الاقتصاد هل يهزم الحكومة وحده؟! /صلاح شعيب

الاقتصاد هل يهزم الحكومة وحده؟!
صلاح شعيب
تواجه البلاد – ضمن ما تواجه من معوقات متجذرة – وضعا اقتصاديا حرجا اختلف اقتصاديو النظام أنفسهم في درجات تصنيفه، وحيل معالجته، وذيول أسبابه. وإذا كانت هناك مدارس اقتصادية متباينة للتعامل مع الاقتصاد فإن إخواننا المسلمين تأرجحت محاولاتهم في تبني روشتات اقتصادية متضادة، وكذبها الواقع باضطراد. وتبع ذلك المسعي المهزوم ليس فقط التخلي عن فكرة الاقتصاد الاسلامي المبتسرة في تطبيقاتها، وإنما الى تبني روشتات، وموجهات، اقتصادية حرمت ما أحله الاسلام، وحللت ما حرمه. فسياسة التحرير التي اتبعها د. حمدي لم تعن محروما، او سائلا، تضررا من رفع الدعم. وبالتوازي خولت لتجار الحركة الاسلامية مسايسة أمر السوق حتى يتمكنوا ماليا، عبر رفع الأسعار، واحتكار تجارة الصادر، والوارد، فيما شكا برلمانيون، وبرلمانيات، من توجهات اقتصادية تجيز قروضا ربوية بامتياز.
إن مناقشة المشكل الاقتصادي، ووضع حلول وقتية له بمعزل عن معالجة أسباب كمون الظاهرة امر ممكن، ومتاح، ولكنه مكلف، وفوق طاقة المواطنين. وهذا ما فعلته حكومة المؤتمر الوطني بعد تضعضع حالتها الاقتصادية عقب فترة انفصال الجنوب. 

فهي حسبت، ثم قدرت، أنها ستنشط الموارد الإنتاجية عبر ما اصطلح عليها بالنفرة الزراعية التي قادها النائب السابق لرئيس الجمهورية. ولكن النفرة المهيضة الجناح لم تزد وتيرة الانتاج، أو عائداته، الا خبالا. والتفتت الحكومة الي الحل الأسهل عبر رفع جزئي عن دعم المحروقات، ولكن ذلك لم يحل المعضلة أيضاً، وتبع ذلك ضياع أرواح غالية لشبابنا الذي كنا نعده للمستقبل. ودبرت الحكومة أنها بالضغط علي كاهل المواطن المحاصر قمعيا بالرسوم، والضرائب، والجبايات، يمكنها أن تنقذ موازاناتها العامة في حال تبع ذلك التقليل فيالإنفاق الحكومي، أو تحديدا أوجه الصرف السيادي في زمن الاستقطاب السياسي، والجهوي المهدر للمال العام. ولكن ذلك الامر لم ينقذ الموقف كذلك.
ولما كان الاستثمار هدفا استراتيجيا قمينا بالإصابة جاب سماسرة الحكومة العالم لدر العملات الصعبة، وتطوير التصنيع، وتحسين الروافع الإنتاجية. ولكن كل زيارات د. مصطفي عثمان العواصم لم تحقق استجابة من الرساميل الخليجية، خصوصا. وإن نجح الوزير المتجول في جلب بعض المستثمرين فإنهم وجدوا قيوداً حكومية جعلتهم يحجمون عن ركوب الخطر في دولة لا تفتقر الى شئ مثل افتقارها الي الشفافية، إذ يخرج المختلسون لمليارات المال العام من السجن دون محاكمة، ويمرحون في الداخل، والخارج، عبر قانون التحلل. وبعض المستثمرين القليل دخل في استثمار لا ينتج لحاجة سوقنا، أو يطور منطقة، أو ينهي بطالة. كل هذه الحلول الإسعافية التي احتواها البرنامج الثلاثي اصطدمت بصخرة الإنفاق الحكومي الفاسد أصلا، ومراكز الفساد الأخري المتوطنة داخل بنية الدولة، مع الإخفاق الاداري في تقعيد هذه الحلول الاقتصادية المطروحة من الحزب الحاكم. وفي محاولة لترقيع المرقع أصلا أوكلت الحكومة لكوادر المؤتمر الوطني إدارة مشاريع خيرية لدعم الفقراء لامتصاص آثار الفشل الاقتصادي حتى يتوفر لهم ثمن للوجبة، والدواء، والكساء، وبعض الاحتياجات الأخرى إلا أن كل ذلك لم يحل المعضلة. فهذه المشاريع التي قيل إنها خصصت ليذهب ريعها إلى (الشهداء، والأرامل، واليتامي( امتدت إليها يد الفساد العليا. وتصادمت تصريحات المسؤولين عنها تدين بعضهم بعضا دون أن يقدم واحد للمحاكمة، فضلا عن ذلك فإن توابع هذه الخدمات الحكومية الخاصة بأصحاب (الدخل المحدود) لم توفر مستلزمات المعانيين من الفقراء سواء بحسابات الإسلام، أو التقديرات الدولية.
إننا اذا سلمنا جدلا أن التحايل علي الأثر السياسي السلبي، أو تجاوزه، بمزيد من إجراءات اقتصادية تقشفية تضر بالمواطن يمكن أن توفر لحكومة المؤتمر الوطني حلولا مؤقتة، فإن المشكلة الأخري التي جابهت هذا العزم لتسيير البلاد تعلقت بسوء مآب إدارة الأزمة، وجيوب الفساد المتنامية يوما اثر يوم، وما سمي التجنيب المالي. هذه العوامل الثلاثة تتعلق بأزمات عضوية في أصل تعامل الإسلاميين مع الشأن القومي، وعليه لم تكن لتتيح فرصا لنجاح سياسة المشرعين الاقتصاديين. فالحزب الحاكم يفتقر الى نظم ادارية شفافة تضبطه في ما يتعلق بتوظيف كوادره المهيأة، والمؤهلة، للشأن الاقتصادي. وكذلك يفتقر الى تراث محاسبي ناجز، يصحح مساره، ويعمق، الإحساس بالمسؤولية لدي عضويته القيادية. فضلا عن ذلك فإن وجود مراكز القوي داخل التنظيم ذات الطبيعة المتصارعة منذ حين يخلق بالضرورة نوعا من الفساد الاداري، والتخطيطي، والذي بدوره يقود الي الفساد في المعاملات التجارية. فوقا عن ذلك فإن تجذر دور (الاعتبارات التفضيلية) في التوظيف الحزبي، والحكومي، دائماً لا بد ان يسهم في إحلال المفسدين، وغير المؤهلين، في مواقع اقتصادية ضمن موازانات أسرية، وشللية، وقبلية، وجهوية.
وبصورة ما إن تركنا موضوع إمكانية نجاح خطط اقتصادية في ظل هذه التحديات، فإن الإنفاق الحكومي المترهل في العاصمة، والأقاليم، وخارجيا، يقضم اي ثمرة من ثمرات النجاح الاقتصادي المرتقب. وما أدلنا على ذلك أكثر من العائد من موارد النفظ التي دخلت جيوب عضوية الحزب، وأولئك الذين تم استقطابهم سياسيا من الشخصيات العامة. ولذلك يرى اقتصاديون أن الأزمة ليست في زيادة الواردات، أو تقليل الصرف الحكومي، أو تثبيت سعر الصرف، أو استجلاب رساميل مستثمرين، أو زيادة الضرائب، والرسوم، والجبايات، وإنما تكمن بالأساس في سبب عضوي يتعلق بعدم قدرة حزب سياسي أحادي على قيادة البلاد، وذلك في وقت تتعاظم فيه الحروبات، وتتصاعد المقاطعات الاقتصادية، وتهرب الأموال السودانية للخارج.
إن سر نجاح أي دولة في اقتصادها يكمن في طبيعة علاقاتها مع مكونها المحلي، والخارجي. وفي أوضاع مثل التي تواجه بلادنا، فإن الاقتصاد، والسياسة، يبقيان مثل تؤأم سياسي بلا انفصال. إذ لا يتقدم الاقتصاد قيد أنملة ما لم تقف الحروب المشتعلة، وما يصحبها من تجييشات حكومية، والتي تكلف الدولة ثلاث أرباع ميزانيتها بغير اهدار طاقاتها. هذا بخلاف الخراب الذي يمكن أن تلحقه الحرب بالقطاعات التقليدية المنتجة. وليس إيقاف الحرب وحدها العامل الأساس لحل الضوائق الاقتصادية التي لا يدفع ثمنها إلا المواطنون، وإنما هناك طائفة من المستحقات الوطنية، والتي على رأسها إنهاء دولة الحزب الواحد، وقيام نظام سياسي متوافق عليه. ذلك الذي يوفر قدرا من الديموقراطية، والمحاسبة لكل الذين أجرموا في حق الآخرين، وسرقوا أموال البلاد، على أن يتبع ذلك مشروع مارشال اقتصادي يغيث الشعب الذي يكاد يتضور جوعا.
ولا تكمن أهمية الديموقراطية في التداوال السلمي فحسب بين المكونات السياسية لصالح استقرار اقتصادي فحسب، وإنما أيضا في إمكانية توفرها على بدائل اقتصادية تنتجها خبرات وطنية هنا، وهناك. ويكون حظها وافرا من النقاش، عوضا من الاعتماد على خطط اقتصادية مفروضة بالقوة على المواطنين. والواقع أن هناك خبراء اقتصاديين من ابناء السودان الذين يتبوأون أرقى المناصب في الدول، والمؤسسات الدولية الاقتصادية، والتجارية، والإنمائية، واساتذة جامعات يديرون كليات اقتصاد في جامعات مرموقة، ومستشارين لشركات قطاع خاص إقليمية، ودولية. ولكن حظ هؤلاء هو التهميش ما دام أن طبيعة نظام الحزب الواحد تفرض دائما نوعية معينة من الخبراء، والمستشارين الاقتصاديين. ولعل توفر المناخ السياسي الديموقراطي هو الذي يتيح أيضا المنافسة الشريفة لكل الاقتصاديين من مدارس الاقتصاد المتمايزة لطرح هذه البدائل وتطبيقها، ومراجعة القوانين المرتبطة بحركة الاقتصاد، والتجارة، وإشراك الشعب في تخيير هذه السياسات، ودعمها.
واحد من اسباب ضمور الاستفادة من الموارد يتعلق بالمقاطعة الاقتصادية الدولية، والتي لم يدفع ثمنها الباهظ إلا المواطنون. فنخب السلطة دائما لديها القدرة للتكيف مع حركة السوق في مدها، وجزرها. بل إنها تمتلك من المداخيل المالية الملتوية التي تسد بها غائلة حاجتها المادية. والمخيف أنه مع إزدياد رقعة المقاطعة الإقليمية للدول المجاورة، والتي كانت تخفف أثر المقاطعة الدولية بعون النظام، تضيف الحكومة إلى نفسها أعباء مالية جديدة تمثلت في التوسع في ما سمته الحكم الفيدرالي، وعمدت إلى إنشاء ولايات جديدة يبتلع العاملون فيها غالب الميزانيات الموظفة للتنمية هناك. ولعل المقاطعة المبررة بسياسات النظام في محاولة لكبح جماح توظيفه الاعانات، والقروض الدولية، لزيادة رقعة الحرب دمرت البنيات التحتية للموارد التي كانت تعين الدولة. فالمشاريع الزراعية الانتاجية الحكومية، ومشاريع الخدمات المتمثلة في مؤسسات الدولة عانت من هذه المقاطعة المتزامنة مع سوء الإدارة. وكل هذا أدى بدوره إلى ازدياد العطالة، وهجرة الكفاءات المؤهلة في القطاع الخاص، وأولئك الذين ابعدوا من القطاع العام. وبرغم أن الحكومة حاولت في سني النفظ إقامة مشاريع انتاجية، وذلك بدخول القطاع العام منتجا، ومالكا لشركات متعددة الاوجه، إلا أنها تركزت في القطاع الحضري، وبالتالي هجر الناس المرتبطون بالانتاج التقليدي الريف ما أدى إلى تكدس المدن. وبعض منهم ضرب في الخلاء بحثا عن الذهب الذي هو الآخر لم ينقذ موارد البلاد الأخرى، والأدهى وأمر أن بيئة انتاجه غير الصحية أدت إلى إصابات بالأمراض المزمنة.
إن الاقتصاد الجيد لا يتعلق كذلك فقط بقدرة السياسة الداخلية، والخارجية، في تشجيع حركة الصادر، والوارد المستخدم في تفجير الطاقات الانتاجية، ولكن الإنسان من حيث استعداده للانتاج يأتي في صلب نجاح الخطط الاقتصادية. فنحن ندرك أن التنمية البشرية هي سبب نجاح اقتصاديات البلدان النامية، والمتقدمة من حولنا، وتأتي على رأس أولويات جهود الاقتصاديين الذين يضعون القوانين التي تعطي العامل جميع حقوقه، وتوفر له البيئة المناسبة للإنتاج. بل إن كل هذه السياسات الاقتصادية المتقدمة إنما تستهدف التنمية البشرية لغالب المواطنين حتى يبدع كل فرد في إطار عمله، وليس الأمر كما هو حادث في بلادنا اليوم. إذ أفقرت هذه السياسات غالب المواطنين لصالح إثراء طبقة حاكمة وجدت في التمكين وسيلة لاستدامة السلطة، وقهر الآخرين. وبنظرة عجلى لقائمة المصدرين، والمستوردين، من التجار فإننا نجد أن معظمهم ينتمي إلى الحزب الحاكم، ولهذا من الممكن أن يتفاخروا بإمكانية توفير عشرين مليارا خلال يومين للحزب من أجل خوض الانتخابات المقبلة. ولذلك مهما طبقت الحكومة من خطط اقتصادية فإن غياب التنمية البشرية غير المرئي للمشرعين الاقتصاديين لا ينتج إلا فشلا ذريعا للبرامج العشرية، والخمسية، وما دون. ولعل أكبر دليل على غياب هذه التنمية البشرية المظنونة هو سيل الهجرات المنهمر في كل اقطار الدنيا لأفضل كوادر البلاد التي كان يمكن أن ترقي عمل القطاعين العام الخاص.
لقد ارتبط الاقتصاد في دول العالم الثالث منذ قديم الزمان بالاقتصاد العالمي. وفي زمن التجارة المتعولمة، والتجارة التفضيلية التي ازاحت بعض التعرفة الجمركية صرنا جزء لا يتجزأ من رأس المال العالمي . ومع دخولنا سوق النفط فإننا نتأثر، شئنا أم أبينا، بارتفاع، وانخفاض سعره، وقد ألح الحكوميون الاقتصاديون على أن البلاد لن تتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة في مستهل عام 2008 بعد انهيار سوق الرهن العقاري. ولكن اتضح أن التقديرات الاقتصادية الحكومية كانت خاطئة مثلما فعلت في أمر تاثير انفصال الجنوب على الاقتصاد. وهذه التقديرات التي هي في الاساس “تخديرات” للذهن الشعبي أكثر من كونها حسابات اقتصادية مدروسة هي جزء أصيل من تفكير النخبة الحاكمة التي تستبين النصح دائما ضحى الغد. وهذا الضرب من التخليط الاقتصادي هو جزء أصيل من أصل تفكير النخبة التي تستهين بالأمور الضخام، وتحاول بالكذب، والمغالطات، والمكابرة عند التعامل مع مصائر المواطنين.
وهذا الضرب من التخطيط السياسي – الاقتصادي المفلس هو ما يحاول ترسيخ فكرة أن رفع الدعم لا يضر بالفقراء ما دام أن الاغنياء هم أكثرية المستفيدين منه. وغير أن مثل هذا الزعم يعمق شعورا سلبيا طبقيا مع القليلين الذين يملكون فإنه يجافي الواقع، فإن هذه الطبقة الغنية المدعاة، وهي شريحة ضئيلة، ستلجأ إلى تعويض كسبها التجاري في حال رفع الدعم إلى زيادة سعر مدخلاتها التجارية، والصناعية، ما ينعكس سلبا على المواطن. ولو صح أن هؤلاء الأغنياء والذين لا نتوافر على إحصائية مضبوطة لهم هم غالب المستفيدين طوال هذه الفترة من الدعم الحكومي فما الذي كان يحمل الحكومة على دعمهم على حساب الفقراء القلة المستفيدين. ولقد حاول اقتصاديو النظام المحاججة أيضا بأن ما تبقى من الدعم الحكومي الآن يذهب إلى صالح الأجانب المقيمين، وبعض الدول التي تهرب إليها السلع المنتجة. وهذا زعم غريب. فملايين السودانيين يتنعمون بدعم الدول التي هاجروا إليها، ووفروا للدولة قدرا من أموال الدعم التي كانت هي ملزمة بتوفيره لهم إن ظلوا داخل وطنهم. فضلا عن ذلك فإن هؤلاء المهاجرين أصبحوا داعمين بشكل مباشر للاقتصاد من خلال تحويلاتهم من البلدان التي يقيمون فيها، ولماذا لا تدعم الحكومة ضيوفها الذين حلوا عندها، سواء مستثمرين، أو عمال، أو خبرات أكاديمية؟!. أما كون أن المستفيدين الآخرين من الدعم هم مواطنو الدول التي تهرب إليها السلع، فتلك واحدة من اخفاقات الدولة التي تضع أمانة الحزب الاقتصادية محل مساءلة، وكذلك الأمن الاقتصادي الذي يمتص ملايين دافعي الضرائب والجبابيات!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *