د.الشفيع خضر
ثلاثون عاما والنظام الحاكم في السودان يمارس أساليب تبرهن على قدرات فائقة في المناورة والمراوغة والكذب وسرعة تغيير الألوان، وكل ذلك بإسم الدين. فهو يتقن جيدا متى يعلي من نبرة الخطاب الديني ومتى يخفف منها، متى يستجدي عطف أمريكا ومتى يهرع إلى روسيا طلبا للحماية من أمريكا، متى ينضم لهذا المحور الخارجي ومتى يقفز للإنضمام إلى المحور المضاد. ولكن، أهم من ذلك كله، إستفاد النظام من سنوات التمكين الثلاثين هذه في توظيف أجهزة الدولة الحساسة، والتي من المفترض أن تكون أجهزة قومية بعيدة عن الحزبية، توظيفها لتصبح أدوات طيعة في أيديه، ويستوي في ذلك أجهزة التمويل المالي، كالبنك المركزي، وأجهزة حماية العدالة، كالقضاء، وأجهزة تنفيذ القانون، كالشرطة. أما خط الدفاع الأول عند النظام تجاه خصومه السياسيين والفكريين فهو التعذيب والقتل، وبأبشع ما يمكن أن يخرج من النفس البشرية غير السوية.
والمسألة لها جذور تكمن في التعصب وضيق الأفق اللذين دائما يفضيان إلى التسلط والطغيان، كمبتدأ، ثم تتداعى سائر الكوارث المرتبطة بهما، والتي تصل حد الفساد والإفساد، وعبادة الشهوات، خاصة شهوة السلطة وشهوة الجاه والمال. والحاكم المتعصب ضيق الأفق، والذي يصر على أنه وحده من سلالة الصحابة وأهل الحق المطلق، وهو لا يحس وجود الآخرين وآلامهم ومشاكلهم، ولا يراعي لإهتماماتهم وإختلافاتهم العرقية والدينية والثقافية، ولا يرى في الآخرين سوى أنهم قوى البغي والعدوان، ولا يتحرك في دواخله الإحساس بالذنب ووخز الضمير القادر وحده على كبح تصرفاته العدوانية تجاه الآخرين، لذلك يرى قمعهم والتنكيل بهم حلالا، هو قطعا غير سوي.
والحاكم الذي لا يرى شخصا سواه، تقيا ورعا صالحا ووطنيا، دائما ما يسوق لنفسه التبريرات التي تفتح أمامه أبواب الفساد والافساد، فيطابق بين قضايا الوطن وقضاياه الخاصة، واضعا مصلحة الذات فوق مصلحة الوطن. وبسبب كل ذلك، أصبح السودان، بعد ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ، دولة فاشلة تماما، وكان لا بد من التغيير.
والآن، ورغم أنف أي مكابر يسعى للي عنق الحقيقة، تواصل رياح التغير إندفاعها في السودان لتؤكد أن نظام الطغيان والإستبداد والفساد، سواء ان حكم البلاد بإسم آيديولوجيا دينية، أو كان يدعي إنه الأقرب إلى الله، أو كان يخطرف بأن أغلبية الشعب معه وتحبه وأن معارضيه هم أقلية باغية بائسة، هو نظام مرفوض وضد المجرى الموضوعي للتاريخ، لذلك سيذهب إلى المزبلة، طال الزمن أم قصر. صحيح أن شظف العيش، وتقصير النظام عن توفير الاحتياجات المادية للناس، هي من أسباب ثورة الناس عليه، لكنها ليست السبب الرئيسي. وبعض الناس يعتقدون، خاطئين، أن مجرد رفع المستوى المعيشي للمواطن وتوفير القدر المعقول من احتياجاته المادية من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وصحة….الخ، كاف لأن يلتزم هذا المواطن الصمت ويرضى بحكم الطغيان والاستبداد، ولكن، فعلا «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»!. فالإنسان لا تنحصر احتياجاته فقط في الأكل والشرب وسائر الغرائز الأخرى، فهذه سمات نشترك فيها مع الحيوان، ولكن احتياجات البشر المادية ستظل منقوصة وتشوه معنى الآدمية إذا لم تكتمل بتلبية كل ماهو متعلق بالوجدان والمشاعر والوعي وحرية الضمير، وبأن كل الناس، يرغبون في التصرف كأسياد، وليس قصّرا، لهم موقف حريص حيال كل ما يجري في بلادهم. وأي نظام ينفرد بالحكم ويتحكم في مقدرات البلاد ضد رغبات شعبه، ولا يوفر الفرص المتساوية للجميع للمشاركة، ويتجاهل احتياجات المواطن المادية، وكذلك الروحية، ستأتي لحظة يتفجر فيها غضب الجماهير مطالبة برحيله. وهي اللحظة التي يشهدها السودان اليوم.
إن الوعي بضرورة التغيير في السودان ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج عملية تطور تراكمي متواصل. يتولد هذا الوعي من خلال المعاناة والشعور بالغبن وضرورة إزالته، كما يتغذى بإستلهام دروس المقاومة والاستنهاض، سواء من حقل التاريخ الوطني لبلادنا، أو حقل تاريخ وتجارب الشعوب الأخرى. والوعي بالتغيير أخذ شكله المنظم والمرتب في إتجاه صيرورته في فعل ملموس وشعار ملموس ومواعين ملموسة، من خلال جهود مختلف النشطاء، السياسيين ونشطاء المجتمع المدني. وهي جهود ما كان من الممكن أن نرى نتائجها المباشرة الملموسة إلا لحظة إنفجار بركان الغضب الشبابي، ثم إندفاع سائر قطاعات الشعب لتزكية نيران هذا البركان، وهو يرسل حممه لتتخذ مسارين، غير متوازيين، بل متقاطعين ويؤثر كل منهما على الآخر.
مسار في إتجاه دحر نظام الإنقاذ، ومسار في إتجاه توفير فرص النمو والتطور الداخلي للنظام البديل بمشاركة كافة القوى التي أطاحت بنظام الاستبداد والطغيان. لذلك، لم تكن صدفة أن توحدت مختلف الرؤى والمنطلقات الأيديولوجية والفكرية والسياسية من سائر قطاعات الشعب السوداني، في البدء تحت مظلة «تجمع المهنيين السودانيين»، ثم تحت المظلة الأوسع، مظلة تحالف قوى الحرية والتغيير، والتي تضم تجمع المهنيين والأحزاب والكيانات السياسية المعارضة، لتهدر في الشوارع: حرية، سلام، وعدالة، والثورة طريق الشعب، وكأننا نشهد صورة متجددة للثورة الفرنسية الكبرى 1789 ـ 1799. ومثلما مرّت الثورة الفرنسية بعدة مراحل، فإن انتفاضة الشعب السوداني يمكن أن تشهد عدة مراحل. ومثلما أفرزت الثورة الفرنسية قياداتها ورموزها، فإن ثورة السودان ستصنع أيضا رموزها وقياداتها.
في إحدى رسائله التي ظل يبعثها من السجن، كتب المفكر الإيطالي غرامشي يقول «إن التاريخ ليس في نهاية الامر إلا ثمرة الانسان والارادة البشرية القوية. ولكن ليس الارادة المفردة، بل مجموع الارادات. واذا ما توجهت هذه الارادات بشكل صحيح فانه باستطاعتها الارتفاع فوق الظروف». هذا الطرح العميق حقا، يتجسد اليوم في السودان، حيث تتوحد مجموع الإرادات البشرية وتتوجه بشكل صحيح مصممة على إقتلاع نظام تحالف الطغيان والفساد حتى يعود السودان إلى رحاب الديمقراطية والسلام وسيادة حكم القانون والعدالة الإجتماعية. وحقا شباب السودان مفخرة.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)