الأستاذ سالم أحمد سالم : الدولة السودانية لم تولد حتى الان..آخر نموذج للدولة في السودان كان عند الدولة المسيحية

حوار الأستاذ سالم أحمد سالم لأجراس الحرية

كتب عن الازمة السودانية واودع المكتبة السودانية كتابه المعنون بأزمة الدولة السودانية . ينطلق من مبدأ ثابت يقول بأن إرساء الدولة في الحالة السودانية عملية لم تبدأ بعد وينتهي بعدم وجودها وعدم توفر شروط قيامها في الواقع السوداني بعد . يبدو “معاديا” لقوى السودان القديم بل ويقطع بان مجرد وجودها فيه إستمرار لأزمة السودان ، ولا يعتقد في ان لها (شيء) تقدمه للسودان. له الكثير من الاراء الخاصة عن الحالة السودانية ،حاولنا أن نراجعها معه في هذا الحوار .

حوار : مؤيد شريف

متى يمكن أن نتحدث عن دولة سودانية؟ وما هي أشراطها؟

أعتقد أن الدولة السودانية لم تولد حتى الان ، وآخر نموذج للدولة في السودان كان عند الدولة المسيحية ، وبعد ذلك التاريخ لم يشهد السودان اي تمظهر لدولة ، بمعنى أسس الدولة . هنالك حكومات حكمت السودان منذ ذلك التاريخ وقد تستمر بعضها لـ 20 أو 30 سنة أو أكثر من ذلك لكنها في النهاية لا تشكل دولة . وللدولة أسس محددة وبنى تحتية محددة ، بنى دستورية واخرى مؤسساتية وبنية فكرية وبنية برامجية تطرح بواسطة التكوينات او الاحزاب السياسية وكل هذه المعطيات تكون تراث شامل ومن هذا التراث او من لبناته تتكون اسس الدولة ، واذا لم تتكون هذه الاسس تظل تحكم السودان حكومات الي ما شاء الله تعقب بعضها بعضا دون ان نرى حرثا ونشهد حكومات تنسخ حكومة او حكومات تستنسح حكومة لكن لا توجد الي هذه اللحظة اسس دولة في السودان . فقط توجد لدينا حكومات …

كيف تقرأ تاريخ او ادوار المؤسسة العسكرية في التاريخ السياسي السوداني ؟

بالطبع الحكومات العسكرية التي مرت علي تاريخ السودان هي جزء من التجربة السياسية السودانية والتي يمكن ان نسميها بالمنحرفة . ودخول العسكريين لحرم السلطة في السودان هو نوع من الانحراف السياسي وفعل الانقلاب العسكري هو فعل تسبقه عادة مؤثرات معينة وهو نتاج لهذه المؤثرات وهذه المؤثرات تعاد لعدم وجود دولة وعدم وجود مؤسسات للدولة في السودان . فقط توجد حكومات تتصارع . ففي الانقلاب الاول كان صراعا سياسيا تولد عنه انقلاب عسكري هو انقلاب الفريقي ابراهيم عبود وكان تجدسيدا كاملا لحسم الصراع السياسي عبر المؤسسة العسكرية ، وانقلاب مايو هو رد فعل للانقلاب البرلماني والذي انتهى الي طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان وحل الحزب ، ومثلت هذه الحادثة انقلابا لا يقل دموية عن الانقلاب العسكري ودمويته في انه هد السياق الديمقراطي في السودان وكان طبيعيا ان ينتج مثل هكذا وضع احتقانا سياسيا والاحتقان السياسي ليس مجيرا لصالح الحزب الشيوعي وليس تجمعا حول الحزب الشيوعي أنما كان وقوفا خلف فكرة الديمقراطية نفسها والديمقراطية كفكرة هي نفسها متأصلة في المجتمعات السودانية والمجتمعات السودانية شعرت بان هناك خروج سفيه عن السياق الديمقراطي لذلك حدث الاحتقان سواء كان بطرد الحزب الشيوعي او حتى حزب الامة او الاتحاديين كنا سنصل لذات النتيجة . الرجوع للانقلاب العسكري كان ردة فعل او متنفس لاحتقان اجتماعي كبير في السودان . ثم يجيء الانقلاب العسكري الثالث او ما يسمى بانقلاب الانقاذ علي نفس السياق المتمثل في عدم وجود مؤسسة للدولة واصبح البرلمان مجموعة متحكمة في كل ما يتعلق بالسودان وداخل هذا العدد المحدود توجد زعامات تفرض ما تريد سواء كانت زعامات طائفية او حزبية او عقائدية .. ارتطم الصراع بنهاية النفق وبدا سباق اصحاب العمائم نحو ثكنات الجيوش لحسم الصراع الدائر في البرلمان ومثلت مذكرة العسكريين دخولا مباشرا للجيش في اربطة الحكم في البلاد ثم اقتنصت قيادات الطائفيين في الجيش المذكرة ليبعدوا الضباط الذين قدموا المذكرة وهنا كان فصيل الجبهة الاسلامية هو المستفيد الاوحد من كل هذه التحولات وحسم الصراع لصالح مجموعته وهو نوع دائما ما ينتهي – اي الصراع علي الجيش من قبل الاحزاب السياسية – باستقطاب الضباط وتحريضهم للاستيلاء علي السلطة كما هو حادث الان . لكن لا اعتقد الجيش كمؤسسة عسكرية وانا هنا اعين المؤسسة التاريخية بتراثها ولا اتحدث عن الحالية هي بذاتها طامعة لان تكون حاكمة في السودان كما هي الحالة في عدد من البلدان الاخرى انما يدفع دفعا لارتكاب معصية الانقلاب العسكري .

كيف نميز الفروق في جوهر المؤسسة العسكرية ما قبل الثلاثين من يونيو 1998م وما بعدها ؟

ما حصل واضح ، كنت اقول ومازلت اردد بان ولاء اي عسكري هو في الاول لمؤسسته العسكرية ولرتبته العسكرية واتربيته العسكرية . هذا من حيث المبدأ . ومهما كان الولاء السياسي مؤثرا عند العسكري يظل الولاء العسكري عندهم مقدما حسب تقديري وحسب كثير من التجارب في السودان وخارج السودان . الانقلاب الاخير او حكومة الانقاذ حاولت الالتفاف علي هذه الحقيقة بتغيير وتبديل وجه وصبغة الجيش بفصل اعداد كبيرة من الكفاءات العسكرية واحلال مكانهم باصحاب الولاء السياسي للحزب السياسي في الجبهة الاسلامية . ومن الطريف انهم قاموا باجراء تبديلات وتعديلات اساسية في المؤسسة العسمرية ورغما عن ذلك ظلت ذات المؤسسة مصدرا للخطر حتى الان بدليل ان اخر محاولة لحركة العدل والمساواة للدخول الي الخرطوم شكل الجيش مصدر ازعاج كبير للحكومة . وعليه بالامكان ان نقطع بان دور الجيش قد تراجع كمؤسسة عسكرية منوط بها حماية البلاد ؛ والمعادلة الصعبة كانت في ان خروج الجيش لمجابهة قوات العدل والمساواة قد لا يعقبه رجوع ! وبمجرد خروجه يكون حاكما ومسيطرا وليس بالامكان ضمان عودته الي ثكناته . وفي نهاية المطاف اصبحت تتشكك هي نفسها في جيشها !. وحتى هذه الحكومة الان يرأسها رجل عسكري ومن رابع المستحيلات ان يرأسها مدني مهما بلغت درجة التزامه – دعنا نسميها بالفكرة السياسي – باعتبارها حكومة عسكرية يجب ان يرأسها رجل عسكري …

البعض يرى ان دور المؤسسة العسكرية في السياسة قد ضعف وربما تجمد علي نحو كامل . كيف نفهم هذه الوضعية الجديدة ؟

كما قدمت لك ، تجميد دور المؤسسة العسكرية هو نتاج لتشكك الحكومة نفسها في جيشها . تحييد الجيش او استخدامه في عمليات جراحية محددة اصبح هو سقف دور وواقع المؤسسة العسكرية . اما الجيش كمؤسسة عسكرية يظل ولاءه للجيش مهما حاولت ان تغير من ولاءه . واشتط في القول بان ولاء الجندي لمؤسسته العسكرية احيانا يسبق ولاءه او التزامه الديني …

تجنيب الجيش وتحييد مهامه كان ملازماً له صعود أدواراً لاجهزة أمنية وشرطية أصبحت مقاتلة بمعنى مقاتلة . كيف تقرأ المعادلة الطارئة والمتحدثة هذه ؟ فالسياق التاريخي كان اضطراب سياسي/ احتقان/ انسداد/ تدخل للجيش . الان جُنب الجيش في ظل إزدياد مظاهر وجواهر الاحتقانات السياسية ! فكيف سيكون المشهد ؟

ما يحدث الان من ازدياد لادوار لاجهزة الاحتياط المركزي او الاجهزة الامنية هو زراعة لمليشيات حكومية . وهي ليست طارئة في تاريخ الحركة السياسية في السودان ، فلحزب الامة تجربة في هذا المضمار وهو من اكبر الاحزاب التي كانت تتوفر علي مليشيات خارج المؤسسة العسكرية بل ومصادمة لها في كثير من الاحيان . الغلبة كانت دائما للمؤسسة العسكرية من واقع ما يتوفر لها من تنظيم وتسليح فضلا عن ان المليشيات كانت مسلحة بالانتماء الطائفي . في عهد نميري ايضا حاولت المليشيات الحزبية الدخول عبر ليبيا وكانت من حزب الامة والحركة الاسلامية وغيرهم .. والغلبة كانت للمؤسسة العسكرية ايضا . بالعودة لحكم نميري لنجد ان جهاز امنه ايضا كان مليشيويا يعمل علي حماية النظام في المقام الاول لذلك نجد ان في آخر عهده حدثت مواجهة بين المؤسسة العسكرية وأجهزة أمنه الخاصة والتي كانت تضطلع بدور وحيد : هو ضمان استمرار نظام مايو .. نتج عن المواجهة هذه هزيمة أجهزة أمن النظام وفشلها في ضمان استمرار النظام وانتصار المؤسسة العسكرية وسقط النظام بشكل كامل في نهاية المطاف .وكل تجمع ذو صفة عسكرية خرج عن المؤسسة العسكرية يظل مليشيويا مهما إجتهد أصحابه في إضفاء الشرعية عليه . والاجهزة الشرطية لديها أدوار ومهام شرطية معينة ومحددة تليها ولا يجوز أن تخرج عليها . كما وأن الأجهزة الامنية في كل العالم المتقدميقتصر دورها في الشق المعلوماتي كأن تجمع المعلومات وتحللها أكثر من أن تلعب أدوارا مليشيوية قتالية للدفاع عن وجود وإستمرار الحكومة .. المؤسسة العسكرية أيضا تفويضها واضح غير ملتبس : مناط بها الدفاع عن البلاد ، قتالاً ، وصون حدوده من الاعتداءات الخارجية وحماية الدستور .. المليشيات هذه في نهاية الأمر لابد من ان تلاق الفشل لامحالة ، من واقع صدامها الحتمي مع المؤسسة العسكرية الرسمية حتى وإن تلاقوا في نفس بنية النظام ، ففي أيام النميري كان الجيش حاكماً وكان مايويا بالكامل ، ورغما عن ذلك وجد نفسه في مواجهة مسلحة مع مليشيا جهاز أمن النميري – أسس هذا الجهاز الامني بالتعاون مع المخابرات المصرية – وكان الفشل من نصيب مليشيا أمن النظام . والثابت أن أجهزة المخابرات لا تستطيع أن تلعب ادوار المؤسسة العسكرية مهما أوتيت من قوة وسلاح : ففي عقل المجتمع وفي عقل الرأي العام وفي عقل المؤسسة العسكرية ذاتها هناك شيء راسخ أسمه القوات المسلحة ، لها أدوار واضحة ولها رؤى واضحة بصرف النظر عن محاولات استبدالها في أكثر من مرة أو بعد كل نظام جديد . في نهاية الامر ، وحتى في ظل نظام الانقاذ الحالي ، سوف يصطدم الجيش بالجهاز الأمني في السودان لأن أجهزة الامن جردت القوات المسلحة من أدوارها الطبيعية وتمنعت عن لعب أدوارها الأساسية في جمع المعلومات وتحليلها .

نسمع عن إنقاذ أولى وثانية وأخيرة ثالثة . فهل تغير في الجماعة الحاكمة شيء أم لازالوا هم هم بعقلية إنقلاب 1998م ؟

بصراحة التحولات التي تحدث في كل أنظمة الحكم الشمولية هي من الطبيعيات أو من الظواهر التي يمكن فهمها . ولاحظ معي أن إنقلاب مايو بدأ شيوعيا ثم إنتهى الي أقصى اليمين في الجبهة الاسلامية ، وهذا أمر ، في تقديري ، طبيعي . ومصر عرفت حالة من التحولات شبيهة بالتي وصفت . ووضحت هذه الحالة في عهد السادات حيث بدأ حاملا وحاميا لبيرق الناصرية لينتهي الي الحركة الاسلامية ، وانتهى أيضا الي أشياء كثيرة وتحولات عديدة . وطبيعة الانظمة الشمولية أنها لا تستطيع أن تستبطن فكرة واحدة . وتحولات الأوضاع تفرض عليها تحولات في تفكيرها وطرائقها ومناهجها وحتى في شخوصها . ونقرأ هذه الحالة الاخيرة أكثر وضوحا من خلال نظام الانقاذ الحالي : فمن الغرائب فيه أنه لازال متمسكا بافراده أو شخوصه ومجلس وزراءهم الاول يكاد يكون هو هو الحالي . ولكن هذه الناس خلعت عباءات عدة ولبست أخرى . وما يميز تحولات مايو عن تحولات الانقاذ هي إتفاقات نيفاشا . صحيح أن مايو أحدثت إتفاق أديس أبابا . وكانت محاولة الخروج علي اتفاقات اديس ابابا بداية الانهيار لحكم مايو . إتفاقات أديس أبابا كانت لها إشتراطاتها ، وليس في إمكانك أن تحتفظ بصفتك كشمولي وتتفق في ذات الوقت علي إتفاقات تُقر أوضاعا جديدة ومغايرة . وفي مقال لي شبهت هذه الحالة بالجمع بين الأختين ، وهو أمر مستحيل : أعني أن تريد أن تكون شمولياً وفي ذات الوقت تبرم إتفاقات تضمن فيها حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية لفئة اجتماعية أخرى من نفس البلد . جاءت نيفاشا لتضع حكومة الانقاذ في نفس الحالة التي مر بها حكم النميري بعد اتفاقات أديس أبابا ؛ فاديس ابابا قضت بتحول ديمقراطي وحكم ذاتي للجنوب في نظام فيدرالي من المفترض أن يطبق في كل أجزاء السودان ، كما وقضت بضرورة تفكيكالمركزية في الحكومة ولا أقول الدولة لأنها – كما قدمت – لا توجد بعد . وليس في امكانك أن تقبل علي الورق بتفكيك المركزية الحكومية وتريد أن تستمر في ممارسة الشمولية والاقصاء والاستفراد بالامر ! . هذا هو الإختلاف وهذه هي المرحلة التي وقفت وتقف عندها حكومة الانقاذ اليوم . فهي في مختلف طرق : إما أن تسير في طريق التحول الديمقراطي وما أقرته اتفاقات نيفاشا أو أن تمضي فيما هي فيه اليوم وتستمر في حكم البلاد شمولياً . أما عن أصل سؤالك فهذه التحولات في الأنظمة الشمولية أراها طبيعية والإنقاذ ليست إستثناء في ذلك.

كتبت عن أن الانتخابات القادمة ستمثل ما أسميته بالـ(إنقلاب الشعبي) . كيف ذلك ؟ وما هي سمات هذا الإنقلاب الشعبي ؟

الإنقلاب الشعبي – ببساطة – لأن الشعب السوداني خسر السلطة منذ 40 عاما ولايزال . ولم يستعيدها منذ آخر إنقلاب برلماني تعاقبت عليه كل الانقلابات العسكرية . تأت في هذه الأيام أجواء الانتخابات القادمة وهي تذهب في طريقين لا ثالث لهما : إما أن تجيء حرة ونزيهة وهذا الطريق يقتضي أن تكون هنالك مرحلة تحول ديمقراطي تسبق الانتخابات ولا تات بعدها . وكما أقول دائما في قالب السخرية : لا يمكن أن نطلب من الدارس أن يمتحن أولاً ثم يذهب من بعد ذلك ليذاكر دروسه! فالمذاكرة تسبق الامتحانات عادة والتحول الديمقراطي يجب أن يسبق الانتخابات إن أُريد لها أن تكون نزيهة شفافة . أما في حال ذهب الشعب السوداني الي الانتخابات بأجواء اليوم وفي ظل هذه الوضعية السياسية الحالية ، وهذا ما تريده الحكومة والأحزاب الطائفية ، سيكون الفوز للحكومة وللاحزاب الطائفية بسبب أن المنافسة ستكون محصورة بين أطراف شمولية ولم تسبقها الفترة التهيئية المهمة للتحول الديمقراطي وعندها فقط سيجد الشعب السوداني أن سلطته قد نزعت منه مرة أخرى بالانتخابات !، وسيجد نفسه أيضا مضطراً لإستعادة سلطته طالما خسرها بالبرلمان وخسرها بالانتخابات وخسرها أيضا عن طريق توظيف الجيش ! ، وتظل السلطة طريدة للشعب حتى يستعيدها من نازعيها لأنها حقه وملكه ، وسيستعيدها بهذه الطريقة في حال لم توفر الانتخابات القادمة الفرصة له لاستعادتها بالطرق الناعمة . وهذه وضعية الانقلاب الشعبي الذي عنيته في مقالتي…

لماذا فقدت المعارضات القدرة علي الإتصال والتأثير في الشارع العام علي الرغم من أن الشارع العام معاض بطبعه وطبيعة المرحلة وساخط من واقع التراجع العام في اوجه الحياة ؟

لأن المعارضات – قولاً واحدا – ما عادت تمثل الرأي الغالب في الشارع العام السوداني . وإذا أردت أن تقرأ الرأي الغالب في الشارع العام السوداني تجده مكتوب بالبونت العريض في يوم أن عاد جون قرنق الي الخرطوم وخرج الناس لاستقباله في ذلك الاستقبال الكبير الذي لم يحدث له مثيل في تاريخ السياسة السودانية . كان خروجا طبيعيا انفعاليا أكد تماما أن غالبية الشعب السوداني لا تنتمي لأي من الاحزاب التقليدية السياسية الموجودة . المعارضات لم تعد تمثل أي وجود معتبر في المجتمعات السودانية ، لذلك كتبت أن السلطة ستكون مقتصرة علي الاحزاب التقليدية الموجودة . الشعب السوداني يظل دوما خارج هذه اللعبة . والمعارضة فشلت في ان تكون معارضات جادة ومؤثرة لانها فشلت بداية ان تكون احزابا سياسية لها طابع المؤسسة المهم وليس ان تكون طائعة لقائد أو زعيم منفرد . أنظر الي الميرغني او الصادق تجدهم يقودون الناس بذواتهم وليس باحزابهم أو ببرامجهم ولم تعد تتوافر لهم مراكز الاشعاع والجذب الاولى إلا من خلال ما تبقى من شعاع خافت لولاء طائفي . ويحاولون الان اكساب هذا الولاء الطائفي دورا سياسيا وهذه مسالة مستحيلة . بسبب كل ما تقدم ليس في امكاننا التحدث عن معارضات جادة اليوم وهو سبب غطمئنان الحكومة لكسب الانتخابات وستكسبها بما لا يقل عن 70% اذا كانت ستصارع الأمة والاتحاد الديمقراطي باشكالهم الحالية .

لماذا تقاوم الجماعة الحاكمة التغيير والإنتقال الي حالة أفضل من الحقوق والحريات ؟ حتى ان بعضهم لا يرى علاقة بين قانون الصحافة والانتخابات !

كما قدمت لك : لا يمكن ان تات انتخابات حرة ونزيهة وشفافة من دون تحول ديمقراطي يسبق الانتخابات نفسها . من يقول بعدم وجود علاقة بين الانتخابات وقانون الصحافة هو الذي يعتقد بان التحول الديمقراطي يعني تفكيك حكومة الانقاذ . ولكن ومن خلال وجودي هنا وحواراتي مع أطراف حكومية في عمق عملية اتخاذ القرار وليست طرفية ، وجدت أن لديهم توجه معقول باطلاق نسبة للحريات ويؤمنوا بمبدأ التحول الديمقراطي ولو جاء جزئيا قبل الانتخابات . اللحظة لنا محاولة مستميتة معهم تهدف للخروج بقانون صحافة يحررها بدلا من أن يقيدها . والمشروع الذي تقدموا به يقيدها علي نحو واضح .
يجب ان يفهموا ان التحول الديمقراطي لا يعني تفكيك النظام . بل يعني قبول الاحتكام الي رأي الغالبية بالانتخابات ورأي الاغلبية محكوم قبل الانتخابات بحراك ديمقراطي حر في البلاد جميعها . في حال قبول الحكومة بهذا المبدأ لا ضير من ان تستمر تحكم ، وليس هناك ما يمنع ، فقط عليها ان تقبل بهذا المبدأ الداعي للحريات والمشاركة الاجتماعية والحرية الكاملة في الاعلام والصحافة وحرية التفكير . هذا هو الوسط المطلوب وهذه هي البيئة المطلوبة بالحاح قبل الانتخابات .

فصلت في مقترح لك لمرحلة انتقالية . ما هي أهم سماتها وهل تلتقي في شيء ومقترح تجمع احزاب المعارضة للحكومة الانتقالية ؟

اذا افترضنا جدلاً قبولنا بمقترح ما تسمى بالمعارضة ، ولا أرى فيها معارضة ، غنما هي اطماع شخصية ، فالسؤال هو : ممن تتشكل هذه الحكومة المسماة وطنية؟ وهل ستتشكل من أحزاب الامة والاتحاد الديمقراطي والحركة الاسلامية بمؤتمرها الشعبي والوطني ؟ اذا كان هذا هو مبدا الحكومة الوطنية التي ينادون بها ، فلا فرق بينها والحكومة الحالية . وكل هذه المناورات لا تمس عمق المجتمعات السودانية ولا تلبي تطلعاتها في حكومة وطنية شاملة . فالامر عندي سيان بين حكومة وطنية ممثلة للطوائف او استمرار هذه الحكومة الحالية . حكومة التحول الديمقراطي يجب ان تكون مسنودة شعبياً وتتمثل فيها خيرة الخبرات الوطنية السياسية والاقتصادية السودانية المتوفرة وتكون خليط بين التكنوقراط (الخبراء) والسياسيين الاكثر انفتاحا والاكثر جدية وحرية وانفتاحا وقبولا للاخر . في هذه الحالة فقط يمكن ان تصح تسمية الحكومة الوطنية . أما أية حكومة اخرى بمواصفات الاحزاب وتفصيلاتها فهي بالتاكيد ليست حكومة وطنية .

هم يقولون ان استمرار النظام الحالي فيه استمرار وتفاقم للأزمات . ولا بد من معالجة ما تقطع توالد الازمات . وهم لا يروا قدرة لقطعها إلا من خلال تجنيب النظام أو قيل بحكومة انتقالية ؟

هذا صحيح . استمرار الحكومة الحالية بطرائقها في العمل وسياساتها المعروفة وأساليبها الحالية هو استمرار للازمة . السؤال : كيف نقطع استمرار الأزمة ؟ راي ان حكومة غير وطنية وغير شاملة وتمثل احزاب طائفية ليس الحل ولا يقطع تسلسل الازمة بل وستمثل مواصلة للازمة ولكن بوجوه جديدة . وجوه الترابي والميرغني والصادق ونقد . لاحظ ان هؤلاء وداخل احزابهم فشلوا في ان يكونوا ديمقراطيين فكيف سيشكلون نقطة قطع لازمة الحكم الشمولي ؟! . هم بين بين . وليست لهم مؤسسات حقيقية . انظر مثلا لانتخابات الحزب الشيوعي الاخيرة عادت بنفس الرعيل الاول وهو الذي ظل يحكم الحزب علي مدى 45 عاما . والصادق والميرغني والترابي ايضا . هؤلاء لا يقلون ديكتاتورية عن الحاكمين الحاليين …

الناس تقرا مأساة دارفور في سياقات عديدة . فكيف تفهمها وتقراها؟

هي حقا تداخلا وخليط بين أبعاد مختلفة ومتنوعة . منها الايكولوجي المناخي والمتصل بأزمة شح الموارد وعوامل اخرى عديدة . وهذه المأساة تصاعدت لسبب اساس هو فشل الحكومة في معالجة هذه الازمة حسب الطريقة الواجبة معالجتها بها . اخذت الحكومة قضية دارفور في معطى ضيق جدا هو معطى صراعها مع ما يسمى بالمؤتمر الشعبي والترابي وعلي الحاج وقالوا بأنهم سيعيدوها سيرتها الاولى! باعتبار ان ما حدث في دارفور ويحدث هو بسبب هذا الصراع الاسلامي الداخلي . وهذا لا يخلو من حقيقة لكن المعالجة كانت خاطئة . ولو عولجت ازمة دارفور علاجا حكيما حتى بواسطة هذه الحكومة لما تصاعدت هذه الازمة بهذه الطريقة والي هذه الدرجة . استطيع أن أقطع بأن قضية دارفور هي قضية التحول الديمقراطي في البلاد كلها . والمعادلة هي : كلما حكمت البلاد حكومة شمولية احترقت أطراف السودان في الغرب والشرق . وكلما كان هناك بصيص من حالة للديمقراطية تتراجع الحرائق في اطراف السودان . فالمواطن في الحالة الديمقراطية يكون له متنفسا من خلال الانتخابات واختيار من يمثله . وعندها لا يجد من يطلق عليه النار . فاذا اردت ان تصنع تمردا في وضع شمولي تستطيع ان تحدد بسهولة الهدف الذي ستطلق عليه النار . أما في حالة الوضع الديمقراطي فمن الصعب تحديد الهدف وعلي من يمكن ان يكون مبررا غطلاق الرصاص . لانني سأكون جزء من الحركة السياسية ولي ممثل رشحته ويدافع بدوره عن قضاياي في المؤسسات الاقليمية أو المركزية . قبل فترة كنت قد أشرت الي امر مهم في إبان حدوث تغول تشادي في غرب السودان وذهب وزير الداخلية وقتها الامير نقد الله وواجهوه الناس هناك وقالوا له : ” إنته جاي من الخرطوم عشان تنبل هوان دي” وتنبل باي كان جزء من حكومة تشاد !. الناس كانت في حالة دفاع عن تخوم البلاد ، ولم يكونوا في حالة هجوم علي السلطة في البلاد . وهذه هي المعادلة : إسترخاء وتوجه ايجابي في حالة الديمقراطيات وتمترس في حالة الشموليات . وفي كلمة اقول لك : التحول الديمقراطي هو كلمة السر في حل قضية دارفور …

ما الذي يمكن أن تجتمع عليه حركات دارفور وتلتقي عليه ؟ بخلاف ماساة اهلنا هناك .

أنا قلت في أكثر من مرة : لن تتوحد حركات ولو خرجت الشمس من المغرب . لانها أصبحت كيانات كل واحد منها قائم بذاته . ولا تستطيع أن تدمج كائنين حيين في جسد واحد . كل فصيل من فصائل دارفور اليوم يظل مستقلا عن الفصائل الاخرى . ولا توجد فكرة مشتركة او حتى هدف مشترك يمكن ان يجتمعوا عليه . قضية دارفور لا تمثل محور اساس لكل الحركات التي تحارب في دارفور ، فضلا عن ان استيعابهم للقضية يأت في محتوى اقليمي ضيق جدا في الوقت الذي يمكن أن أقطع فيه بأن قضية دارفور الأساسية هي جزء من قضايا السودان . ولا يمكن معالجة قضية دارفور بمعزل عن قضايا السودان . وعندما تحدثت الي الحركات في باريس واجهتهم بذلك واخذت عليهم هذا المعطى الاقليمي العرقي الضيق . وشددت علي ضرورة ان تحل قضية دارفور وتعالج في إطار قضايا السودان الكلية . الحق أنا وجدنا نوع من الاستجابة لهذا الطرح وبدا بعضهم يوسع من مفهومه لقضية دارفور ويخرج بها من المعطى الاقليمي الضيق وتوصلنا سوية في مرحلة لاحقة لمبادرة وتقدمنا بها لحكومة السودان عبر السفير عبد الحليم عبد المحمود وتناقشنا مطولا حولها ثم حدثت الدعوة لمؤتمر باريس ولكننا ووجهنا بالصمت من قبل الحكومة السودانية وهذا الموقف يظل عصي علي الفهم بالنسبة لي حتى اللحظة!.

ما رشح عن مؤتمر باريس يفيد بان عبد الواحد النور كان نجمه الاوحد واستطاع ان يعرض من خلاله رؤيته لجميع الوفود علي أعلى مستوياتها . فكيف تقيم دور عبد الواحد النور في مؤتمر باريس ؟

القراءة الصحيحة دعنا نقراها بالمقلوب : عبد الواحد النور جاءه مؤتمر باريس حيث هو . وجائته الوفود حيث هو . هو لم يخلق شيء في ملتقى باريس . وهو امر شبيه بان تكون وقوفا في محطة وتاتيك العربة حيث تقف . وعبد الواحد نفسه لا يمثل كل أوراق قضية دارفور . ولو ان الحكومة السودانية تواضعت قليلا ورضيت بان تتواجد في ملتقى باريس ربما كانت كثير من الامور ستتغير . إلا انها لم تكن ترى الامر علي نحو واضح . وأعتقد انها تعودت أن ترى الامور بعد فوات الاوان . وملتقى باريس يجب ان يمثل لها حسرة لانهم لم يشاركوا فيه ولم يحضروه ! . وفكرة ملتقى باريس في الأصل خرجت منا ومن منظمتنا الطوعية ووجهناها الي الحكومة الفرنسية كما وجهناها الي الحكومة السودانية والحركات أيضا . ابتسرتها الحكومة الفرنسية في ملتقى باريس وابتسرتها الحكومة السودانية في الدوحة ولكنهم جميعا تركوا بقية أجزاء الفكرة لذلك فشل ملتقى باريس ومؤتمر الدوحة سيفشل بالتاكيد ..

يُقال أن ملتقى باريس وبعد غياب او تغيب الحكومة السودانية والاتحاد الافريقي تحول لمنبر لتبادل اللوم للدول الكبرى فيما بينها ، وكل طرف يحمل مسؤولية مأساة المدنيين هناك للطرف الاخر . ورشح أيضا ان القرار الحاسم بنقل الملف برمته الي المحكمة الجنائية كان من داخل ملتقى باريس . فما مدى دقة أو صحة هذه التسريبات ؟

بالتاكيد في غياب الحكومة السودانية والاطراف الاخرى في الحركات وعندما تجلس هذه الدول تتناقش في محاور مختلفة وقد يكون حدث هذا التلاوم وبالتاكيد خرجوا باتفاق حول مسألة المحكمة الجنائية الدولية لانها كانت ورقة ضغط علي الحكومة والحركات ولكن بقدر اكبر علي الحكومة السودانية . ولو حدث وحضرت الحكومة السودانية الي الملتقى لربما حدث امر مختلف تماما . وانا أعزي ذلك الي فشل دبلوماسية الحكومة الحالية . وهذه الدبلوماسية ظلت مصدر فشل متواصل في كل ما يتعلق بادارة ازمات السودان . وفشلها يلعب دور لا يقل عن ثلث ما يواجه السودان من أزمات ..

كيف تقيم دور المجتمع الدولي وفرنسا علي وجه التحديد في المأساة الدارفورية ؟

المجتمع الدولي لديه صراعاته الاقتصادية . ولاحظ ان أميركا تكاد تكون أخرجت فرنسا من غرب افريقيا وآخر المواقع المعترك عليها اللحظة في تشاد . وهذا الصراع يجب ان يقرا في كل اجزاء القارة الأفريقية . إبتداء من الصراع علي مصادر النفط والغاز في الجزائر ودخول اميركا بقوة في المنافسة والتسابق من اجل الموارد والحا نفسه ينسحب علي ليبيا وتشاد والسودان وكل الاقطار الافريقية . ودخول الصين يمثل عاملا محفزا جديدا ومضافا للصراع . لكن حتى الدول الغربية لا يوجد اتفاق بينها علي علي إدارة الصراع ، كل طرف منهم يدير الصراع حسب مصالحه ، وهذا لا بد أن ينعكس علي قوى اقليمية تُستغل في هذا الصراع ولها أطماعها الخاصة كليبيا فيما يتعلق تحديدا بدارفور ومصادر المياه في السودان وتشاد . وليبيا لاعب ضمن أدوات القوى الدولية في هذه القضية من خلال دورها في الملف التشادي وحضورها في ملف دارفور. تفشل عادة هذه الحكومات الشمولية في تشاد والسودان في الوصول لحالة من التوازن بين مصالحها ومصالح شعوبها ومصالح القوى العظمى . ما يحدث هو ان هذه الحكومات تحاول ان توازن بين مصالحها هي كحكومات وبين المصالح الدولية . لذلك ينعدم التوازن . والملاحظ أن هذه الحكومات الشمولية تتمنع أولا وتخضع أخيرا بسبب أن مواقفها غير نابعة من إرادة القوى الاجتماعية .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *