الأساس الذي قام عليه الحكم الذي صدر في حق الرئيس مبارك بالسجن المؤبد لمسئوليته عن قتل المتظاهرين، يقوم على (إمتناع) مبارك بصفته الرئاسية وتقاعسه عن إصدار أوامر للشرطة بالتوقف عن الأعمال التي تسببت في قتل المتظاهرين، فليس بالضرورة أن تقع الجريمة – وفقاً للقانون – بالفعل الإيجابي وحده، فهي تقع أيضاً بالسلوك السلبي، متى كان الإمتناع عن أداء الفعل واجباً بمقتضى الوظيفة أو القانون، فالأم التي (تمتنع) عن إرضاع صغيرها عمداً ترتكب جناية القتل إذا تسبب ذلك في وفاته، وعليه، فإن الحكم الذي صدر في حق الرئيس مبارك لم يستند على قيام الرئيس مبارك – شخصياً – بأي فعل أدى لوفاة متظاهر، كما لم يقم الدليل على أنه أصدر أمراً للشرطة بقتل المتظاهرين أو إستخدام الذخيرة الحية، ومع ذلك إنتهت المحكمة الى تحميله المسئولية عن فعل كل شرطي نفر قام بقتل أو إيذاء متظاهر، وذلك بمقتضى واجبه القانوني الذي كان يحتم عليه إتخاذ كل ما يلزم لمنع الشرطة من تلك الأفعال حال علمه بها، وبهذا فهو حكم صحيح من جهة القانون.
لم يقبل الشعب المصري بالعقوبة التي أُنزلت برئيسه، فخرجت الملايين من أبناء الشعب وفي مقدمتها تنظيم الإخوان المسلمين للتنديد بهذا الحكم والمطالبة بإعادة محاكمة الرئيس أمام محكمة (ثورة) بما يضمن إرسال روحه الى بارئها، وفي تقديري أن مثل هذا الحنق الشعبي أمر مشروع ومبرر، فمتى توصل القضاء لتقرير مسئولية مبارك بالكيفية التي أوضحناها عن إزهاق هذا الكم من أرواح الشباب وبمثل تلك الوحشية التي شهد بها العالم، فليس من العدل أن تكتفي المحكمة بإرساله للسجن المؤبد، وهي تعلم أنه لن يمضي فيه أكثر من بضعة سنوات بحسب سُنة الله في خلقه التي تقضي بقبض الروح في مثل العمرالذي بلغه.
لم تفطن جماعة الإنقاذ للمأزق الذي حشرت نفسها فيه بدعمها لموقف (إخوانها) المسلمين في الإحتجاج على هذا الحكم الناعم، فقد فات عليهم أن الموقف الذي يواجهه الرئيس البشير في شأن التهم الموجهة اليه بواسطة محكمة الجنايات الدولية، لا يختلف في طبيعته القانونية عن موقف الرئيس المصري في شأن الجرائم التي تمت إدانته بموجبها، ذلك أن مذكرة الإدعاء الدولية ضد الرئيس البشير لم تشتمل على أية إتهامات بقيامه – شخصياً – بإرتكاب جريمة قتل أو إبادة ضد الذين قُتلوا في دارفور، وأن مسئولية الرئيس البشير عن تلك الجرائم، تقوم إما أستناداً على ما صدر عنه من أوامر بإرتكابها أوالتحريض عليها، أو تأسيساً على تقاعسه عن القيام بواجبه القانوني بالتصدي لها ومنع إرتكابها، وهو ما يتطابق تماماً مع الأسباب التي تمت بموجبها إدانة الرئيس مبارك.
ومن باب أمانة التاريخ، لم يقتل البشير روحاً بشرية خارج نطاق عمله في الحروب الاٌ مرة واحدة، كانت ضحيتها إمرأة من قبيلة المسيرية أصابها الرئيس بطلق ناري من “طبنجته الميري” في مقتل حينما أطلقه برعونة وتهور إبتهاجاً في حفل زواج لا يخصه أثناء فترة عمله بمدينة المجلد، فذهبت المسكينة للقبر فيما أصبح قاتلها رئيساً لعموم أهل السودان دون أن تتم محاكمته عن جريمة القتل الخطأ (وعقوبتها السجن في ظل القانون الذي وقعت فيه) حتى تاريخ اليوم.
الرئيس مبارك، بكل ما فعله بالشعب المصري يبدو كملاك رحمة إذا ما قيست أعماله بما فعله الرئيس البشير في شعبه، وحبيب العادلي بكل جرائمه لا يُطعن في سلامة وجدانه إذا ما وُضع في الميزان في مقابل (حبيبنا) عبدالرحيم حسين، فالرئيس مبارك – على الأقل – يمتلك من الضمير ما حمله للتنازل عن السلطة حقناً لدماء أبناء شعبه، وقد قال في دفاعه عن نفسه أمام المحكمة، زوراً أو حقيقة، أنه لم يصدر أمراً بإزهاق روحاً مصرية، كما قال أنه لم يكن يعلم بحقيقة القتل الذي طال أبناء شعبه بأيدي قوات الشرطة، وقد ذكر المشير طنطاوي في شهادته أن الرئيس مبارك أمر بنزول الجيش للشارع لحفظ النظام بتعليمات واضحة منه بعدم إطلاق الجيش للرصاص على أبناء الشعب من المتظاهرين، وقد شاهدنا كيف وقف الشعب يهتف بإطمئنان بسقوط نظام مبارك وهو يقف على أسطح دبابات الجيش وشاحناته المصفحة، فالرئيس المصري يعلم أن قيمة الجيش تكمن في ثقة الشعب بدوره في حمايته من الأعداء لا مقاتلة أبناء الوطن.
للرئيس مبارك ألف سبب يشفع له عند شعبه ويلتمس به لديه الرحمة، فلم يشهد عهده تنفيذ أحكام إعدام جائرة وخارج نطاق القانون، وفي عهده لم يُفصل مواطن مصري من وظيفته الميري للصالح العام، وكان المعتقل السياسي في عهد مبارك يخرج من السجن ليواصل عمله في وظيفته الحكومية دون أن تفوته ترقية أو علاوة دورية مستحقة، وقد ظلت حكومة الرئيس مبارك توفر التعليم المجاني لكل أبناء مصر من رياض الأطفال الى التعليم الجامعي حتى لحظة خروج الشعب لميدان التحرير، كما توفر للشعب العلاج بالمستشفيات الحكومية وتصرف له الدواء بالمجان.
الرئيس البشير، يحمل من أسباب الإدانة عن مسئوليته فيما جرى لأبناء شعبه، أضعاف ما حملته أوراق التهمة التي حملت الرئيس مبارك للوقوف أمام المحكمة، ومبارك يتفوق عليه بما يفهم منه ندمه على ما حدث لأبناء شعبه
أما البشير، من فرط إستهتاره بأرواح شعبه، لم يطاوعه قلبه حتى اليوم لتوضيح موقفه من المجازر الإنسانية التي أرتكبت والأرواح التي أُزهقت في دارفور و جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وبورتسودان وأمري، وهي جرائم لا أحد ينكر حدوثها، ولم يوضح الدور الذي قام به كرئيس للجمهورية وقائد أعلى للجيش لمنع تلك الجرائم، والحال كذلك، فقد كشفت الإنقاذ الغطاء بنفسها عن هشاشة تمسكها بما ظلت تردده في دفع تهم جرائم الحرب والإبادة الجماعية عن الرئيس كلما جاء ذكر المحكمة الجنائية الدولية، فهي – الإنقاذ – لا زالت تحكي عن (إزدواجية المعايير)، و(الكيد السياسي)، وكأن عشرات الألوف الذين قُتلوا من أهلنا قد قضوا نحبهم في إنتحار جماعي، فقد كشفت محاكمة فرعون مصر أن مثل هذا الحديث لا يُثمر، الاٌ إذا سلٌمت الإنقاذ بأن ما في عروق الشعب المصري دم حقيقي، وأن ما يجري في عروق شعبنا ماء صرف صحي.
لقد عشنا حتى رأينا اليوم الذي يهتف فيه الشعب المصري بكل هذه البسالة بما يستعصى على حلوق شعبنا المقهور، تُرى ألا يزال البعض منٌا يقول: “نحن الشعب المُعلٌم !!”.
سيف الدولة حمدناالله
[email protected]