سيف الدولة حمدناالله
يُخطئ وزير الخارجية المخلوع إبراهيم غندور إذا إعتقد أن الذين هلّلوا لموقفه بمجاهرته بالحقيقة حول عجز الدولة عن دفع إيجارات مقار البعثات الديبلوماسية وعجز بنك السودان عن دفع رواتب السفراء وما دونهم لأكثر من سبعة شهور، يُخطئ الرجل إذا إعتقد أن الذين هلّلوا له قد فعلوا ذلك لأنه بطل فقد وظيفته بسبب شجاعته ولكونه رجل حقّاني، فكل ما هناك أن الشعب ينتشي لأي فعل أو قول يفضح النظام ويكشف كذب الذين اوقوفوا حاله ليشفي غليله حتى لو كان يعلم أن القائل هو الآخر ضلالي وشريك أصلي في الجرائم التي وقعت عليه.
ومن حظ النظام أن الفرقعة التي أحدثها هذا الموضوع جعلت الأنظار تنصرف عن البحث في موضوع الجريمة التي كشف عنها صاحب البلاغ وإنصرفت لشخصه، تماماً مثل الذي ينهمك في إصلاح معالجة مقدمة سيارته ويهمل إسعاف المُصاب في الحادث، فالنقطة الرئيسية (وكل ما دونها يُعتبر أثر) هي: هل كذب غندور على البرلمان؟ أم أن الديبلوماسيون غرّروا به بعد أن قبضوا مرتباتهم من وراء ظهره كما جاء في بيان بنك السودان المركزي؟
بحسب البيان الذي أصدره الناطق الرسمي بإسم بنك السودان، أوفى البنك بنسبة 92% من مستحقات وزارة الخارجية لعام ٢٠١٧ من جملة الميزانية المصدقة للوزارة، وأنه البنك قد إلتزم بسداد المتبقي قبل إنتهاء الثلث الأول من العام الحالي الذي يوالي فيه سداد مستحقات الوزارة بصورة مُنتظِمة وطبيعية، وأمارة ذلك – بحسب البيان – أن البنك قد تلقى رسالة إمتنان من حامد ممتاز نفسه وهو وزير دولة بالخارجية شكر فيها البنك على جهده في الوفاء بإلتزامته المالية رغم شُح الموارد.
من واقع التصريحين (البنك وغندور) هذه قضية يلزمها تحرٍ وسماع أقوال المجني عليهم من ديبلوماسيين وأصحاب العقارات المُستأجرة بالخارج، بيد أن العقل يقول أن كلام الوزير أقرب إلى الحقيقة، فالوزير لا يُمكن أن يدّعي حدوث واقعة بمثل هذا الحجم والوضوح ليُظهِر نفسه كاذباً أمام ألوف من مرؤوسيه من بينهم سفراء وأفندية صغار وكتبة ومحاسبين وعمال وبوّابين، ثم أن تعميم البنك نفسه قد شهد بجزء من صحة زعم الوزير، بأن أقرّ بحدوث عجز جزئي بنسبة 8% في المبالغ التي تم تحويلها في العام المنصرم، وعلى حساب أيّ من الأطراف تم إحتجاز هذا المبلغ؟ من مرتبات الديبلوماسيين أم من إستحقاقات أصحاب العقارات المُستأجرة، أم أن الجميع تقاسموا العجز بنسبة الغُرماء!! وفيم يستحق البنك المركزي الشكر عن جهده في ربع هذا العام وذمته لا تزال مشغولة بدين العام السابق !!
ثم أن بنك السودان عهود المحافظين السابقين صاحب سوابق في عالم الجريمة والتستر عليها، فقد أثرى من وراء ظهره مئات الصراصير الذين فتح فتح لهم الأبواب عبر تعزيز الإعتمادات البنكية ومنح التسهيلات في إستيراد الأدوية والمواد البترولية، وهو الذي أوقف حال الشعب بشهادة جميع أفراده بإنكاره المسئولية عن عجز البنوك التجارية من تمكين المودعين من أموالهم وحجزها عنهم حتى في الحالات الطارئة، وقد نتج عن ذلك فقدان أشخاص لأرواحهم نتيجة عجز ذويهم من سداد مطلوبات المستشفيات نقداً. كما أوقف البنك إستيراد السلع من الخارج في بلد – بعد تدمير النظام للزراعة والصناعة – أصبح يستورد من البصل وأمواس الحلاقة حتى الزيوت النباتية وماء الصحة.
لو أن واحداً من أثرياء النظام كان قد لعن الشيطان وضرب صدره، مثل المبالغ التي عجز النظام عن توفيرها بما يحفظ له سر إفلاس خزائن الدولة، كان يُمكن لأي واحد من الذين نهبوا الخزائن أن يُغطّي مثل هذا العجز من طرف الدولاب، فالملايين التي ضربت أيدي صبيان صغار من صفقات توريد القطارات والقروض التي لم يُعثر لها على أثر، كان يُمكن لأصحابها أن يتطوعوا بالتنازل عن جزء يسير عنها يستروا بها أنفسهم ومن مكّنوهم من جمعها، حتى ينسى الشعب طرح السؤال القديم المُتجدد: أين ذهبت ال 80 مليار حصيلة أموال البترول !!
الوجه الآخر لهذه القضية يكمن في أن وزير الخارجية الذي يشكو حال وزارته للآخرين هو – بالتضامن مع من سبقوه – لهم ضلع كبير في نشوء هذه المشكلة، فقد جعلوا البعثات الديبلوماسية مغنماً لا وظيفة، وأفرطوا في التعيينات والوظائف للأحباب والمريدين، وفي مختلف الدرجات، أنظر إلى حالة الشابة سناء حمد التي حينما أرادت أن تواصل دراستها العليا في بريطانيا لتبني مستقبلها الشخصي عقب عزلها من وزارة الإعلام، جرى تعيينها بدرجة سفير في بعثة السودان ببريطانيا حتى يتيسّر لها ذلك من ميزانية وزارة الخارجية، ثم أرجِع لما كتبه الصحفي عثمان ميرغني عن إنتقال طاقم سفارة السودان باليمن لتسسير أعمالها من داخل الأراضي السعودية وفي مبنى مستقل، ثم أنظر في الإتجاه الآخر إلى عدد السفارات التي أنشئت في دول لا تربطها مصالح مع السودان في أمريكا الجنوبية وأوروبا.
وجه الطرافة في خطاب غندور، إن كان هناك وجه للطرافة، هو ما حكى عنه سيادة الوزير (وهو لا يدري مَكمَن العوار) حول منهج تفكير سفراء السودان بالخارج في معالجة أزمة تسوية إيجارات مقار السفارات ومنازل العاملين بها وقبض أجورهم حين كتبوا إليه – حسبما قال – يطلبون العودة للسودان مع أسرهم، ومثل هذا السلوك يُقال له بلغة السوق اليوم: “خَندَقة”، ولمن لا يعرف هذا المُصطلح الذي نشأ في عصر الإنقاذ، فهو يعني تواري المدين عن نظر الدائن بإختبائه في مكان مجهول أو سفره إلى جهة لا يستطيع الدائن إسترداده منها (مثل ليبيا أو العراق) حتى ينسى الدائن حقوقه أو يقبل بالتسوية التي يفرضها عليه المدين، أو حتى تسقط القضية بالتقادم، ثم يعاوِد الظهور، ذلك أن عودة السفير للوطن في مثل هذه الظروف بعد أن يترك وراءه ديون أصحاب العقارات دون تسويتها أو إخلاء العقارات المُستأجرَة يكون بمثل هذا الفعل مثل قبطان السفينة الذي يقفز إلى قارب النجاة قبل المسافرين.
الحسنة الوحيدة التي تفعلها الإنقاذ أنها تجعل أبناءها يتجرعون من نفس الكأس الذي سقت منه خصومها، وأنها تعرِك أنوفهم بالتراب، ولكن لا ينبغي أن يجعلنا ذلك ننسى جرائم الفساد والنهب التي إرتكبها هؤلاء “الملافيظ” لمجرد خروجهم من الوزارة ومواقع المسئولية، وسوف يظل غندور في نظر التاريخ هو غندور الذي شارك الإنقاذ في كل مراحلها وساهم عبر المراكز التي شغلها في كل المآسي التي طالت الشعب من ورائها.
وفي الختام، ليت مثل هذه “الحنفشة” التي عالج بها رئيس الجمهورية هذه الأزمة بعزل الوزير في بحر 24 ساعة من خطابه، تستمر لتنال الذين نهبوا الأموال وأفقروا السودان وبنكِه المركزي،،