إنهم لا يكذبون.. لكنهم يتجملون

محجوب محمد صالح

حدث ما توقعناه في مقال سابق من أن قرار مجلس الأمن الصادر تحت الفصل السابع من الميثاق والذي يهدد بفرض عقوبات على الطرفين تحت المادة (41) سيحتم عليهما –السودان وجنوب السودان– أن يسعيا إلى إحداث اختراق ولو في ملف واحد من الملفات العالقة حتى يتيح لمجلس الأمن أن يجد المبرر لتمديد فترة التفاوض، فقد حدث الاختراق مع نهاية الفترة التي حددها المجلس وهي اليوم الثاني من هذا الشهر، ولكن الاختراق لم يحدث في الملف الأمني الذي يمثل الأولوية لحكومة السودان بل حدث في ملف النفط الذي يمثل مطلبا أساسيا ليس للجنوب فحسب بل للولايات المتحدة أيضا لأنها تدرك أن نفط الجنوب هو شريان الحياة للدولة الوليدة التي ليس لها مصدر دخل سواه.

كلا الطرفين أبدى مرونة وقدم تنازلات تحت الضغط الدولي والإقليمي من مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي وأيضا بسبب الوضع الاقتصادي المتردي في كلا البلدين– وهي تنازلات كان يمكن أن يتوصل لها الطرفان قبل عام لو توافرت لهما الإرادة السياسية وليس فيها جديد، فقد كان المطلوب فقط انتهاج مسلك واقعي في تحديد رسوم معالجات ونقل البترول عبر الأراضي السودانية لمنافذ التصدير في البحر الأحمر استنادا لممارسات عديدة في دول أخرى بعيدا عن مبالغة الشمال التي حدد رسماً غير مسبوق واستهانة الجنوب التي جعلته يقدم عرضا لا يليق حتى بجدية التعامل التجاري.

مهما يكن من أمر فإن الضغوط الاقتصادية التي يعانيها الطرفان والضغوط السياسية التي مارسها الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن قد أحدثت هذا الاختراق الذي وجد ترحيبا عالميا وإقليميا وأعطى الفرصة لمجلس الأمن كي يمنح الطرفين مهلة زمنية إضافية– حتى العشرين من الشهر المقبل.

ولعل الكثيرين ما زالوا يعانون الدهشة لأن الأرقام المسربة عن رسوم عبور النفط في جوبا والخرطوم تختلف كثيرا عن بعضها البعض، فبينما تتحدث جوبا عن رسوم عبور في حدود التسعة إلى أحد عشر دولارا للبرميل الواحد تحدثت الصحف في الخرطوم عن خمسة وعشرين دولارا للبرميل– كلا الرقمين صحيح حسب قراءة المرء للاتفاق وكلاهما لا يكذب ولكنه يتجمل، فالاتفاق المالي يتكون من جزأين: جزء يحدد رسوم معالجة ونقل النفط والجزء الثاني يتحدث عن منحة مالية يقدمها الجنوب للشمال تعويضا عن فقدانه لعائدات النفط وهي تبلغ ثلاثة مليار ومائتين وخمسة وأربعين مليونا تسمى (ترتيبات مالية انتقالية) يتم سدادها على مدى ثلاث سنوات ونصف (العمر الافتراضي لهذه الاتفاقية)– الذي يجمع المنحة إلى الرسوم يتحدث عن خمسة وعشرين دولارا للبرميل والذي يستبعد المنحة عن حسابه يتحدث عن أحد عشر دولارا- كلاهما لا يكذب ولكنه يتجمل فالجنوب يريد أن يقول لمواطنيه إنه لم يقدم تنازلات تقترب من حد الستة وثلاثين دولارا التي كان الشمال قد حددها، والشمال يريد أن يرسل إشارة بأن الخمسة وعشرين دولارا التي تم الاتفاق عليها لا تبعد كثيرا عن الستة وثلاثين دولارا التي كان يطالب بها.

نتوقع أن يأتي الاتفاق في صورته الأخيرة شاملا وموسعا بحيث يتجاوز كل مشاكل الماضي ويتحسب لأي خلافات قد تنشأ في المستقبل ولكننا نرى أن العقبة التي تواجهه هي ما أعلنه السودان من أن هذا الاتفاق لن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد أن يحسم الملف الأمني، بينما تستعجل جوبا إعادة الضخ وتريد استئنافه في الشهر المقبل (سبتمبر) خاصة وهي تعلم أن الآبار لن تعمل بكل قدرتها فور استئناف الضخ، ويرى الخبراء أن الجنوب قد يحتاج إلى عام كامل ليصل إنتاجه إلى المستوى الذي كان عليه في يناير الماضي حينما صدر قرار إيقاف الضخ بل المتوقع أن يبدأ الإنتاج بأقل من نصف الإنتاج السابق ثم يواصل الزيادة تدريجيا حتى يصل المرحلة السابقة خلال عام.

لكن إذا أصر السودان على موقفه بعدم تنفيذ الاتفاق النفطي إلا بعد حسم الملف الأمني التي تعطيه الخرطوم الأسبقية المطلقة فإن استئناف الضخ يصبح مرهونا بقضايا أمنية بالغة التعقيد تشمل فيما تشمل الاتفاق على خريطة توفيقية ترسم على أساسها حدود المنطقة العازلة منزوعة السلاح حتى يتسنى الاتفاق على وقف العدائيات مع تشكيل لجان المراقبة المشتركة إضافة إلى حسم قضية المناطق الحدودية المتنازع عليها وستكون قضية ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق حاضرة في المفاوضات بطريق غير مباشر كما تدخل في الملف الأمني قضية أبيي بالغة التعقيد.

المفاوضات التي ستبدأ بنهاية هذا الشهر وحددت لها الوساطة قيدا زمنيا حتى العشرين من سبتمبر ستجد كل هذه الملفات على رأس أجندتها فهل يستطيع الطرفان أن يعالجا كافة هذه القضايا خلال شهر سبتمبر حتى يستأنف ضخ النفط في الموعد الذي أعلنه كبير مفاوضي الجنوب باقان أموم؟

يبدو أنه ضرب من المبالغة في التفاؤل أن يراهن طرف على ضخ النفط الشهر المقبل ما لم يتنازل السودان عن موقفه الحالي الذي يرفض بدء تنفيذ ضخ النفط إلى أن يحسم الملف الأمني– وربما تسعى الوساطة إلى تجزئة الملف الأمني بحيث يتركز فقط على قضية الخريطة التوفيقية وتحديد المنطقة العازلة وتوقيع اتفاق وقف العدائيات بكافة آلياته الرقابية –ويعتبر ذلك معالجة مهمة وإن كانت جزئية– للملف الأمني بحيث يجد الطرفان المبرر لاستئناف ضخ النفط.

العرب
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *