أبييّ و مسرحية لاهاى…أليست لاهاي التي يتحدثون عنها بشيئ من الإعجاب والمدح هي ذاتها لاهاي التي يرفضونها في قضايا أخرى؟

عندما أحال شريكي نيفاشا المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ملف قضية أبيي إلى محكمة التحكيم الدولية كنا نعلم إنها خطوة غير موفقة وقرار فطير مصيره كمصير تقرير الخبراء ، وإن مرده إلى نار اهل المنطقة لإعادة طهيه.حيث لا يعقل أن يتم تدويل نزاع حدودي بين قبيلتين وتكون نتائجه ملزمة لأطراف لا علاقة لها بما جرى ويجري. وكان بالامكان أن ينظر في هذه القضية في إطار المحاكم السودانية ، ففي السودان من القانونيين والعلماء من لا يقلون كفاءة وخبرة ومهنيّة من أعضاء محكمة التحكيم الدولية. وهاهي محكمة التحكيم قد اصدرت حكمها ببطلان تقرير الخبراء وتجاوزهم التفويض في أكثر من سبعة نقاط من أصل عشرة ، مما يؤكد ما ذهب إليه المسيرية والمؤتمر الوطني بإن تقرير الخبراء منحاز ومسيس وخالي من المهنية. أوضحت محكمة التحكيم بإن الخبراء تجاوزوا صلاحياتهم وإعتمدوا في تفسير صلاحياتهم على منحى قبلي وفسروها بإنها تقتضي منهم ترسيم منطقة مشيخات دينكا أنقوك التسع في عام 1905 ، في حين كان تكليفهم إيجاد منطقة قد حوّلت إلى كردفان في عام 1905.

وللأسف الشديد إن محكمة التحكيم الدولية والتي يفترض فيها القانونية والمهنية إهتدت في خاتمة المطاف إلى نفس نتيجة الخبراء مع تعديلات طفيفة متجاوزة بذلك تكليفها ومصداقيتها . كان عليها أن تنظر في القضية حسب المستندات والمرافعات التي تقدم بها الطرفين ولكنها إعتمدت على المنحى القبلى لايجاد منطقة المشيخات وقامت على تحصين تقريرا لخبراء الذي رفضته.

الحركة الشعبية والمؤتمر الوطنيى أوضحوا قبل صدور القرار بإنهما سيلتزمان بقبول وتنفيذ قرار المحكمة الشيئ الذي يؤكد ما ذهب إليه البعض بإن هنالك طبخة ما ، وإن المؤتمر الوطني والحركة هما من اوصى بالوصول إلى حل توافقي. وإذا سلمنا بهذه النظرية فلماذا لا يصلون إلى هذا الحل بأنفسهم بدلاً من هيئة التحكيم الدولية ، وتكليف دافع الضرائب هذه الاموال الطائلة وتحويل نزاع قبلي إلى تحكيم دولي ووضع سابقة في القانون الدولي سوف يترتب عليها الكثير في المستقبل ؟

المتتبع لتصريحات بعض قيادات الحركة الشعبية من أبناء دينكا انقوك يصل لنتيجة مفادها إنهم ضد القرار ، فكل تصريحاتهم جائت بقبول مبطن ومشروط وفيه تجزءه للقرار. فقبلوا بالارض التي منحت لهم ورفضوا الجزء المتعلق بالبترول والمحصله إنه رفض تتبعه مشاكل ومشاكسه وربما تحكيم آخر.

د. لوكا بيونق وزير شئون الرئاسة ومهندس قضية أبيي قال لـ ” مرايا اف أم ” إن قرار المحكمة بإخراج مناطق البترول خاصة هجليج خارج حدود أبيي لا يعني تبعيتها للشمال وإنهم سوف يلجأون إلى التحكيم إن إقتضى الأمر. السيد إدوارد لينو أدلى بنفس التصريحات وكذلك السيد دينق الور وزير الخارجية واحد ابناء أبيي الذي قال إن قرار المحكمة فيه رمادية وضبابية وإن هجليج والميرم سوف ينظر في أمرهما عند رسم الحدود بين الشمال والجنوب. أما السيد باقان أموم فقال رداً على تصريحات الرئيس عمر البشير في لقاءه مع أعضاء المؤتمر الوطني من ابناء المسيرية ، قال أموم ” إن الاستفتاء حول أبيي من حق دينكا أنقوك فقط” وهدد بإن الحركة قد تضطر إلى التصعيد ، ولقد شاهدنا ذلك عندما طلب السيد باقان من الكونقرس الامريكي عدم رفع إسم السودان من قائمة الارهاب وعدم رفع الحظر المفروض عليه . السيد باقان يعترض على حقائق قالها البشير وهي إن منطقة أبيي جزء من السودان وتتبع لرئاسة الجمهورية ومن حق أي سوداني يعيش داخل اراضي المنطقة وبنص الدستور والقانون التمتع بالحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية بما فيها حق المشاركة والإستفتاء المكفول لجميع مكونات أبيي وبنص البرتكول الخاص بالمنطقة والمثبت في الدستور.

لم أكن اتوقع أن يصدر مثل هذا التصريح من الامين العام للحركة الشعبية التي ما فتئت تدعي بإنها تنادي بحقوق المهمشين في جميع أنحاء السودان وتبشر ببناء سودان جديد خالي من الجهوية والقبلية والعنصرية ويعيش الجميع فيه كمواطنين بالتساوي بعيداً عن التمييز على اساس العرق ، اللون أو الدين. فلماذا هذا التحامل وهذه اللهجة الإستفزازية الإقصائية ؟

لقد غضب باقان مما قاله البشير ولا ادري ما هو الخطأ في خطاب الرئيس البشير رغم إن حديثه كان للمجاملة فقط ولا أحد يعول عليه كثيراً ، ومنذ متى اوفى البشير بوعد قطعه على نفسه؟ إن دائرة أبيي يا سيد باقان بها سجل سكاني للإستفتاء يمكن من خلاله معرفة من يحق له التصويت . فأبيي كانت دائرة جغرافية يتنافس فيها المسيرية والدينكا ولقد سبق وأن ترشح فيها عدد من أنباء الدينكا والمسيرية وعادة ما يفوز فيها مرشح المسيرية لأن عددهم في المرحال الاوسط يفوق عدد أبناء دينكا أنقوك والذين يتواجدون بكثرة داخل مدينة أبيي.

فإذا سلمنا بقرار المحكمة بضم مناطق المرحال الاوسط والغربي لدينكا انقوك فالارض ستذهب بأهلها. وهنا لا المسيرية ولا دينكا انقوك يقبلون أ ن تهضم حقوقهم أو يعاملون كمواطنين درجة ثانية ، وإذا سلمنا بمنطق باقان فلا داعي للإستفتاء من اساسه طالما يتم على أساس عرقي قبلي وليس جغرافي ، وفي هذه الحالة تكون النتيجة محسومة.

لقد شارك المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية في إستفزاز مشاعر السودانيين شماليين وجنوبيين عندما حصر النزاع وكأنه حول البترول فقط ، ووصف القرار بالانتصار الكبير وأعلن إنه سوف يوقف نسبة ال 50% من نصيب الجنوب من حقول البترول . ولا ادري عن اي إنتصار يتحدثون ، فالتحاكم للاجنبي خسارة في حد ذاته، وإذا كانوا يثقون في المحاكم الدولية فلماذا يرفضون مثول الرئيس امامها وغيره من المطلوبين للعدالة الدولية؟ أليست لاهاي التي يتحدثون عنها بشيئ من الإعجاب والمدح هي ذاتها لاهاي التي يرفضونها في قضايا أخرى؟ فالامر برمته لا يعدوا ان يكون صفقة سياسية أعدت مسبقاً بين الشريكين المتشاكسين وإن مسرحية لاهاي هي فقط لتهدئة الخواطر.

نتيجة لهذه التصريحات المستفذة تغير المشهد ورفض حتى الذين رحبوا في البداية بقرار محكمة التحكيم الدولية وخرج الآلاف من ابناء المسيرية في القرى والبوادي والمدن في مظاهرات عارمة منددين بقرار ما اسموها بمحكمة الإنحياز الدولية ووصفوه بالجائر والمنحاز والخارج عن قرار التكليف. واكدوا إنه لا يعنيهم في شيئ ولن يلتزموا به وإن الحدود التي يعترفون بها هي فقط حدود 1956.

لم تكن تصريحات قيادات الحركة والمؤتمر الوطني موفقه ، فإذا كان الغرض من إحالة ملف أبيي إلى هيئة تحكيم دولية هو لمعالجة الإشكال وطي هذا الملف والتفرغ لأشياء أخرى فهكذا تصريحات لا تخدم هذا الغرض. كان يجب تهيئة المناخ والتحدث لأهل المنطقة بإن حقوقهم مكفولة ، لقد ذكر أحد المتظاهرين في غضب حيث قال ” كنا نظن إن ارض السودان ملك للدولة ولذلك بذلنا الغالي والنفيس لحمايتها وحماية وحدتها ، وإن حق حيازة الارض حق مكفول للجميع حسب القانون ومقتضيات الاستعمال وإن الحدود الادارية بين المحليات والولايات ليست شأناً قبلياً بل من صميم سلطات الدولة ، اما وقد تنازلت الدولة عن صلاحياتها للقبائل فعلى المسيرية من الآن فصاعداً أن لا تقبل بأن يمثلها الآخرون لانها ليست قاصرة ولم تخول أو توكل أحداً لتمثيلها ، ومن يريد أن يتحدث عن الحدود فعليه التحدث مع المسيرية ولا أحد غيرهم.”

اخـــــيراً إستدرك السيد سلفاكير ميارديت نائب رئيس الجمهورية ورئيس الحركة الشعبية وحكومة الجنوب ، وعرف إن الوقت ليس لمزايدات سياسية ومكابرات وإن غضب المسيرية ورفضهم للقرار هو غضب حقيقي ونابع من شعور بالظلم والتهميش ولذلك وجه إليهم طلب زيارته في جوبا للتحدث إليهم والتفاكر معهم بشأن قرار هيئة التحكيم وربما مواضيع مصيرية أخرى.

هذه فرصة للمسيرية وللحركة ويجب أن يتعاملوا معاها بحسن نوايا وتجرد. وعلى المسيرية أن يختاروا وفدهم بعناية وأن لا يسمح لأعضاء المؤتمر الوطني من أبناء المسيرية بالمشاركة . كما عليهم أن يعلموا إن الوصول لحل مرض قد يحتاج إلى تقديم تنازلات وذلك هو سلام الشجعان. وعلى الحركة الشعبية ورئيسها سلفاكير أن يتفادوا طريقة تعامل المؤتمر الوطني مع هكذا قضايا ولا يجعل من اللقاء فقط للإعلام ، نأمل أن يساهم هذا اللقاء في تقريب وجهات النظر ورسم مستقبل للتعايش في المنطقة بعيداً عن المشادات السياسية بين الشريكين أو مكاسب النفط وغيرها فالسلام للناس اولاً ومن ثم تأتي المكاسب الاخرى
سودانايل

بقلم: حماد عبدالرحمن صالح/كندا
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *