هذه ثاني مقالة من سلسلة من المقالات يعتمد جزء منها على روايات شهود عيان حول الأوضاع الإجتماعيّة والسياسيّة المتدهورة بشكل ٍ سريع في تركيا وما عسى أن يحمله المستقبل لهذا البلد.
كُتب الشيء الكثير عن الفساد المستوطن في تركيا الذي يشمل في الواقع جميع الطبقات الإجتماعيّة، بما في ذلك الإدارة السياسيّة والقضائيّة والحكومية والقطاع الخاصّ والمجتمع المدني والأعمال التجاريّة والجيش، والمغاير تماما ً لرؤية الرئيس أردوغان العظيمة لجعل تركيا لاعبا ً مهمّا ً على الساحة الدوليّة. فبعد تربّعه خمسة عشرة عاما ً في السلطة يرأس أردوغان الآن دولة مترسّخة بعمق في الفساد ونظريّات التآمر
والدسائس. إنّه يستخدم كلّ نفوذ له في السلطة لتغطية الفساد المنتشر الذي يستهلك البلد ويلقي بظلّه على التقدّم الإجتماعي والسياسي الجدير بالإحترام والنموّ الإقتصادي الذي حقّقه أردوغان خلال التسعة أعوام الأولى من توليه السلطة في تركيا.
ولتوطيد حكمه، قام أردوغان بترعيب خصومه السياسيين وإضعاف جيشه وإسكات الصحافة وإضعاف الجهاز القضائي، وقام في الآونة الأخيرة بالضغط على البرلمان لتعديل الدستور ومنحه سلطات مطلقة في الأساس.
تحتلّ تركيا الآن المركز الخامس والسبعين في الشفافيّة على مؤشر الشفافيّة للفساد الدولي، هابطة ً ستّ درجات منذ عام 2015، على قدم ٍ وساق مع بلغاريا والكويت وتونس. وترى 40 % من الأسر التركيّة بأن المسؤولين العموميين فاسدون.
الإقتصاد: بالنظر إلى انتشار الفساد تباطأ النموّ الإقتصادي في تركيا بدرجة ملحوظة. ففي السنوات الأولى من حكم أردوغان ارتفع النموّ الإقتصادي بنسبة 5 – 7 % لأنه جعل الإقتصاد من أهمّ أولويّاته، هذا في حين أنّه كان يركّز على الفقراء والأقلّ حظّاً في التحصيل العلمي والذين أصبحوا فيما بعد من أشدّ أنصاره.
عندما كان الإقتصاد العالمي قويّا ً، سجّلت تركيا نموّا ً اقتصاديا ً هامّا ً، غير أنّ التباطؤ الإقتصادي الحالي قد أظهر خطّ الصّدع في اقتصاد تركيا. فالبيروقراطيّة المتضخمة والفاسدة جعلت من الصّعب للغاية منح تراخيص للتنمية، الأمر الذي جعل أيضا ً من الصعب على المستثمرين الأجانب والمحليين أكثر من أيّ وقت ٍ مضى أن يسرعوا في تقدّم الإقتصاد بدون رشو المسؤولين الحكوميين.
وخلال التحقيق في قضايا فساد في عام 2013 تمّ اكتشاف 17.5 مليون دولار أمريكي في بيوت عدّة مسؤولين، بما في ذلك مدير مصرف هالك المملوك للدولة. هذا وقد تمّ في يوم ٍ واحد احتجاز إثنين وخمسين شخصا ً لهم علاقة بحزب العدالة والتنمية الحاكم، ولكن أطلق سراحهم بعد ذلك “لعدم كفاية الأدلّة”.
وبالنظر إلى هذا الواقع المرير، فما دامت الحكومة مستمرّة في إنكارها لوجود فساد ٍ متفشّ ٍ، فإن طموح أردوغان لجعل إقتصاد تركيا من بين العشرة أكبر إقتصادات في العالم بحلول عام 2023 (عام الذكرى المئويّة لولادة الجمهوريّة التركيّة) قد أصبح حلما ً لا أكثر.
كبح الصحافة: لم يظهر أردوغان أي تسامح للنقد وعمل على “خنق” الصحافة. فأية وسيلة إعلام تجرأت على إظهار حالات الفساد أصبحت “عدوة الدولة”. فاستنادا ً إلى لجنة حماية الصحفيين، ألقي حديثا ً ب 81 صحفيّا ً في السجن اتهم جميعهم “بجرائم مناهضة الدولة”، وأمرت الحكومة بإغلاق ما يزيد عن 100 وكالة أنباء. وما بين 20 يوليو / تموز و 31 ديسمبر / كانون ثان ٍ 2016 تمّ إغلاق ما مجموعه 178 إذاعة وصحيفة.
وفي حين تأخذ وسائل الإعلام في الديمقراطية مكانة مركزيّة لإبقاء الحكومة أمينة وصادقة، فقد أصبحت الصحافة الإستقصائيّة في تركيا محرّمة حيث أنّ أكثر ما يرهب حكومة أردوغان هو الكشف المحتمل لحالات الفساد المتورط فيها مباشرة ً مسؤولون حكوميّون.
إنّ الأثار المترتبة على ذلك بعيدة المدى وواسعة حيث أنّ دول أخرى، وبالأخصّ الديمقراطيّات منها، تصبح متشككة من مواقف تركيا، فالإفتقار للشفافيّة يقوّض مصداقية تركيا ومكانتها العالميّة.
الجانب السياسي: أظهر ثلثا الشعب التركي في استطلاع بأنهم ينظرون للأحزاب السياسيّة على أنها فاسدة. تفتقر تركيا إلى كيان يراقب تمويل الأحزاب التي من المفروض أن تقدّم كشوفاتها الماليّة للمحكمة الدستوريّة، وهذه مؤسسة تفتقر للتجهيزات للقيام بتدقيق الحسابات. أضف إلى ذلك، فاستنادا ً إلى مؤسسة الدراسات الإقتصادية والإجتماعيّة التركيّة، “ليس لتركيا عمليّة تنظيميّة محدّدة للقضاء على احتمال تضارب المصالح” لأعضاء البرلمان الذين ينتقلون إلى القطاع الخاصّ بعد إتمام فترة دورتهم البرلمانيّة.
وتعليقا ً على “الحزمة الشفافيّة” التي أعدّها رئيس الوزراء السابق دافوتغلو، صرّح أردوغان آنذاك وبدون خجل:”إذا طُلب من مسؤولي الحزب الكشف عن ثروتهم على النحو المطلوب حاليّا ً، فلن تستطيع أن تجد أحدا ً للرئاسة، حتّى الفروع الإقليميّة والمحليّة لحزب العدالة والتنمية”.
لقد استقال عدد من وزراء أردوغان، منهم وزير الإقتصاد ظافر كاغليان، ووزير الداخلية معمّر غولر ووزير البيئة أردوغان بايركتار بعد إلقاء القبض على أبنائهم بادعاءات رشوة. وبعد استقالتهم شرع أردوغان “بطرد آلاف من ضباط الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة” واتهم حركة غولن بتدبير مؤامرة.
تشكّل حالة إلقاء القبض والإتهام في المحاكم الأمريكيّة على تاجر الذهب الإيراني – التركي، رضا زرّاب، تهديدا ً خطيرا ً على سلطة أردوغان إذ أن مسؤولين كبار في حزب العدالة والتنمية متورطون في الإتهام، بمن فيهم بعض من أفراد عائلة أردوغان. وسرعان ما قامت وسائل الإعلام الموالية للحكومة بتوجيه الإتهامات ضد النائب العام الأمريكي والقاضي المكلّف بالقضيّة على أنهما أدوات لحركة غولن.
لتداعيات الفساد السياسي المنتشر على نطاق ٍ واسع تأثيرات سلبيّة رئيسيّة أيضا ً على علاقات تركيا مع حكومات أجنبيّة تتواصل مع أنقرة من دافع الحاجة أو الضرورة وليس من دافع الإختيار الحرّ، وبشكل ٍ خاصّ الإتحاد الأوروبي، الأمر الذي يجعل من علاقات تركيا الخارجيّة هشّة ويضع أمنها طويل الأمد في خطر.
السلطة القضائيّة: استنادا ً إلى بيانات بارومتر الفساد الدّولي لعام 2013، ذكر 13 % من الأسر بأنه كان عليهم دفع رشاوي بعد اضطرارهم للإلتجاء للقضاء، وهذه النسبة زادت في السنوات الأخيرة الماضية. لقد “قوّضت عيوب القضاء التركي قبول الأحكام من قبل جميع شرائح المجتمع التركي وغطتها بمزاعم تصفية الحسابات السياسيّة”.
إنّ وجود قضاء عادل ضروري للتمتّع بديمقراطية سليمة ومستدامة، ولكن إذا أصبح القضاء فاسداً، كما هو الحال في تركيا، فإن الأمر لا يقتصر فقط على الحالات التي تُقبل تسويتها بمذلّة أوبأقلّ من المستوى المطلوب أمام المحاكم، بل أنّ ما يحدث هو تأثير مضاعف يؤثّر على سلوك المسؤولين العاملين في النشاط الإجرامي والذين يشعرون أنّ بإمكانهم الإستمرار في التصرّف بهذا السلوك الشائن بدون عقاب.
الجيش: استنادا ً إلى تقرير التطوّر لعام 2016 الذي أعدّه الإتحاد الأوروبي، فإنّ حماية قانونيّة واسعة قد ُمنحت للمسؤولين في مكافحة الإرهاب و”… الخدمات العسكريّة والإستخباراتيّة لا تزال تفتقر إلى المساءلة الكافية في البرلمان”. ويذكر نفس التقرير بأن “الوصول إلى تدقيق التقارير من قبل المحكمة التركية للحسابات على الأمن والدفاع والوكالات الاستخباراتيّة يبقى مقيّدا ً”.
لقد استبدل أردوغان مئات الجنرالات، الأمر الذي أدى إلى انخفاض في التخطيط الإستراتيجي وجودة الفعاليّة العسكريّة بشكل ٍ عام. وقيامه بتطهير الرّتب العسكريّة العالية قبل ثلاثة أعوام بتهم التآمر للإطاحة بالحكومة قد قوّض مكانة تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبالمثل، قيامه أيضا ً بتطهير القيادة العليا للجيش بعد محاولة الإنقلاب شهر تموز / يوليو العام الماضي قد زاد من إضعاف التأهب العسكري، الأمر الذي يثير تساؤلات جديّة حول قوّة تركيا العسكريّة وفعاليتها كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تتحدّى تركيا ميثاق حلف شمال الأطلسي الذي يطلب من أعضائه “حماية الحريّة والإرث المشترك وحضارة شعوبهم المبنيّة على أسس الديمقراطيّة والحريّة الفرديّة وحكم القانون”. وبقيامها بعدم الإلتزام بهذه الأسس والمبادىء تخاطر تركيا بطردها المحتمل من الحلف خصوصا ً وأنّ أردوغان يبدو الآن بأنه ينجذب بشكل ٍ متزايد نحو موسكو.
المجتمع المدني: يشير تقرير التطوّر لعام 2016 الذي أعدّه الإتحاد الأوروبي بأن:”مشاركة المجتمع المدني في عملية الميزانيّة ضعيفة …ومنظمات المجتمع المدني المستقلّة نادرا ً ما تكون مشاركة ً في عمليات صنع القوانين والسياسة”.
الفساد يخلق الخوف في المجتمع. والأفراد الذين قد يرغبون خلافا ً لذلك في الكشف عن أعمال فساد هم الآن خائفون من التورّط. لقد جاء في تقرير الشفافيّة العالميّة:”لا تستطيع في الوقت الحاضر أن تقدّم للناس لا مثال جيّد ولا رديء لأنّ محاكم الفساد قد أصبحت مستحيلة في تركيا. وهذا بدوره يضفي الشرعيّة على الفكرة القائلة بأنّ الفاسد يملص منها بأي حال ٍ من الأحوال”.
لقد قطع حزب العدالة والتنمية على نفسه “بأن يشنّ أعنف حرب ٍ على الفساد وأن يضمن بالكامل “بأن تسود الشفافيّة والمساءلة في كلّ قطاع ٍ من الحياة العامة ….وأن ُيمنع تلوّث السياسات”، ولكن بعد ذلك رفض أردوغان نفسه أية إجراءات عمليّة لمحاربة الفساد خوفا ً من الكشف الضارّ بمصلحته.
للأسف، الكثير مما كان يطمح له أردوغان كان بإمكانه تحقيقه لو استمرّ في الإصلاحات التي شرع بها ودفع بتركيا إلى المكانة العالميّة التي كان يريدها دون الإلتجاء إلى الحكم الإستبدادي السلطوي.
بعد 15 عاما ً في السلطة، يقدّم أردوغان مثالا ً كلاسيكيّا ً حول كيفيّة مقدرة السلطة على الإفساد. لقد حان الوقت للشعب ولأحزاب المعارضة أن تطلب منه مغادرة الساحة السياسيّة وإفساح المجال لتشكيل حكومة منتخبة ديمقراطيّا ً لبدء عمليّة إجتثاث الفساد. وعدا ذلك، سوف تفقد تركيا إمكانيات هائلة في أن تصبح لاعبا مهما على الساحة الدولية.