حقوق الأقليات ومكابرة الأنظمة السياسية
حسين العودات
خاضت الحكومة السودانية معارك دامية مع (جيش تحرير جنوب السودان) خلال سنوات طويلة، راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى (إن لم يكن مئات الآلاف)، ثم اضطرت للموافقة على عقد اتفاقية مع الجنوبيين، يتم بموجبها تقاسم مبدئي للثروة والسلطة، ثم يجري استفتاء يقرر فيه الجنوبيون.
إما الانفصال عن الدولة المركزية أو البقاء تحت رايتها، والحصول على حكم ذاتي (فيدرالي) هو في الواقع (كونفيدرالي) لا يختلف كثيراً عن الانفصال. وقد أعطت هذه الاتفاقية للجنوبيين أكثر بكثير مما كانوا يطالبون به قبل حملهم السلاح، و(هذه حقوقهم على أية حال).
ووقعت الحكومة السودانية نفسها قبل أيام اتفاق إطار مع منظمة (العدل والمساواة)، وهي أهم المنظمات المعارضة المسلحة في (دارفور) غرب السودان، بعد صراع بين الطرفين فقدا فيه عشرات آلاف الضحايا (إن لم يكن مئاتهم)، وينص اتفاق الإطار هذا أيضاً على تقاسم السلطة والثروة.
وقد أعطى بدوره للحركات الدارفورية المناوئة أكثر بكثير مما كانت تطالب به عند انطلاقتها، واعتبر هذا الاتفاق معياراً لمفاوضات الدوحة التي جرت وتجري بين الحكومة المركزية والفصائل السودانية الأخرى المعارضة.
وكان سكان مناطق السودان الشرقية، حاولوا منذ سنوات التمرد المسلح مطالبين بالمساواة ثم حصلوا على حقوق (اقتنعوا) بكفايتها، وبذلك تكون الأقليات الإثنية والدينية السودانية حصلت على مكاسب ربما هي أكثر من مطالبها، وكان بالإمكان أن تقبل بأقل منها ويتجنب السودان بذلك الحروب والقتل والدمار وتخريب البلاد وتأخير التنمية وزيادة الفقر والبؤس والجوع في ما لو قبلت الأنظمة السودانية المتعاقبة الاعتراف بحقوق الأقليات.
وخففت مركزيتها المفرطة، وطبقت معيار المواطنة كمرجعية لجميع المواطنين، وأعملت معايير العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وقبلت بالحرية ومارست الديمقراطية، ولو حصل ذلك لكان السودان الآن قد تجاوز المخاطر، وحقق الاكتفاء وبنى الدولة الحديثة، وتمكن من حماية مياهه ومياه مصر من طمع الآخرين ودسائس الإسرائيليين، وقادراً على لعب دور أساسي في تقرير مصير دول إفريقيا الشرقية وشعوبها، وباختصار لتخلص من آلامه وحافظ على وحدة أراضيه ووحدة شعبه.
لم يكن الوضع يختلف بنيوياً في علاقة الأكراد في العراق مع الحكومة المركزية عن حال السودان، فقد تجاهلت هذه طوال نصف قرن حقوقهم، وأهملت شؤونهم، وعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، إلى أن جاء الغزو الأميركي فاستغلوا الفرصة وأصبحوا الشريك الأكثر تأثيراً في مصير العراق ومستقبله، ونالوا حقوقاً كانوا يطالبون بأقل منها بكثير منذ استقلال العراق وطوال (ثوراتهم).
وقد دفعوا ودفع العراق دون طائل مئات آلاف القتلى فضلاً عن دمار البلاد وتأخر التنمية والآلام والآثام والخسائر الأخرى، وكان بإمكان الحكومة المركزية الاعتراف بحقوقهم منذ البدايات وتجنب كل هذه الخسائر البشرية والمادية فضلاً عن الشروخ التي تعمقت بين شرائح الشعب العراقي وإثنياته.
لم يكن الحال أفضل في اليمن مع الحوثيين، الذين طالبوا منذ مطلع الألفية بالاهتمام بشؤونهم، وخاصة الاهتمام بالبنية التحتية (المدارس والطرقات والمراكز الصحية) فضلاً عن إقامة منشآت اقتصادية وإيجاد سبل عيش للناس ومكافحة البطالة والأمية والفقر، وجميعها مطالب محقة، كانت الحكومة اليمنية المركزية تتجاهلها، وأهملتها طوال عشرات السنين، ورغم تمردهم المسلح أكثر من مرة لم تهتم السلطة السياسية بمخاطر هذا التجاهل، وها هي الآن تعود فتعترف بحقوقهم، بعد أن سقط آلاف الضحايا من أبناء اليمن وتأخرت التنمية والاقتصاد إلى درجة كبيرة.
تطالب أقليات إثنية عديدة في البلدان العربية من مشرقها إلى مغربها بحقوقها، بل بالحد الأدنى من حقوقها، من أكراد سورية حتى أمازيغ المغرب والجزائر، ومازالت الحكومات في هذه البلدان تتجاهل هذه الحقوق، أو تعترف بها اعترافاً شكلياً وكلامياً لذر الرماد في العيون، دون أن تعطيها فعلياً أي شيء.
ويبدو أن هذه البلدان تسير على الطريق نفسها التي سارت عليها حكومات السودان والعراق واليمن، أي تجاهل المشكلة حتى تستفحل وتتحول إلى (تمرد مسلح) يؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاد، ويعمق الشروخ والجروح في الوطن الواحد، ثم بعد ذلك تضطر لإعطاء هذه الفئات من الحقوق أكثر مما طالبت به أول مرة.
يعتبر بعض المثقفين والمتحمسين للأيديولوجية القومية، أن تمرد هذه الفئات الإثنية والدينية أمر شاذ، وأن هذه الفئات كانت سعيدة في عيشها وعلاقاتها مع أبناء وطنها، لولا أن معايير ما بعد الحداثة وشروطها هي التي نمّت في نفوس هذه الفئات النزعة القومية أو التطرف الديني.
فأخذت تطالب بما ليس لها به حق. ويرى بعض السياسيين أن هذه المطالب هي نتيجة تحريض ودسائس خارجية، وتدخل (إمبريالي) في شؤون البلدان العربية، وبالتالي فهي ليست بمثل هذه المشروعية، وربما كانت غير محقة.
أقول، حقاً إن عالم ما بعد الحداثة هو عالم جديد بمشهده وأفكاره ونظرياته، من مزاعمه بنهاية الأيديولوجية ونهاية التاريخ وتراجع مركزية الدولة وتصاعد النزعات الفردية، إلى تنامي التباينات الإثنية والمذهبية وتحولها إلى اختلافات، لكن هذا كله في الواقع، لا يكفي ليكون السبب الذي دعا الأقليات للمطالبة بحقوقها.
والأمر نفسه ينطبق على التآمر الخارجي والدسائس والتدخل الأجنبي، الذي كان موجوداً دائماً وهو ليس بجديد، وعلى هذا فلو أعطيت الحقوق لأصحابها منذ البدء لما وقعت هذه البلدان في مصيدة الحروب الأهلية، ولما أعطت مجبرة ما كان يمكن أن تعطي أقل منه مختارة وتدفع ثمناً مرتفعاً لمكابرتها.
* نقلا عن “البيان” الإماراتية