لا ينبغي النظر إلى ظاهرة شيخ الأمين إلا ضمن السياق العام التي تخلقت فيه عند زمن الإنقاذ. وفي هذه الحالة يغدو الشيخ منتجا اجتماعيا لضرورات التعريف بالمرحلة التي يعايشها السودانيون بدهشة لا محل لها في الإعراب. فنحن ندرك أن هناك تقويضا للمجتمع المتدين الذي نشأ عليه السودانيون قبل الثورة التي انتهى حالها شبيها بحال الثور الذي في مستودع الخزف. وبالتالي فهالة الشيخ التي اكتسبها إعلاميا طبيعية، على الأقل في جانب أنها تمظهر جيد للبنية التحتية، والفوقية معا، ليس إلا. وإذ إن هالة شيخ الأمين تمثل إحلالا لمشيخات قديمة، وإكساب نفسها البعد الأسطوري، فإن الأمين لم يفعل شيئا سوى أنه جوهر لنا ذاته كشيخ متدين على كيفه، ومعه لوازم أخرى. فهو يحاول إصباغ الدين بـ”مظاهر التحديث”، أو فك الارتباط بين الصوفية والفقر، أو أنه يسعى إلى الربط بين الرأسمالية المستثمرة والتدين، أو إلى خلق “تدين طبقي” لا تقترب منه إلا الجميلات، ويلطفه الوسيمون من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة. ووضعه هكذا، فالشيخ يرنو إلى القيام بتنزيل الدين على مستوى لحظات الحنة الطقوسية للعرسان، وعند لحظات التعاقد الحكومي مع جهات خارجية لدواعي المب
اركة.
كل ذلك هو ما ارتبط بتراث شيخ الأمين، ولو أنه اكتفى بهذا التجريب الديني الحر في خلوته في ود البنا لما انشغل به أحد غير حيرانه. فكل أمرئ راشد هو مسؤول عن ما يفعل ما برح محافظا لحدوده القانونية. ولكن الشيخ الأمين أراد أن يجير تراثه لكسب الشهرة، والتواءم مع السلطة، في مجتمع ما تزال الخطوط الحمراء تكبله، وأحيانا تحافظ عليه. فمن جهة، جرت عليه حداثته الدينية المتصورة مشاكل لا حصر لها. فبعض المعارضين لطريقته في لم شمل البنات والاولاد في الحلبة الصوفية أضمروا له شرا. وحاول الاستقواء بالسلطة حتى يثبت وضعيته كشيخ جديد يريد أن يفتح مجالا للبناء الإسلامي انطلاقا من حي ود البنا. ونجح في ذلك الحلم لإحاطة نفسه بمدافعين عن حقه في تثوير الحي دينيا. وذهب أكثر من ذلك ليوظف تقاربه مع رموز القصر للقيام بأعمال يخدم بها استثماره المالي، والديني، ولتوسيع إمبراطوريته الدينية على مستوى تخوم أوروبا. ولكن لم يحسب الشيخ نتيجة مغامراته في اللعب ببيضات الدين، والاستثمار، والسلطة. فكل المشاركين في واحد فقط من هذا الثالوث تنتهي تعاقداتهم بالخلاف تارة، والمحاكم تارة، وربما القتل تارة أخرى. فما بالك بالذي يريد أن يدخل ساحة العمل العام وهو يوظف عبر جيبه الخلفي الكروت الثلاثة لمقتضى توسيع النفوذ الشخصي.
الناحية الخادمة لهالة الأمين هي أن اقترابه من السلطة حماه من هجمات التكفيريين، والسلفيين، الذين شككوا في صدق طويته، ولم يجدوا في صنيعه المحدث إلا الشعوذة، وإفساد أخلاق المجتمع، وإهدار القيم. ولكن لم يحمه ذلك الارتباط بالسلطة من هجمات المعارضين الذين وجدوا في نموذج حراكه المفتوح علامة على التواطوء مع القبح السياسي. فهو من ناحية فُتحت له أبواب القصر التي يزاورها، وحُمِل برسائل دبلوماسية لقادة الخليج رغم أنف البرتكول. ومن ناحية أخرى صار حاضرا عند توقيع عقودات معتبرة لاستخراج الذهب السوداني، فضلا عن احتلاله مساحات واسعة في الإعلام الذي حُرمت منه المعارضة. ولكن كل ذلك لم يحمه من الاعتقال بعد عودته من رحلة الإمارات التي تعرض فيها للاعتقال أيضا. الشئ الأهم هو أن المعارضة وجدت في نموذجه الديني الصارخ ربطا مع نماذج اعوجاج شبيهة في مجالات عدة. وعليه أصبح الفريق طه، والشيخ الأمين، والكاريدنال، وبله الغائب، وصديق ودعة، وحميدتي، رموزا وطنية في مقابل رموز المعارضة التي عُوقت مشاريعها. بل خُونت في سبيلها إلى إيجاد موطئ قدم لنفسها على ناحية النشاط السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، وغيرهم. وهاهنا يصح وصف الشيخ الأمين بأنه فضل الانتهازية في تحقيق مجده الشخصي عبر علاقات مصالح لا علاقة لها بالمصلحة العامة، أو الدين. إنه لم يكن إلا طرفا من أطراف الفساد الذي عم كل مستويات العمل العام، إذ صارت المعايير الشفافة غائبة في الحصول على المال الحلال، وذلك في وقت أصبحت فيه قدرة الفرد على إقامة العلاقات العامة مع رموز السلطة مدخلا للثراء السريع، وسببا للحصول على الصيت الاجتماعي، ومجالا لحيازة النفوذ إزاء مستويات أخرى.
ما قبل الشيخ الأمين كان هناك شيوخ يفصلون بين مقام السلطة ومقام الدين. منهم البرعي، وصايم ديمة، ومحمد عبده البرهاني، والصابونابي، وأبو قرون، وأزرق طيبة، والفكي ود بدر، وفوق كل هؤلاء البروفيسير الفاتح قريب الله. كانوا شيوخ طرق يتحاشون الإعلام، ولا يقتربون من السلطة مطلقا، أو قل المتاجرة بهالاتهم الصوفية في العمل العام. ربما وعوا حقيقة معنى “يا واقفا عند باب السلاطين..أرفق بنفسك من هم وتحزين”. أو ربما انبنت قاعدتهم الصوفية على طبيعة زاهدة، وصبر على قسوة الحياة، وأمل في حياة أخرى رغدة. كان أولئك الشيوخ يستقبحون الدعوات الرئاسية إليهم، والتي تسعى لاستثمارهم في الصراع بين السلطة والمواطنين. يعيشون في ديارهم المفقرة إلى الخدمات كافة، ويأكلون مع حواريهم جالسين، ويخاصمون حياة الرفاهية، والدعة، ومراكمة الثروة. بل كانوا يتواصلون بالدواب، ولاحقا العربات المتواضعة، ولا يقتربون من سوق، أو سلطة، أو سيد. وإذا جمعتهم الملمات مع السلطويين يواصونهم بالحق، والمناصحة، ثم ينصرفون. كانوا يقولون إن “الدنيا جيفة..وتركناها لكلابها” وعلى هدى هذا الفهم المبسط لا يعيرون اهتماما بها، ويصرفون غالب أوقاتهم في ترقية صوفيتهم، وتنمية تأثير مشيخاتهم. لم يكن يتنافسون في الاستثمار. كان التنافس بينهم مبينا على إظهار الورع، وخدمة المسيد، وإظهار الكرامات. ولكن للشيخ الأمين رأيا آخر. فهو استنكف هذا الربط الجدلي بين حياة التدين وحياة الفقر. فركب الفواره من العربات الحديثة، وارتدى الملابس المصممة خصيصا لإثبات أن هناك علاقة جمالية بين الدين وحياة العبد. وحين يُسأل الأمين عن هذه الدعة يقول إنها من أمر ربه، وفضله، وكثير نعمائه. ويقيم الحجة أكثر بأن على الناس ألا تربط بين المظاهر، وأن من واجبها أن تنفذ إلى معرفة مشاريعه الدينية التي أثرت على الشباب، وحمتهم من الولوغ في آسن الممارسة الاجتماعية. وأحيانا يشير إلى عطاياه التي يقدمها للسائل والمحروم، وابن السبيل.
الآن أخرج الشيخ الأمين هواءه الساخن من جوفه المحروق بأفعال صديقه الفريق طه. ولعله بهذا قد وصل إلى قناعة جعلته يهدد بالخروج عن الإسلام ذاته في حال نجاح مشروع الوثبة. جميل. ولكن لماذا سكت الشيخ الورع كل هذا الوقت دون أن يناصح أمته بهذه “الرؤيا ـ الكرامة” التي كان يمكن أن توفر على المخدوعين بالحوار وقتا ثمينا. أغلب الظن أن تباين المصالح هو الذي قاد الأمين لإعلامنا بهذا الفتح وعندئذ فإن بيضة الدين لم تكن إلا وسيلة الشيخ لبلوغ طموحاته الاستثمارية المتعددة. والدين في بلاد السودان ظل استثمارا ناجحا، وسريع العائد، ولذلك استفاد الأمين من هذا التراث، إذ رأى أن الزعامات الدينية التقليدية، عوضا عن تقديم نماذج للإيثار، والتضحية، فإنها ـ بجانب أبنائها ـ لا تعيش على الكفاف. فهي تعوم في برك من الثروات التي حققت بها أمجادها الشخصية في التسيد على غالب المواطنين، ومع ذلك ما تزال أكثرية النخبة تؤمن بأن هذه الزعامات ستخرج البلاد من حالات الفقر. بقيت للشيخ الأمين بيضة الاستثمار الذي جنى ثماره حين خلطه بالدين، ووظف علاقاته بأركان النظام، ودوائر إقليمية. وربما يحتاج في قابل الأيام إلى إدراك أن حاجته صعبة إلى مواصلة اللعب ببيضات الدين، والاستثمار، والسلطة، في آن واحد.