من التجارب الملاحظة في العمل العام أن هناك جماعة لا توجه نقدها إلا للسلطويين البعيدين عن شبكة علاقاتها الاجتماعية، والجينية، والعشائرية المعقدة. وأحيانا يبدو أن “بلع الذمة” وارد حين يضع الموقف أحدهم أمام ضرورة لنقد أستاذه، أو قريبه. ولكن إن جاز له أن ينتقد موقفا مشابها فعله شخص آخر لا تضمه معه صداقة، أو أواصر قربى، فإنه سيرفع عقيرته ليلعن سنسفيل أجداد ذلك الشخص. ومن الجانب الآخر نشأت ضمن هذه العلاقات المتشابكة كتل اجتماعية لدعم مسيرة المتعثرين في الإنتاج الإبداعي حتى إن المبدعين الحقيقيين صاروا مثل اليتامى في زمان التواصل الاجتماعي الكثيف. وهذا الوضع المعيب غيب المعايير الفنية التي كانت تتبناها لجان رسمية. فيكفي أن تشكل لك فرقة فنية حتى تجد ساعة في زمن فضائية. إذ تستضيفك
مذيعة تحت التدريب، قريبة لك، وأنت لما تنهض بعد بعمل خاص فريد لك، بل لا تنسى هذه المذيعة الملونة أن تسألك عن برجك، أو علاقتك بالنورس.
بين تجاهل نقد الأقربين الناشطين في العمل العام ودعم أنصاف المواهب تضيع فرص الإصلاح الشامل. ولا نتخيل أن الديموقراطية وحدها ستسعفنا إن عادت، واستقرت، لو أننا لم نفرق بين الخاص والعام. وحتى في أزمنة ديموقراطية سابقة لاحظنا أن المحاباة الأيديولوجية، والطائفية، والمناطقية، أفرزت وزراء أميين عهدت إليهم تربية الناشئين، والشباب. ولا يظنن أحد أن المعارضة القائمة تنشط بمنجاة عن الخلل المركب بعمق في الشخصية السودانية خصوصا، والإنسانية عموما. فعواطف الناس تتدخل في العمل العام متى ما ـــ وكيفما ـــ اتفق، ولكن في زمان دولة المؤسسات تُضبط المعايير، وتنكمش المحاباة، أو العاطفة ساعة التقييم، ويبقى لتفعيل القوانين دور في الضبط أيضا. ولو أن في الأنظمة الديموقراطية الحقيقية تستند المحاسبة على سيقان راكزة فإن في زمان الانحطاط الذي نعايشه في مجتمعاتنا تترسخ العاطفة في العمل العام بديلا للعقلانية. بل إن المعايير التي تحاسب الفرد جمعيا، وتكافئ المبدع فرديا، تظل نشطة، وتتطور بتطور التشريع القانوني، وبناءً على تجارب الناس المستقرة.
كثيرون يتوهمون أن مشاريعهم الأيديولوجية، والتربية الدينية، والمقررات الوطنية، والتقدم الحضاري، تمنع، وحدها، مثل هذه التحيزات. وبالتي يتوقعون أن عوامل السلام، والتقدم، والازدهار، والمساواة، ستعم البشرية بمجرد تنفيذ منظومات الأفكار تلك. ولكن الأفكار الفلسفية التي تضبط مكر الإنسان ربما لم تنفذ بعد ليكون متمدنا، ومتخلصا من إحنه الذاتية. ولعل خلوص البشرية الى مرحلة التمدن، وليس التحضر، والتي ما تزال عصية المنال هو بداية المشوار نحو تحقيق مجتمع مثالي.. هو ذاك الذي ظل يوتوبيا في مخيلة الفلاسفة، والمفكرين، والشعراء، والرسامين.
-2-
هناك مثقفون، ومتعلمون، دعموا الإنقاذ لسنوات عديدة. ومن بين هؤلاء بعض أساتذة جامعات، ودبلوماسيين، وفنانين، وإعلاميين، وكتاب، وأدباء مشهورين. عندما نحاول بهدوء مراجعة هؤلاء المثقفين بحكم تعليمهم المتقدم في علاقتهم بسلطات الاستبداد تنبري لنا ثلة من أصدقائهم، أو جيرانهم، أو أقاربهم، أو تلاميذهم، في المعارضة ليعنفونا، ومن ثم يحاولون إيجاد العذر غير المتماسك في خدمة الاستبداد. ومتى ما كان قلمك يعبر ناقدا ضد علي شمو مثلا فإن المعارضين سينقسمون إلى فريقين. فالذي لم يتتلمذ علي يد خبير الإعلام سيثني عليك، ولن يذكرك بأنه كان مذيعا لامعا، وحاور أم كلثوم، وتقلد مواقع مرموقة، وحقق للسودان سمعة طيبة في إدارة العمل الثقافي في الخليج، وهناك آخرون لم يلتقوا شمو قط يفرحون لأنك ضربت التابو. أما إذا راجعت أستاذ الأجيال يوسف فضل وقلت له إنه عيب عليك، وأنت بهذه القامة العلمية، أن تقترب من خدمة نظام دموي مثل نظام البشير عبر الحوار الوطني فإن زملاءه، وتلامذته، وأبناء منطقته، المعارضين يشخصنون الموضوع. ولهذا سيكونون أول من يذكرونك بأنك لم تراع كده التاريخي، ودوره في خدمة الأكاديمية السودانية عموما. أما الذين تجمعهم صلة قربى بزميله البروفيسير عبدالله أحمد عبدالله فيثنون عليك، ويشدون من أزرك كون سهام قلمك لم تنوشه لمجرد بعض خدماته التي بذلها للنظام. وهكذا ستجد نفسك أمام نفاق سياسي حامض من معارضين، أساسه المحاباة في العمل العام، والتي تفرضها العلاقات الأولية بينما تبقى أي محاولة لعقلنة السجال الذي يؤسس لمثال رفيع حول المثقف أمر تتوهمه أنت مع أصحاب قليلين لك.
هذا السجال مع هؤلاء العلماء لا يقوم على تبخيس أدوارهم المهنية المعروفة، أو الحط من شخصياتهم كرجال ونساء لهم وزنهم في المجتمع. كلا. فالأمر يتصل فقط بطرح أسئلة موضوعية حول دورهم الأخلاقي تجاه الاستبداد ما دام تحصلوا على أرفع درجات الوعي، وملكتهم الخبرة الحياتية في التفضيل بين خير الديموقراطية وشر الشمولية. بل إن هؤلاء الأساتذة انتظروا طلابهم الذين واجهوا البمبان ليشعلوا ثورتي أكتوبر وأبريل ثم حصدوا الوزارات.
-3-
إن سلبية الشلليات التي تقوم على تقديم الخاص على العام لعبت دورا بارزا في تدهور السودان منذ استقلاله. وقبل مجئ الإنقاذ لعبت الأنظمة الديموقراطية والشمولية على حد سواء في ترسيخ هذه الشللية في بيئة العمل. ومع الاعتراف في التفاوت بين الشلليات هُنا وهناك فإنها مما ساهمت في ضياع الديموقراطية نفسها، ذلك أننا لم نخرج من عشائريتنا الريفية، وشللياتنا المدينية، لنوطن النقد الجاد للرمز المثقف، وأن نضع معايير صارمة لتقديم المناصب لمن يستحقونها. فالوفاء للوطن لم يبق مقدسا في زمان استشراء ثقافة تقديس الرموز. وتذكر أن هذا التقديس لم ينشأ مع نشوء الإنقاذ وإنما له آداب غائرة في وعي الناس ولا وعيهم. وليست الطائفية وحدها تقدس رموزها، وإنما احترفته كل جماعة حرمها الله من الاستبصار النقدي تجاه كل رمزية سودانية.
ومع تدهور الأوضاع في بلادنا انتهينا إلى مجتمع متقوقع على علاقاته الأولية ما انعكس على ضمور معايير الإبداع القومي. ففي المشهد الثقافي نلاحظ صعودا في الشللية التي ترسخ المحاباة الإبداعية أكثر مما تنحاز للأصوات التي تملك مشاريع إبداعية مثابرة. بل إننا نلاحظ انحيازات تأخذ السمة الجيلية، إذ يتمترس جيل الآباء في نوستالجيا تمتد إلى عصر عثمان حسين بينما ينكمش الجيل الوسيط على ذاته على اعتبار أنه حقق النقلة نحو الحداثة، أما الجيل الجديد فقد انفرد بمنابره. وهكذا كل يغرد على هواه، ويرى أن الإبداع بدأ معه، أو انتهى في مرحلته، في ظل غياب التجسير الذي كان يتم في العقود الماضية بين الأجيال.
إن جرأة النقد أو المراجعة الموضوعية لخطر هذه الشلليات الإبداعية، وخطر المثقفين المتعاملين مع سلطة البشير الغاشمة هما الضمانة الوحيدة للإصلاح. ولا يتخيل المرء أن يكون هناك مستقبل معافى دون كسر التقديس الذي نحيط به قاماتنا العلمية، والأدبية، والأكاديمية، والإعلامية، والدبلوماسية، والتي ورطت البلاد في هذا الدرك الأسفل. ولذلك ينبغي ألا نعفي هذه “الشخصيات الرفيعة” من التذكير بأن القامات العلمية تزين بالالتزام الأخلاقي تجاه مجتمعها الذي علمهم لكي يدعموا الحكم الرشيد الذي ينعكس على واقعهم الحياتي.
إن سؤال الموقف الأخلاقي من الاستبداد الموجه للذين تلقوا تعليما نظاميا رفيعا ينبغي أن يجيب عليه المثقفون، والمتعلمون، بكثير من الاحترام للعقول الواعية. ولا ينبغي أن نوجد عبر الإجابة الأعذار الواهية لأقاربنا، وأصدقائنا، وأساتذتنا، الذين ينشطون داعمين للاستبداد في حقول الإعلام، والفنون، والدبلوماسية، والتي تشمل نخبا واعية، إذ تلقت تعليما مميزا، وينتظر منها أن تنور ضد الاستبداد لا أن تكون عاملة ضمن منظوماته الحكومية. هذا الطرح ليس مثاليا وإنما تحتمه ضرورة وجود الاستقامة الطبيعية للإنسان الذي تعلم من مال شعبه المحاصر الآن بإجرام الإنقاذ.