وادي الزُرق .. فأما الزَّبدُ فيذهب جُفاءً
ابراهيم سليمان
صوت من الهامش
الصيد في الماء العكر، فيه قولان، الشائع تعكير الأجواء المائية لتخرج الأسماك للبحث عن الأوكسجين، فيتم صيدها، بينما يرى أنيس منصور عكس ذلك، ان الصيد في الماء الصافي اسهل من الصيد في الماء العكر الذي تختفي فيه الأسماك، لذا نجد الصغيرة منها تلجأ الى هذه الخدعة، فتعكر الماء بالحركة العنيفة في الماء ليصبح عكرا وبذلك تختفي عن عيون الاسماك الكبيرة التي تطاردها لتفترسها.
القائد المليشي حميتيّ وشقيقه اللواء المليشيّ عبد الرحيم دقلو، اختارا الحيلة الأخيرة، لتمرير المخطط المريب بوادي الزُرق الرافد لوادي هور، إذ اثارا غباراً تنموياً كثيفاً حول المنطقة، باستدراج بعض الرأسمالية “الطفيلية” في رحلة استجمام إلى منطقة وادي الزُرق بولاية شمال دارفور، إلا إن الصحفي الصادق الرزيقي، ازاح ذلكم الغبار، وكشف عن المخطط الشيطاني، المتمثل في استرداد مملكة مزعومة لأجداد عشيرته كانت عامرة في المنطقة تسمى مملكة خُزام، لم يذكرها التاريخ ولم يتذكرها احد، والعودة لمنبت الجذور حول منطقة رهد الجنيك، حيث اندثرت مملكة اجدادهم، على حد افادته في مقالته “وادي الزرق قصة الأرض التي غسلت الدم بماء الزرع” مكتفياً بأن الحيز التاريخي لمملكة خزام المندثرة منذ مئات السنين ولم يتبق منها إلا قصص أسطورية عن سلطانها “شر نقو”، واكد أن المنطقة تعتبر موطن قديم وتاريخي للعرب الرزيقات المهرية تحت إدارة الشيخ التاريخي الدود معدي رحمه الله وأجداده، وبذلك يكون الصحفي الرزيقي (جابوه فزعة، وبقى وجعة).
وصحفيّ الغفلة لا يمكن ان يكون صحفيّ دولة، لذلك ليس بمستغرب أن يشك الصادق الرزيقي ويتساءل إن كانت دارفور ارض اجداده تبادله الحب ام لا؟ ولا نظن ذلك، وهو ما انفّك يجتهد للنيل منها، متحيناً ظرف ضعفها، وتوقيت المحنة التي تمر بها، فقد تولى من قبل كِبر حملة تغيير اسمها، والآن نراه يرافق زمرة الانتهازيين لإيقاظ كلاب الفتن النائمة، لتستأنف العواء وتجدد النباح وسط ابناء ومكونات الإقليم المأزوم بأمثاله من الأحفاد النزقين.
اجهد الرزيقي نفسه في الربط بين المنطقة، والثورة المسلحة في دارفور، وكذلك مسار تحركات عملية الذراع الطويلة عام 2008م كمصوغات امنية لمحاولة التغيير الديمغرافي المحموم والمحمي بقوة السلاح، وسقط سقطة مثير للتقزز والاشمئزاز، حين اشار إلى صعوبة التميز بين “البدو في تلك الفلوات ” مردفاً “حتى البدو الزغاوة” فقد قصد الشمول، فأتى “بحتى” فيها شيء من حِتي.
اما الاستاذ حسين مناوي، فقد تناول الموضوع بقدر كبير من التهويل، واجهد نفسه هو الآخر في محاولة الربط بين الحدث، وعبور طارق بن زياد البر الافريقي إلى بلاد الأندلس، بشيء من التجديف في مشروعية الجهاد والفتوحات الإسلامية في سياقه الزمني في ظل انكماش التبشير الكنسي، وهي مقدمة مطولة وغير ضرورية، لحدث شبه روتيني، اكده وكذلك المحامي عبد العزيز سام أن المنطقة رغم انها تقع ضمن حاكورة دار الزغاوة، ظل محل نزاع متكرر بينهم والرزيقات، آخر هذه النزاعات كانت عام 1994م حسب عبد العزيز سام، وعام 2000م حسب حسين مناوي، واشهرها كانت عام 1968م والتي انتهت بصلح مشهود ظل محل احترام من الطرفين حتى مجيء نظام الإنقاذ المشؤوم، وحاول الاستاذ حسين تصوير ابعاد اقليمية ودولية للموضوع، واستنفار جهد عربي واسع وعلى رأسها دول الخليج الغنية لتنفيذ المخطط الشيطاني، حسب تقيمه.
وليس تهويناً للأمر، إلا انه لن يخرج من كونه إنعاش لنزاع قديم متجدد، في زمن مفصلي ودقيق، انحاز فيه المركز بصورة انتهازية لأحد اطراف النزاع، ومعلوم ان هذا الانحياز سقفه الزمني معلوم، ومداه السياسي محدود، ولا يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف.
وليس من باب التقليل من شأن ما يخطط له القائد المليشيّ حميتيّ في وادي الزُرق، نذكر فضاحة ما اقدم عليه الوالي الأسبق لغرب دارفور محمد أحمد الفضل والذي فتّت دار المساليت في ليلةٍ واحدة إلى عدة حواكير، بأختام الدولة المركزية في يناير عام 1999، لتعيش دار اندوكة في دوامة من المواجهات إلى يومنا هذا، تمهيداً لجلب المرتزقة من دول الجوار، بغية تغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة. تسببت تلك الإجراءات التعسفية، في تأجيج احداث مؤسفة نتجت عنها سقوط 108 قتلى، وعدد لم يحصَ من الجرحى، وحرق اكثر من مائة قرية، ونزوح الآلاف ونهب الثروات والأموال، جنائن مثمرة، ومزارع في مرحلة النضوج اصبحت مراتع للأبل، بعد ان اصبح ملاكها من اهل القبور، ببارود الدولة المركزية، وسواعد وافدين مرتزقة، فما الغرابة في أن يقدم قائد مليشيّ منتشي بانتصار مرحلي على حفر آبار على ارض بور، وقد تكون غِفار بغرض توطين اهله، حرّاس السطلة الغاشمة في الخرطوم؟
اما المحامي عبد العزيز سام، في مقاله الذي اتسم بالرصانة والعقلانية، تعّمد تكرار اسم المنطقة وادي الزُرق بلغة الزغاوة (أقو مِي) كدليل على عدم عروبتها، وذكر أن الحاكورة التي تقع داخلها منطقة الزرق عمرها خمسمائة عام، دون أن يوضح في عهد من مِن سلاطين الفور، وفي أي عام تم منح تلك الحاكورة لقبيلة الزغاوة؟ يذكر محمد عمر التونسي، أن نظام الحواكير بدأ العمل به في دارفور في عهد السلطان موسى (1726 ـــ 1746م) السلطان رقم 17 في تسلسل سلاطين الفور، أي أن هذا النظام كان سابقا لقانون دالي، ومنذ نهاية حكم السلطان موسى إلي يومنا هذا، اقل من ثلاثمائة سنة، مما يعنى أن كلام عبد العزيز سام على عواهنه.
اما الدكتور الوليد مادبو، فقد حاول الربط بين فكرة الهرمية العرقية أو التراتيبية القبلية كنقطة محورية في مشروعية التنمية المستدامة، وهو امر يصعب هضمه، بالنسبة لنا، ابعد من كونها أي الهرمية العرقية، كآلية لامتصاص الصدمات، والعمل كآلية لإطفاء بؤر التوترات، أي تداركها وليس منع وقوعها، مشيراً إلى اختلاق الدولة العنصرية بإسناد نظارات وإمارات لشخصيات لا تملك أدنى المقومات، واشتقاق إدارات غير معروفة المعالم، بل هي وهمية في أكثر الاحايين يتوخى منها تقنين العصبية وليس تذويبها مما شكل فراغ دستوري في دارفور، حسب توصيفه. وقد اوضح د. الوليد عدم رغبته في تقصي حقائق موضوعية إزاء هذا الحدث، أي انه اختار الحياد، وهو موقف لا يمكن عزله عن تعاطفه الواضح مع موسى هلال، غريم حميتيّ محور الحدث في وادي الزُرق، رغم وصفه للحدث ب”مجرد تحركات”، والمواجهة “الإسفيرية” بين أبناء العشيرتين بالتشاجر، حاضاً اياهم على البحث عن اسباب النزاع، بدلاً عن التحشيد الاثني، وهو موقف يُحسب له.
إلا ان دكتور الوليد فشل في الالتزام بموقف الحياد، والابتعاد عن البحث عن حقائق موضوعية، ففي مقالته (الحلقوتيّ، الجزء الثاني)، ولشيء في نفسه، ودون تمحيص منه، استشهد بإفادات ناشط ذكر “أن معركة دارت رحاها قبل اكثر من أربعمائة عام بين الرزيقات وخزام في هذا المكان؛ ومن منطقة الزرق ورهد الجنيق توجه الأمير/ مادبو علي في عام 1886 شمالا ليلتحق بابن عمه الناظر حسب الله لشبيك لكنّ سلطان الفاشر حينها اعترضه في منطقة شرق الدور وهو متوجه نحو مذبد وسلمه للجهادية التي لم تكتف بقتل أعظم قائد عربي في غرب السودان – حسب تعبير سلاطين باشا – لكنها في عام 1888 قتلت اكثر من 9000 رزيقي في معركة مذبد ممّا حدا بهم بالنزوح غرباً” (انتهى).
مما يستنتج من هذه الإفادة، أن أرض وادي الزُرق لقبيلة خزام وليست للرزيقات، وهي افادة غير موضوعية وتحتوي على مغالطات، اولاً عام 1886م كانت دارفور تحت حكم الأمير المهداوي “الحاسم” محمد خالد زُقل (1884ــ 1886م) ولا وجود لسلطان الفور في الفاشر، وثانياً، إذا كانت المعركة قد دارت في التاريخ المذكور، لا معنَ لإيراد “أكثر من اربعمائة عام” إلا من باب المزايدة التاريخية في ملكية الأرض. ثم ثالثاً كم من الجهادية باستطاعتهم قتل 9000 مقاتل رزيقي وهزيمتهم في معركة مزبد المزعومة عام 1888م وهي الفترة التي كانت دارفور تحت حكم الأمير المهداوي “الشرس” عثمان آدم جانو(1886 ـــ 1890م) وقد شهدت المنطقة استنفارٍ عالٍ، وهجرة قسرية لأهالي دارفور لنصرة الخليفة في البقعة، وهو سبب مقتل الأمير مادبو على يد حمدان ابوعنجة (فبراير 1887م)، وقتذاك كان خليفة المهدي ود تورشين، احوج ما يكون لأي انصاري قادر على القتال، ناهيك عن جهادي محترف، وهو يعد العدة لمعركة توشكي الفاصلة (اغسطس 1889م)، وكيف لمعركة بهذا الحجم في هذا التاريخ القريب، يتجاهله المؤرخين؟ يبدو لنا أن عدد القتلى فيه شيء من المبالغة.
الأستاذ محمد بشير ابونمو، ايضاً كتب عدة مقالات عن الحدث، ملقياً باللائمة على المركز، ورأس النظام تحديداً، ومرّكزاً على انتهازية حميتيّ وآل دقلو، ودناءة صحفيّ الغفلة، دون ان يوضح معلومات تاريخية او جغرافية مفيدة عن المنطقة، و لم يطرح حلول للمشكلة، موضحاً رأيه الرافض للاستيطان، ومحاولة انتزاع حاكورة الزغاوة، إلا أنه لم يبين موقفه من تعمير الأرض من حيث المبدأ، او الكيفية المثلى لإستقرار مكونات المنطقة، ومن ثم تنميتها.
نعود مرة اخرى لطرح المحامي عبد العزيز سام، والذي هوّن من وقع الحدث، حيث اعتبرها “عطيَّة مزيِّن” وذكر أن ما يقوم به حميتيّ من حفرِ آبار مياه وبناء المدارس وخدمات أخرى لتوطين الجنجويد، أمر جيد وتنمية للبلد وخدمة للمواطنين (إن لم يكن ساخراً من الحدث برمته)، وعاب على من رافقوا حميتيّ، في تلكم الزيارة المشبوهة، عدم اتيان البيوت من ابوابها حسب الأعراف والتقاليد المتبعة، ونحن نشاركه هذا الفهم، ونقول دعوا حميتيّ يُعمّر الأرض، “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”. فالأرض وما عليها باقية، اما حميتيّ وولي نعمته فمصيرهما معروف. رغم ان عبد العزيز سام في مقال آخر له، لجأ إلى لغة الوعيد بما صنع الحدَّاد، وترهيب رأسمالية المركز من مغبّة تجاهل اتيان البيوت من ابوابها. وإن صدق الرزيقي، أن النائب البرلماني محمد أحمد مناوي عن دائرة أم برو والطينة، ظل يمّثل الساعد الأيمن لـ حميتيّ في تنفيذ هذه المشروعات التنموية، وإن صح انه مستقل وليس مؤتمر وطني، فلماذا يزايد عليه ابناء عشيرته من الثوار؟
المليشيّ “الإقطاعي” حميتيّ، سقفه الزمني في احسن الفروض، انتظار مصير ابن عمه موسى هلال، وأسوئه نهاية نظام البشير المحتضر الآن. فمن الحماقة منعه من انشاء مرافق خدمية عامة تحت أية يافطة مزيفة، وعلى اهلنا في منطقة الزُرق أن “يأكلوا تورهم، ويدو زولهم”.
// ابراهيم سليمان//