يا \” دوسة \” .. بل غسيل اموال .. لا اقرارات ذمة
سيف الدولة حمدناالله عبدالقادر
أدهشني تبادل الخواطر، وتشارك الوجدان، الذي جمع بين أحد رعايا دولة الانقاذ من أمثالي بالسيد / محمد بشارة دوسة وزير العدل والنائب العام، الذي أعلن في يوم الثلاثاء الماضي عمٌا أطلق عليه : [ تفعيل ] قانون مكافحة الثراء الحرام والمال المشبوه لسنة 1989، وهو الاسم الرسمي لما تطلق عليه العامة ” قانون براءة الذمة”، ذلك أنني وقبل الاعلان [ الدوسوي ] بثلاثة أيام كنت قد تناولت ذلك القانون في مقالي الذي نشر يوم السبت الماضي بعنوان [خذوا الحكمة من لجنة مولانا ابوزيد] وقد ورد الحديث عن ذلك القانون في معرض ما قلنا به من عدم جدوى الاعلان الذي اصدره رئيس الجمهورية بعزمه على تشكيل مفوضية لمكافحة الفساد .
ولكي يطمئن القارئ، فلسنا بصدد تكرار ما قلنا به في مقالنا السابق، والأحرى، ليس لدينا ما نضيفه بالقول في أمر الفساد ومفوضياته، بيد أن الذي دفعنا للعودة للحديث عن قانون مكافحة الثراء الحرام والمال المشبوه ، هو محاولة تصحيح الخطأ الذي وقعت فيه كثير من الاقلام التي كتبت – في نشوة وابتهاج – تقول أن من شأن خطوة السيد دوسة بتفعيل القانون ، أن تقضي على ظاهرة الفساد الحكومي أو أنها – على الاقل – تفسح الطريق لتحقيق ذلك، في الوقت الذي نقف فيه نحن على الجانب الآخر من الطريق، لنقول بكل ثقة واطمئنان، أن من شأن هذه الخطوة أن تفضي لحدوث كارثة بتمكينها للعصبة الفاسدة من غسيل حصيلة الأموال التي تم الحصول عليها بشتى صنوف الفساد خلال العقدين المنصرمين،وهو الغسيل الذي سوف يجري تحت غطاء حكومي وبسند شرعي وقانوني ، وذلك للأسباب التي نوردها لاحقاً.
أول ما استوقفتني في حديث السيد دوسة بالمؤتمر الصحفي الذي عقده بقصر العدل للتبشير بتطبيق القانون ، هو استخدامه لعبارة [ تفعيل القانون ] وهي عبارة ليس لها وجود في لغة القانون أو قواميسه، منذ نشأته بألواح الاثنى عشر ، وقد خطر لي انها – أي العبارة – قد استوحيت من لغة [ الراندوق ] التي يقول بها شباب اليوم في شأن [ تفعيل ] شريحة الهاتف الخليوي وحساب [ البالتوك ]، ففي لغة القانون، حينما يكون التشريع سارياً ونافذاً – كما هو شأن قانون مكافحة الثراء الحرام – يتعين على أجهزة الدولة – وفي مقدمتها سلطات النائب العام – تطبيق احكامه وتنفيذ نصوصه ، دون حاجة للضغط على ذر [ التفعيل ] ، فقوانين الدولة وتشريعاتها – ما دامت سارية – تتساوى فيما بينها في الدرجة والمقدار، يستوي في ذلك قانون النظام العام الذي تمتلئ السجون بضحاياه ، وقانون مكافحة الثراء الحرام ذي [ التفعيلة ] الذي لم يأبه به أحد منذ صدوره، حتى نفضت الغبار عنه روح المرحوم محمد البوعزيزي.
ليس في قانون مكافحة الثراء الحرام والمال المشبوه، ما يعطي السيد وزير العدل الحق في منح مهلة شهر لأصحاب الوظائف الخاضعة للقانون لتقديم اقرارات الذمة، فبموجب نص القانون تقدم اقرارات الذمة خلال شهر من تاريخ العمل بالقانون – يوليو 1989 – او من تاريخ الالتحاق بالخدمة [ المادة 9/3 ] من القانون ، وقد تكفل القانون بمعالجة حالات التقاعس عن تقديم الاقرار، بالنص على معاقبتهم بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر مع الغرامة أو بدونها [ المادة 11 ] من القانون ، والحال كذلك ، فليس هناك ما يدعو الاقلام لتحتفي بقيام رئيس الجمهورية و [ 80% ] من الوزراء – بحسبما جاء في الاخبار- بتقديم اقرارات الذمة بعد مرور [ 22 ] سنة على سريان القانون.
ان ما ينبغي أن تحتويه – في يومنا هذا – سجلات لجنة فحص اقرارات الذمة المكونة طبقاً لقانون الثراء الحرام، هو قوائم ممتلكات أركان دولة الانقاذ يوم سريان العمل بنصوص القانون في يوليو 1989، وليست قوائم ممتلكاتهم يوم تقديم الاقرارات في مايو 2011 ، وهي القوائم التي تحكي عن ممتلكات العميد مظلي عمر البشير، وعنوانه حي كوبر مقابل مصحة الامراض العقلية، وممتلكات مدرب اللياقة البدنية بالكلية الحربية الرائد يوسف عبدالفتاح وعنوانه منزل الاسرة بحلة حمد بمدينة بحري، وممتلكات الاستاذ علي عثمان الذي لا تعرف له وظيفة منذ تركه العمل بالقضاء في بداية السبعينات.
طبقاً لأحكام القانون، فان الذمة لا تبرأ بمجرد تقديم الاقرار، اذ يجب على لجنة فحص الاقرارات ، التثبت والتأكد من صحة ومشروعية الاموال التي تضمنتها تلك الاقرارات [المادة10/4] من القانون. وبطبيعة الحال، لا يتسنى للجنة القيام بذلك،- أي التثبت من صحة ومشروعية الاموال – الاٌ في ضوء ما تضمنته الاقرارات السابقة من بيانات، ويبقى مثل هذا الاجراء حبراً على ورق في غياب الاقرارات السنوية التي يلزم القانون تقديمها للجنة حتى يتسنى لها مراقبة ومقارنة تنامي ثروة المسئولين عاماً بعد عام.
هنا، نرى أن من واجبنا ألاشارة الى أن اللجنة التي تتولى فحص اقرارات الذمة الخاصة بالمسئولين بما في ذلك رئيس الجمهورية تتكون من خمسة اعضاء ، يعين رئيس الجمهورية – نفسه – اربعة منهم ، فيما يرأسها وزير العدل وهو من المعينين – أصلاً – بواسطة رئيس الجمهورية [المادة 10/2] من القانون.
اقرار الذمة، وفق نص القانون، يشمل – أيضاً – ممتلكات الزوجة (او الزوج ان وجد) والابناء القصٌر، [ المادة 9/2 ] من القانون، وهذا نص لا يثير فينا – نحن رعايا دولة الانقاذ – الاٌ الاشجان والاحزان، دون أن يكون له معنى في أرض الواقع، ذلك أن فتية الانقاذ وصبيانه قد استطال بهم الزمن في الجلوس على انفاسنا ،حتى هرموا وهرمنا معهم، فاستحال اطفالهم اليافعين الى رجال ونساء بالغين وبالغات، وتناكحت ذريتهم وتناسلت حتى تفرخت عنها أجيالاً وأحفاد ، والحال كذلك، لم يعد القصر الفخيم الذي اهداه السيد نافع علي نافع الى كريمته [ نسيبة ] بمناسبة زفافها والذي نشرت صوره على صفحات المواقع الاليكترونية جزءاً من مكونات ذمته المالية، وليس في القانون ذي التفعيلة ما يسعف النائب العام ولجنته على سؤال السيد/ ابراهيم احمد عمر عن مصدر الاموال [ وتحسب بملايين الدولارات ] التي أودعت في حساب نجله المتزوج، والتي كشفت وفاته – له الرحمة – عن وجودها بسبب ما أثير حولها من خلاف في التركة.
لقد كشفت ايام وليالي الانقاذ الطويلة، أن معظم حالات الفساد التي تتداولها المجالس، وتشهد عليها ما [ طرأت ] عليهم من اسباب الثراء الفاحش دون ان يعرف لهم الناس مصدراً لمثل تلك الاموال يقوم بها اشقاء المسئولين واصهارهم وابنائهم الرشٌد البالغين، وليس سوداننا وحده الذي يرزح تحت فساد الابناء والاصهار والاشقاء، ولذلك – في مصر مثلاً – ينص قانون الثراء الحرام على خضوع الاقارب من الدرجتين الاولى والثانية – اي كان عمرهم – لنصوص القنون (حالياً يجري التحقيق مع ابناء حسني مبارك وانجال صفوت الشريف بموجب هذه الاحكام).
لا ندري وجه الحكمة من اضفاء السرية التي ينص عليها القانون على البيانات التي تحتويها اقرارات الذمة، بخلاف ما هو معمول به في دول العالم الاخرى، ومن شأن هذه السرية أن تفرغ القانون من الهدف الذي شرٌع من أجله، ذلك انه وبموجب نص القانون ذاته، يجوز [ لأي ] شخص أن يتقدم لادارة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه أو للنائب العام أو للضابط المسئول عن نقطة الشرطة أو لقاض [ المادة 8/1 ] بشكوى أو معلومات تفيد بأن شخصاً بعينه قد أثرى ثراء حراماً أو مشبوهاً ، وبحسب تعريف القانون، يقصد بالثراء الحرام أو المشبوه كل مال يطرأ على صاحبه ولا يستطيع بيان وجه مشروع لاكتسابه، وبطبيعة الحال لا يتسنى لأي مواطن أن يدرك بأن مسئولاً قد أثرى ثراء مشبوهاً دون أن يدري ما أعلن عنه ذلك المسئول في اقرار ذمته المالية.
الواقع أن الفضل في سن قانون الثراء الحرام – ان كان فيه ثمة فضل – يرجع للمرحوم جعفر نميري، الذي دفع به ضمن حزمة قوانين سبتمبر في عام 1983، وقد ظل هذا القانون قابعاً في ارشيف النائب العام طوال هذه السنوات دون تطبيق يذكر ( لا ادري لماذا تحضرني دائماً الحالة الوحيدة التي اعرفها لاعلان ذمة قام بتقديمه وزير الدفاع الانتقالي اللواء عثمان عبدالله والذي كشف عن ثروته التي تمثلت في مخبز آلي بمنطقة أركويت)، وفي ضوء ما قلنا به من اسباب ، فاننا نستطيع القول بأن قيام السيد وزير العدل بنفض الغبار عن هذا القانون في هذا الوقت، لا يعدو ان يكون سوى وسيلة لغسيل اموال الفساد واضفاء الشرعية عليه في غطاء من القانون وبرعاية الدولة، وسوف لن يكون في مقدور السلطات (قضاء ونيابة وشرطة) ان تفعل – بعد حملة التفعيل – اكثر مما فعلته خلال العقدين الماضيين.
سيف الدولة حمدناالله عبدالقادر
[email protected]