التجمع الوطنى الديمقراطى.. من دقّ الاسفين الاخير فى نعشه

بسم الله الرحمن الرحيم
التجمع الوطنى الديمقراطى.. من دقّ الاسفين الاخير فى نعشه
بقلم/ إحسان عبد العزيز
 تكون التجمع الوطنى الديمقراطى بعد إنقلاب مايو 1989م بسجن كوبر من قيادات وزعامات الأحزاب السياسية والنقابية التى تم إعتقالها وعلى رأسهم مولانا محمد عثمان الميرغنى، الصادق المهدى، محمدابراهيم نقد، وكان ذلك امتداداً لـــ “تجمع القوى الوطنية” الذى تكون من الاحزاب والفعاليات السياسية بجانب الاتحادات النقابية مع بدايات إنتفاضة مارس أبريل 1985م ضد النظام المايوى و طرح ميثاقه قبل ان يعلن الجيش انحيازه لثورة الشعب، جاء التجمع الوطنى إمتداداً لذلك ومكوناً من ذات القوى السياسية والوطنية بالاضافة الى القيادات العسكرية التى تمت إحالتها من الجيش السودانى وكونت ماعرف بــ “القيادة الشرعية” بقيادة الشهيد فتحى أحمد على والفريق عبد الرحمن سعيد وكذلك “الحركة الشعبية لتحرير السودان” و”مؤتمر البجا” وبعض الاحزاب التى تكونت بعد 1990 حيث انضمت الى التجمع الوطنى بعد انتقال قياداته الى الخارج وعقده للمؤتمر الاول بالعاصمة الإريترية أسمرا فى مايو/ 1995م وهو ما عرف بـــ”مؤتمر القضايا المصيرية” ومنها “التحالف الوطنى _ قوات التحالف السودانية” بقيادة عبد العزيز خالد و د.تيسيير محمد احمد، “التحالف الفدرالى السودانى” بقيادة ابراهيم دريج و د.شريف حرير، الاسود الحرة بقيادة د.مبروك مبارك سليم (انضم الى التجمع فى العام 1999)، ) ثم كانت “حركة تحرير السودان” اخر المضمين الى التجمع الوطنى وذلك فى العام 2004 ) فكان عبد الواحد النور يمثل الحركة في هيئة قيادة التجمع الوطني بإعتباره رئيساً لها ويمثلها في المكتب التنفيذي منى اركومناوي بإعتباره أمينها العام في ذلك الوقت أى قبل انشقاقهما.
أما المؤتمر الثانى والاخير للتجمع الوطنى عقد فى سبتمبر 2000م بمدينة مصوع بدولة اريتريا بعد خروج حزب الامة من التجمع.
عندما نتحدث عن التجمع الوطنى الديمقراطى او نحاول نفض الغبار عن سيرته الذاتية نعنى فى قرارة النفس إضاءةً حمراء حول أهمية تلك التجربة وضرورة فتح صفحة لذلك التاريخ والتوثيق له كاكبر تجمع للمعارضة على مر مراحل الحركة الوطنية فى التاريخ الحديث للدولة السودانية، وكاول تحالف جمع بين الاحزاب والفعاليات السياسية فى القطر من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب وتوحد فيه الشعب السودانى من كل الجهات وبمختلف الاثنيات والديانات،  فتوافقت فيه القوى السياسية على الحد الادنى من المبادئ لتقتلع النظام من الجزور وتبنى سوداناً جديداً يسع الجميع بلا تمييز، واستطاع التجمع  الوطنى ان يسجل على صفحات التاريخ قصة نضال قدمت فيها ارواح الشباب ودمائهم غرابيناً لحرية الوطن ووحدته..
لذا نرى من الاهمية بمكان فتح ذلك الملف وحث الاخرين ممن كانوا فى مواقع صنع القرار على التوثيق له وكتابة تاريخه، فذلك التاريخ هو ملك للشعب السودانى الذى قدم أبنائه للمشاركة فى تلك التجربة على المستويين السياسى والعسكرى، فعندما فتحت الجبهة الشرقية كجبهة للنضال المسلح ذهب اليها الشباب من كل فج وصوب ومنهم من استشهد ومنهم من جرح ومنهم من ضحى باسرته ايماناً منه بالحرية والديمقراطية والعدالة ووحدة الوطن، فالتجربة هى ملك لهذا الشعب.. ومن قاموا نيابةً عنه بقيادتها ماهم الا مكلفين منه عبر أحزابه وفعالياته السياسية للقيام بهذا الدور تكليفاً لا تشريفاً، ولهذه الاسباب كان لزاماً على هذه القيادات ارجاع ذلك الحق لاهله تاريخاً موثقاً يحكى بصدق تفاصيل التجربة وايداعها فى صفحة من صفحات التاريخ..
ولكن ما حدث……
إستأثر البعض على ذلك التاريخ وعلى تلك الوثائق، وسكت البعض عن رفض ذلك الاستئثار، ورفضه البعض ولكن بصوت خافت وضعيف ولا يرقى الى مستوى المسئولية التاريخية عن تلك التجربة العظيمة..
نعم.. طمس تاريخ التجمع الوطنى الديمقراطى وإخفاء وثائقه او إهمالها وتركها عرضة للتلف والضياع  تعتبر جريمة فى حق الوطن والشعب السودانى..
ولاثارة هذه القضية لابد من العودة الى بدايات التجربة وعبر سنواتها التى زادت عن الــ 15 عاماً (اكتوبر1989_ 2005) وما رافقها من بعض السياسات التنظيمية التى القت بظلالها سلباً على مسيرة التجمع وعلى رأسها هيكلة التجمع وسيطرة القوى التقليدية على صنع القرار فيه بل بالتفرد فى اتخاذ القرار فى أغلب الاحيان، كلها أشياء عجلت بنهاية التجمع وبتحويله الى أطلال دون ان يحقق أهدافه بعد عودته الى الداخل بمشاركة ضعيفة فى كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية فى عام2005م  بمقتضى (اتفاقية القاهرة) التى تحولت فى فترة وجيزة من (إتفاق) الى (افتراق) ودقّ الاسفين الاخير على نعش التجمع الوطنى الديمقراطى، وبدلاً عن تحويله الى كيان دائم ومتطور لمواكبة التغيرات التى تحدث فى الساحة السياسة ومواجهتها كقوى متحالفة ذهبت ذات القوى المكونة له للبحث عن بدائل تعيد تضامنها فكانت (تقدم)، (تحالف جوبا) ثم (قوى الاجماع الوطنى) وغيرها من المسميات التى طرحت كبديل يعيد سيرة التجمع الوطنى او يكرر التجربة فى ثوب جديد..
تعود هذه النهاية الى ذات المسببات التى لازمت التجمع الوطنى منذ تكوينه، حيث هيمنت القوى التقليدية ممثلة فى الحزب الاتحادى الديمقراطى على مقاليد الامور فى التجمع الوطنى بشكل يوضح إختلال موازين الديمقراطية داخله ، وتفرد رئيسه مولانا الميرغنى باتخاذ العديد من القرارات المصيرية فى غياب المؤسسية والديمقراطية التى طرحت كشعار أجوف، واستخدمت كثير من المصطلحات التي إبتدعها التجمع الوطنى وأدخلها على قاموس السياسة السودانية من “تراضٍ، موازنات سياسية ، إتفاق، وفاق…الخ” سخرت جميعها لترضية الإتحادي الديمقراطي خاصة بعد خروج حزب الأمة منافسه التقليدي وشريكه في خارطة السودان القديم. ولتأكيد ذلك نصطحب هنا بعد المراجع والوثائق التى تؤكد ما ذهبنا اليه كنماذج على سبيل المثال لا الحصر..
 استشهد الاستاذ فتحى الضو فى سفره التاريخى (السودان.. سقوط الاقنعة) بتوثيق شخصى للراحل التجانى الطيب عضو هيئة قيادة التجمع الوطنى انذاك  فيما يختص ببدايات التجمع الوطنى وإختيار اسم له حيث تحدث فيه عن إصرار الميرغني على تسمية الكيان المعارض بالتجمع الوطني، رغم إعتراضهم على التسمية لمبررات ذكرها في ذلك التوثيق- إلى أن قال “حاولنا إثناء الميرغني بإعتبار إن التسمية المذكورة تحد من لوازمنا السياسية وتعني مدلولاً معيناً ظللنا نردده من العام 1956م، علاوة على إننا لم نرتح أصلاً للتسمية، لأنها في ذلك الوقت لا تنطبق على التجربة الجديدة التي كنا بصددها وأمام محاولاتنا تلك إزداد إصرار الميرغني فوافقنا” السودان.. سقوط الأقنعة- ص88 _ وإستمر الأمر كذلك..
وكمثال على تفرد الميرغنى بالقرار ما حدث فى توقيع مولانا الميرغنى على (اتفاق جدة) مع الحكومة السودانية ممثلة فى (على عثمان طه) النائب الاول انذاك، حيث وقع الميرغنى الاتفاق دون علم اى من الاحزاب الحليفة وقياداتها.. وفى ذلك كتب (المجلس العام الاتحادات النقابية السودانية بالخارج) مذكرة ضافية محتجاً على تفرد رئيس التجمع الوطنى بقرار التوقيع على اتفاق مع النظام بمعزل عن القوى السياسية الاخرى بالتجمع الوطنى بما فيها النقابات جاء فيها:
(( فى 4 ديسمبر 2003م تم التوقيع على اتفاق اطارى بين السيد محمد عثمان الميرغنى بصفته رئيسا للتجمع الوطنى الديمقراطى والسيد/على عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية .
حقيقة كان مفاجاة لنا فى الحركة النقابية. وكافراد سمعنا به سمعا وبيننا من قرأه على صفحات الجرائد اوشاهده عبر القنوات الفضائية اما ممثلنا فى هيئة القيادة فلم يستشار وفوجئ بالمثل ولم يتم الاتصال به حتى ولو بعد التوقيع وانتشار الخبر ليتم تنويره بظروف وملابسات  مثل هذا الاتفاق اذ لم نجد من مندوبنا اجابة لاسئلتنا فضلاً عن هيئة قيادة التجمع الوطنى الديمقراطى والذى تم التوقيع باسمها لم تدعى لاجتماع لتناقش هذا الاتفاق قبل التوقيع عليه واعتماده ولم يتم تنويرها حسب علمنا والتنوير نفسه ان تم هو ليس بكاف فى اتفاق تمس بنوده عمل التجمع ومبادئه وثوابته منذ ميلاده وحتى الان. وعليه كنا ومازلنا نرى ضرورة لقاء هيئة القيادة لمناقشة الامر وكيفية الخروج منه باحسن النتائج .)) (المصدر: مذكرة (المجلس العام الاتحادات النقابية السودانية بالخارج صفحة 3) نقلاً عن كتاب “نساء فى مرمى البندقية _ صفحة 411)
وإستمرت هيمنة الحزب الإتحادي على التجمع حتى نهاياته وتصدعه.. وربما كانت هذه الهيمنة من أهم أسباب هذا التصدع، فما حدث في الإجتماعات الأخيرة للتجمع بالعاصمة المصرية والتي قادت لتوقيع إتفاقية القاهرة مع المؤتمر الوطني تؤكد ما ذهبنا إليه، حيث دخل التجمع الوطني للمفاوضات بوفد قوامه 99 عضواً 63 عضواً فيهم من الحزب الإتحادي الديمقراطي،  ولم تؤد تذمر الفصائل سراً وجهراً إلى تغيير ذلك الموقف ، وعندما أعلن تنظيم مؤتمر البجا والأسود الحرة إنسحابهما من المفاوضات في بداياتها كانت مفارقة التمثيل على قائمة المسببات، خاصة فيما يخص لجنة التفاوض في “قضية الشرق”، ففي التقرير الذي صاغه صلاح باركوين (له الرحمة) أحد القيادات البارزة في مؤتمر البجا رداً على المبادرة التي تقدم بها الراحل عبد الرحمن عبد الله القيادي بالحزب الشيوعي ومدير إذاعة التجمع الوطني الديمقراطي في أعقاب إنسحاب التنظيمين.
تحدث باركوين عن اللجنة قائلاً ” كونت اللجنة من 19 عضواً.. توزيعها كالآتي:
1- 14 عضواً من الإتحادي الديمقراطي
2- 3 أعضاء من مؤتمر البجا
3- عضوان من الأسود الحرة
علماً بأن عدد الوفد المفاوض 99 عضواً، منهم 63 عضواً من الحزب الإتحادي الديمقراطي، هذا بغير الإتحاديين أصحاب المواقع الوظيفية في التجمع الوطني.. وإشتركت بقية الفصائل في السته وثلاثين مقعداً المتبقية  وأشار باراكوين في تقريره إلى تلك الهيمنة قائلا ” إن الأخطاء الإدارية التي صاحبت هذا العمل منذ البداية وحتى نهاية الجولة الأولى يظهر جلياً” في إستئثار مجموعة من العناصر التابعة لتنظيم واحد فقط بالعمل حتى ولو جاء على حساب المصلحة العامة، وإن مبدأ الهيمنة والتسلط الذي يصر البعض على الإستمرار فيه سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة لا يدركها أولى الأمر حتى تقع وقوع الصاعقة وتؤدى إلى الفشل النهائي في كل شيء” المصدر: (  تقرير صلاح باراكوين- صفحة (3) – 17/11/2004م) نقلاً عن كتاب “نساء فى مرمى البندقية صفحة38”
ويبدو إن ما تنبأ به باراكوين كان على مرمى حجر، وما يجدر الإشارة إليه هو إن إتفاقية القاهرة وقعت في غياب معظم الفصائل المكونة للتجمع الوطني، فإنسحاب حزب الأمة بالرغم من أنه جاء مبكراً إلاَّ أنه يعتبر نقطة البداية في إنفراط العقد، أما الحركة الشعبية فبالرغم من وجود قائدها وزعيمها الراحل قرنق على قمة المفاوضات إلا أن الحركة لم تكن معنية بالإتفاق بقدر ما كان يعنيها إصطحاب حلفائها في العودة إلى الداخل وتنفيذ إتفاقية السلام أما بقية الفصائل فقد بدأ تساقطها مع شروع التجمع في إتفاقه مع النظام وفي غياب رؤية واضحة في حل قضايا الشرق ودارفور، فقد أعلنت الفصائل ذات الصلة المباشرة بقضية دارفور عدم مشاركتها في المفاوضات منذ أن طرحت القاهرة كمنبر للتفاوض وعلى رأس هذه الفصائل التحالف الفيدرالي بقيادة أحمد ابراهيم دريج ودكتور شريف حرير- وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور ومنى أركومناوي (قبل إنشقاقهما. أما قوات التحالف السودانية والتي كانت حينها قد إنشقت لجناحين وإكتملت حلقة التساقط بإنسحاب تنظيمي الأسود الحرة ومؤتمر البجا والتي كونت في ما بعد جبهة الشرق وتوصلت إلى منبر أسمرا الذي قاد إلى إتفاقية سلام الشرق في أكتوبر 2006م وهكذا ظلت القرارت والمواقف مرهونة بما يريده وما لا يريده رئيس التجمع الوطني دون ضوابط أو روابط. وظلت هيمنتهم كحزب ترمي بظلالها على مواقف وقرارات التجمع في العديد من القضايا المبدئية والمصيرية، ساعد على ذلك غياب النظم التي تحكم هذه القرارات والمواقف وتفسح للديمقراطية المجال لتقول كلمتها. فغياب المؤسسية داخل التجمع الوطني لعب دوراً كبيراً في أن يجعل من التراضي والموازنات وغيرها جسراً عبرت تحته مياهاً كثيرة جعلت من ديمقراطية التجمع الوطني شعاراً أجوفاً، وكلمة لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، وإنزوت مقاصد كثيرة ومُيّعت قضايا أكثر. تمثلت أخر تلك القرارات الفردية فى قرارين أحدهما يختص بوضع نهاية للتجمع الوطنى باسمرا عند زيارة (مولانا الميرغنى) الى اسمرا فى (مارس/2007م) قبل ان يبدأ منبر الشرق فى المفاوضات، حيث اطلق الميرغنى على التجمع رصاصة الرحمة فى ذلك الاجتماع الذى عقده مع ممثلى تلك الفصائل (ذات الصلة بقضيتى الشرق ودارفور) و قصد من ذلك اللقاء اعلان نهاية التجمع الوطنى باسمرا فكانت نهايتة المطلقة وليست باسمرا فحسب، حيث كان من الممكن إرجاء قرار إغلاق التجمع باسمرا بعد نهاية مفاوضات منبر الشرق على أقل تقدير باعتبار أسمرا كانت هى مقر مفاوضات منبر سلام الشرق، وثانى هذه القرارات عندما قرر التجمع الوطنى المشاركة فى السلطة التشريعية فقط دون التنفيذية وتجاوز الحزب الاتحادى القرار وشارك أعضائه فى السلطة التنفيذية دون سائر الفصائل الاخرى..
 وهكذا اسدل الستار على اكبر تجمع للمعارضة السودانية، علقت عليه امالاً عراض لتحقيق التغيير والتحول الديمقراطى والابقاء على السودان موحداً، ويظل السؤال واجب الاجابة.. من الذى دقّ الاسفين الاخير على نعش التجمع الوطنى!!!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *