محجوب حسين
الدكتاتورية كنظام فردي وسطوي قهري واستبدادي تمتاز في كونها مدرسة وعقلية نمطية واحدة تعمل في وحدة متكاملة وعبر بنية فكرية مغلقة محنطة تتبادل فيها افكارها وتجاربها وأشكال عملها المكرسة في فنون الاستحواذ والسيطرة وضرب القيم البشرية والإنسانية، فيما الاختلاف من حيث أنها أنظمة سياسية فاشلة تنمي الفشل وتعيد تنميته تتمحور حول سياقات ماكينة الإخراج وتبرير الفعل الدكتاتوري أيا كان نوعه، وهو القائم على أحقية ‘مقدسة’ مفادها’سيطرة الدكتاتور واستمراريته وصلاحيته لأي زمان ومكان،’لغاية’المصب النهائي للفعل الدكتاتوري عبر نحت وجوده المطلق في مطحنة مجسم الدكتاتورية، التي يتم فيها توظيف كل المقدسات من الديانات والأعراف والتقاليد، وكل ما عرفته خزائن الأرض من مناهل فكرية وثقافية وعلمية ومنهجية واجتماعية وسياسية وتراثية ودينية، وحتى فنون التجميل و’الميك آب’ إن استدعت الضرورة لتبرير سيادة الدكتاتورية، حيث فقهاء ومثقفو السلطان – كشأن مثقفي الصهاينة العاملين على تبرير اغتصاب أرض فلسطين [2]- هؤلاء موجودون في كل ظاهرة دكتاتورية حديثة أو قديمة أو قيد التأسيس، وأدوات الشرعنة أيضا متوفرة وجاهزة في كل حالة، أما عندما تشيخ الدكتاتورية بعدما تكون قد استعملت معها كل صحف الأرض، تحتها وما فوقها، تنتقل إلى السماء مباشرة في محاولة جادة لإنتاج مسوغات شرعنة وجودها سماويا، بعدما تنتهي شرعنات كوكب الأرض لتبقى سيدة على رقاب البشر باسم السماء، لا يهم البشر جاءوا من أي فج عميق، هذه المصادرة الدكتاتورية تشمل أيضا الحقيقة وجدلياتها وكل قيم الوطنية وحقوق المجتمع في الانتماء ومشروعية الاختلاف وحقوق الناس في الدولة، أما في عضوية نادي الدكتاتورية فعادة ما نجد كل أعضائه هم ‘الصالحون’، ‘الاستثنائيون’ ‘الوطنيون’ الإنسانيون’، فريدون ويمتلكون قدرة فائقة قلما توجد وسط شعوبهم، وإن وجدت لما كان أحد منهم تربع على بلاط شبح السلطة الدكتاتورية، ولكونهم شواذ المجتمع وقياداته لنمط حكم شاذ وتدميري للمجتمعات التي تقع في مقصلتها، في ظاهرة هي’تاريخية وراهنا أفريقية حتى لا أقول عربية أيضا.. والأخطر ما في الدكتاتورية أن تتجاوز كونها نظاما سياسيا أمنيا قمعيا إلى كونها نظاما سياسيا ‘إلهيا’.
في هذا السياق عديدة هي أنواع الدكتاتوريات وشواهدها وأدوات شرعناتها ونماذجها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر دكتاتورية إسلامويي ‘الميك آب’ السودانية- كما يصفها شاعر سوداني ساخر- ذات الوجه الديمقراطي والدستوري، تتشكل من دورة رئاسية انقلابية واحدة، عديد سنواتها خمسة وعشرون عاما فقط! والرئيس فيها منتخب يمتلك شرعية دستورية، لأنه فاز في الانتخابات الرئاسية الماضية وقبلها وما قبل قبلها.. إلخ ويجهز للدورة المقبلة رغم أن الدستور لا يعطيه الحق هذه المرة، إلا أن التبرير السياسي للحكم الذي يبدعون فيه دائما ولا يحتاجون فيه’لعناء’يقول، ان هناك ضغوطا من الحزب الحاكم والشعب السوداني وقرار ترشحه لا يعود إليه وحده، في إعادة لفيلم وثائقي شاهده الشعب السوداني’بالأبيض والأسود والملون’25 مرة’مجانا ومجبورا، الشيء الذي جعل الشعب نفسه إن سألته اليوم لا يعرف للحكم أي مرجعية، لا في النظم السياسية ولا القانون الدستوري، على الأقل المعروفة منها أو قل حتى في نظم الخلاوي والشوارع والأسواق والسجون. كما لا يعرف الحد الأدنى ولا الأعلى لمدة التشبث بالحكم، إننا أمام تعمية ودورة لانهائية وحاكم أبدي مطلق يبدل قناعاته وطروحاته وشرعة وجوده وخططه وفق شروط الزمان والمكان ومراكز القوى في نظامه، وقت ما أراد، ليؤمن مقعده أكثر من تأمينه لحياة واستقرار الناس في بلد تحول ساكنته إلى المخيمات، لتتحول هي الأخرى إلى أوطان وحروب مستعرة في كل أجزاء السودان [3] مع انهيار في البني الفوقية والتحتية وانتهاء لكل أسس دولة الحق والقانون، أو قل اللاقانون واللاحق، مع ملاحظة أن’ الكرسي’ ذاته أضيفت إليه مهمة أخرى وهي الاستفادة منه لتوفره على حصانة السيادة وامتيازاتها الأمنية، لأن الكرسي متهم باسمه وتاريخ ميلاده وشهوده وضحاياه ومطالب بالمثول أمام العدالة الدولية بتهم تتعلق بالإبادة وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية – هذا ليس من عندنا- فيما مقيد ضد مجهول في مؤسسات العدالة السودانية الوطنية، الأمر الذي يفسر على أنه جزء من التمترس والاختباء فوقه أو حوله أو فيه.
على الصعيد ذاته وبالعودة للحراك اليومي السياسي السوداني واستحقاق التغيير الذي بات وطنيا عبر إسقاط نظام الرئيس السوداني، الذي لا تعرف له هوية غير أنه نظام حربي، نلحظ وباهتمام بالغ في أي’ مطب’ سياسي أي ‘زنكة ‘- كما تعرف في العامية السودانية- للحكم السوداني نجده يذهب سريعا ويسند موقفه بذكر الآية الكريمة القائلة في محكم تنزيله ‘قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء’ ونعم بالله، صدق الله العظيم.
ورد هذا الاستدلال الذي يساوي ‘الشرعية السماوية’ على الأقل أقول من جانبي- حاضرا- في خطابين للحكم السوداني معززا موقفه بالآية الكريمة، الأول إبان إصدار المدعي الجنائي الدولي مذكرة التوقيف، وفي مخاطبة جماهيرية شاهدها العالم كله عبر شاشات التلفاز، اختير لها إقليم دارفور موقع الاتهام، وفي رسالة سياسية في الغالب موجهة للغرب والمحكمة الجنائية حينئذ بالقول، ان هناك مؤامرة دولية لإسقاط نظامه الإسلامي المتمرد على العالم والجميع تحت ‘بوته’ … إلى مسك الختام بالآية الكريمة. أما الثاني فجاء قريبا إثر التظاهرات الأخيرة للشعب السوداني في ايلول/ سبتمبر الماضي ضد الحكم، وفي مؤتمر صحافي كبير وبحضور عدد كبير من أعضاء الحكومة، سأل أحد الصحافيين سؤالا لا أتذكر نصه بالضبط، إلا أن ‘الحكم’ قال في رده، إن أي تغيير في السودان يجب أن يكون عبر صندوق الاقتراع ، ويعني وفق مسطرة ديمقراطية الإمبراطورية الربع قرنية الفائز فيها واحد من دون أي ناخب، مضيفا ألا أحدا يستطيع تغييرالنظام عبر هؤلاء المخربين والمندسين شذاذ الآفاق، في توصيف للقوى الجماهيرية المحتشدة المنادية بإسقاط النظام، الذين قتل منهم أكثر من 200 شخص بالرصاص الحي، حسب توثيق ناشطين ومنظمات دولية، مجددا في ختام الرد على سؤال الصحافي الآية الكريمة ذاتها.
التوقف في الإشارات السابقة حقيقة يطرح استفهاما غاية في الأهمية، هذا الاستفهام يحتاج إلى اجتهاد فقهي، ولكن يبقى من أي مركزية دينية، والسؤال هو كيف لقوى التغيير السودانية، سواء قوى عسكرية مسلحة ثورية سياسية او الديمقراطية الوطنية المدنية، وغالبيتهم مسلمون في أن تصل إلى تغيير سلمي، أو قل عسكري مع نظام تجاوز كل شرعناته الأرضية وصاحب السلطة الزمنية يشير إلى شرعية سماوية في وجود ملكه، لا الدبابة ولا صندوق الاقتراع… فإنا والله مطيعون لأمر الله الذي لا آمر له، إن ثبتت هذه الشرعية، ومعها تبقى عملية استحقاق إسقاطه ثورة أو سلاحا- من طرف قوى التغيير قد تدخلها في معصية لمخالفة وطاعة أولي الأمر، وهي فرضية تدفع بالكف عن ذلك والاكتفاء فقط بالتضرع إلى الله ساجدين شأن كل المؤمنين المسلمين وبقناعتنا العقائدية الإسلامية، في كل صغيرة وكبيرة في أن يرفع عنا الابتلاءات من دون فعل السببية، رغم أن الله يقول ‘وجعلنا لكل شيء سببا’.
إلى ذلك وفي بحثي المختصر حول تفسير وسبب نزول هذه الآية الكريمة علما اني لم أكن فقيها دينيا في علوم تفسير القرآن الكريم ـ تبين لي أن الآية الكريمة جاءت واضحة من خلال مضمونها اللغوي، وأنزلت لمخاطبة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم كما ورد عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي ‘قال ابن عباس وأنس بن مالك: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ووعد أمته مُلْكَ فارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات! هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعزُّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. واشترك معه في التفسير ابن كثير مضيفا، ‘وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وعلى هذه الأمة، لأن اللّه تعالى حوّل النبوّة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي خاتم الأنبياء على الإطلاق’، كما ورد في ‘تفسير الجلالين’ ما يفيد نفس المعنى الذي هو واضح وجلي، إلا أن الأزمة في اعتقادي تكمن في مسألة النص الديني ومقصد نزوله وشكل تأويله سياسيا، بما يحقق رغبات أهل الحكم في حاضرنا اليوم، علما بأن المدارس الفكرية الفقهية بينت في أكثر من منحى أن خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم نفسه فصل في أكثر من موقف بين أمور الدنيا والدين، أي بين السلطتين، الزمنية والروحية ‘النبوة’ و’الملك’. وأمام هذا لا تفسير لدينا ولا تعليق أو تأويل أو قياس حول زعم الشرعنة ‘السماوية’ للحكم السوداني الذي انتقل إلى مصاف أخرى. إلا تساؤلنا القائم والقائل هل يجوز فقهيا لكل ‘حاكم أودكتاتور’- بالضرورة أن يكون مسلما في هذه الحالة – أن يبني شرعية حكمه وفق الآية الكريمة؟ وهل الاستدلال سياسيا بهذه الآية بالنظر إلى سبب نزولها والجهة المخاطب بها يكون السياسي صاحب التوظيف قد وضع نفسه موقع النبي محمد صلى عليه وسلم، مع الإشارة إلى أن مشارب الفقه والاجتهاد الإسلامي أكدت وبالدليل الشرعي القطعي القرآني والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين على مبادئ ينبغي أن تتوفر في شرعية الحاكم المسلم، وهي الشورى وإجماع الأمة والعدل والمساواة بين الرعية والأهلية، ومع انتفائها’ في ظاهرتنا يبقى’ذاك هو الإجماع المتفق عليه، أما أن تأتي”بدبابة ليلا وتقول لنا ‘سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين’ فهذا أمر مختلف.. إنني ضد الرئيس، مع الرئيس.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن
“عن القدس اللندنية”