرى وفقاً للجهود التي توليها الحكومات لمواجهته والحدِّ من انتشاره، لكنَّ حقائق الحياة تثبت أن الفساد قرين الإستبداد وتوأم روحه، فكلاهما يعبر عن نزعة السطو والإستحواذ على ما يفترض أن يتشارك فيه الجميع: السلطة والثروة.
الإستبداد والفساد يتعاضدان ويتبادلان الأدوار ويوظف كلٌّ منهما الآخر لخدمته ويتساكت عن ممارساته غير السوية ويعمل على تطبيعها في الحياة العامة لتصبح من الأشياء المألوفة التي لا تستوجب الإدانة أو تثير الغضب والإحتجاج وذلك بهدف إرباك المرجعية الأخلاقية للمجتمع وتشويه نسيجه القِيَمي، حتى يصبح مجتمعاً مختل القيم تشح فيه الكوابح الأخلاقية ويفقد آليات الضبط الإجتماعي وتضعف فيه المقاومة لكل ما هو شاذ وغير سوي ويصيبه الهمود فيسهل تدجينه وتطويعه وانقياده، ولذلك إذ يبدو الإستبداد متشدداً وحاسماً تجاه معارضيه فإنه يُبدي رخاوةً وميوعةً تجاه الفساد ويتزلف إليه ويخطب وُدّهُ فيتم الزواج بين الرذلتين وتكون ثمرة هذه العلاقة الحرام منهجاً كئيباً يعادي ناموس الحياة ويشاقق الوجدان السليم ويضاد قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
خلال الأسابيع الماضية تواترت تصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الجمهورية – وغيره من قادة نظام الإنقاذ – تعلن الحرب على الفساد، بعد أن ظلوا طوال السنوات المنسربة من مسيرة حكمهم العضوض ينكرون وجود الفساد أو يطالبون من يتحدث عنه بتقديم الدليل .. ولأن القانون في هذه البلاد مفقوء العينين ومخلوع الأضراس، وصل إنكار الفساد – أو حمايته – حد تجاهل القانون الذي سُنَّ لمكافحته بما في ذلك النص الصريح على تكوين مفوضية لمكافحة الفساد.
من المؤكد أن هذا الإعتراف المتأخر بوجود الفساد وإعلان الحرب عليه لن يكون ذا جدوى في اجتثاثه، لأنه لم يستصحب معه مخاطبة الأسباب التي أنتجت الفساد والمفسدين وفي مقدمتها نهج “التمكين” السياسي والإقتصادي الذي جعل نظام الإنقاذ أشبه بنظام الحكم الأوليغاركي في أثينا القديمة )تحالف سلطة ومال مسنود بالقمع الأمني)، ولأنه يستحيل اجتثاث غول الفساد في ظل غياب سيادة حكم القانون وغياب قواعد الشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة بواسطة البرلمان المنتخب بحرية ونزاهة والقضاء المستقل والإعلام الحر والرأي العام غير المحجور عليه والمتاح له نقد المسؤول العام والمطالبة بمحاسبته، بل وإسقاطه عبر صندوق الانتخابات أو إجباره على الإستقالة كما حدث قبل أيام مع وزيرة الداخلية البريطانية التي قدمت استقالتها بعد اتهامها بتقديم معلومات مضللة للبرلمان (ما يعني اعترافها بالخطأ، واعتذارها عنه حتى لو كان دون قصد كما قالت في خطاب استقالتها)، وغادرت منصبها المرموق لتواجه المساءلة القانونية – إذا سيقت إليها – بوجهٍ مكشوفٍ عنه قناع السلطة.
لم يبتعد الفقيه القانوني مونتيسكيو عن الحقيقة حين قال: “السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة” .. والمقولة المنطقية الشهيرة “فاقد الشيء لا يعطيه” تنطبق تماماً على شعار “الحرب على الفساد” الذي ترفعه أنظمة الحكم المطلق على أسنة الرِّماح، لأن هذه الأنظمة – وإن كانت تمتلك الرِّماح ومختلف أسلحة الإبادة العضوية – تفتقر للأسلحة الأساسية اللازمة لمحاربة الفساد مثل الشفافية والنزاهة وثقافة المساءلة والمحاسبة .. ولذلك فإن الشعار المذكور الذي يتم إستدعاؤه كلما فاحت روائح الفساد وزكمت الأنوف لا يتعدى الإستهلاك الإعلامي ومحاولة امتصاص الغضب العام، وذلك بالحديث عن حالات فساد محدودة لإيهام الناس بأن ظِلَّ العصا هو العصا ذاتها، بينما لا توجد إرادة جادة لإزالة الأسباب التي جعلت من الفساد مؤسسة راسخة.
*صحيفة “أخبار الوطن” – 6 مايو 2018
تمت مصادرة العدد بواسطة جهاز الأمن