ورقة مقدمة بمعهد مونتيري للدراسات الدولية
بدعوة من منظمة Global Majority “غلوبال ماجوريتي”
• ياسر عرمان
الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان
سكرتير الشؤون الخارجية للجبهة الثورية السودانية
1 فبراير 2013
موجز الأفكار المقدمة في الورقة:
• ما هي المسألة الشمالية والمسألة السودانية؟
• لماذا يعتبر السودان دولة فاشلة؟
• الأزمة الإنسانية: المساعدات الإنسانية قبل الحل السياسي: الأولوية لإنقاذ الأرواح الآن
• الإسلام السياسي عاملٌ مهددٌ للوحدة الإفريقية
• الفجر الجديد: الطريق نحو المضي قدماً
• الوحدة السودانية: وحدة بين دولتين مستقلتين
• خاتمة
بدايةً، أود أن أعرب عن عميق شكري وتقديري للجالية السودانية، وللناشطين السودانيين في ولاية كاليفورنيا. والشكر والتقدير موصولان أيضا لمعهد مونتيري للدراسات الدولية، ولمنظمة Global Majority “غلوبال ماجوريتي” وللسادة الأجلاء نيكولاس، ومايكل، وحمدان الذين جعلوا هذه الفعالية ممكنة اليوم، للتأمل والتفكير في إحدى المسائل الإفريقية الأهم ألا وهي المسألة السودانية، التي هي في جوهرها مسألة تواجه وتثير تحديات عصيبة أمام جميع الدول الإفريقية لكونها تتمثل في تحديات البناء الوطني والتشكل القومي.
وسأشدد على وجه الخصوص-خلال العرض الذي أقدمه اليوم- على تجربة الإسلام السياسي في السودان، بما تمخضت عنه من نتائج مريرة مؤلمة تجسدت في الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفوق ذلك، انفصال جنوب السودان. وبالنظر إلى تزايد نشاط حركة الإسلام السياسي في إفريقيا، فإنه يتعين الأخذ بتجربة الإسلام السياسي في السودان على محمل الجد..كل الجد من قبل القارة بأسرها وجميع الإفريقيين بالضرورة.
لنبدأ عرضنا هذا بتقديم تعريف موجز للمسألة السودنية من وجهة نظرنا نحن في الحركة الشعبية لتحرير السودان.
فما هي المسألة الشمالية و المسألة السودانية؟
• كثيرا ما يُنظر إلى السودان استنادا إلى تقسيمات وثنائيات نمطية بعينها مثل: الشمال-الجنوب، مسلمون-مسيحيون، عرب-أفارقة..إلى آخره. غير أن هذه الثنائيات والتقسيمات النمطية لا تعدو عن كونها ابتسارا وتبسيطا مخلين للمسألة السودانية. و الأن ، وقد أصبح شمال السودان كيانا قائما بذاته له خصائصه في التنوع العرقي والديني واللغوي والثقافي القائمة بذاتها عقب انفصال جنوب السودان. ولذا يجب النظر إلى هذا الكيان الذي يجسد المسألة السودانية التي نعنيها.
• إن المسألة الشمالية هي أزمة ناشئة عن غياب مشروع شامل لبناء الأمة منفتح على الجميع، علاوة على غياب عملية سديدة للتشكيل الوطني قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فضلا عن حفظ التوازن بين المركز والأقاليم. ويتشكل “السودان الجديد” الذي نصبو إليه عند تحقيق هذين الهدفين الرئيسيين: مشروع البناء الوطني وعملية التشكل القومي على نحو مغاير تماما لما هو قائم الآن.
• ذلك أن المشروع الوطني الراهن يقوم على معايير في غاية الضيق والمحدودية، لطالما أدت إلى تهميش وإقصاء أغلبية السودانيين على أسس دينية وثقافية وعرقية واقتصادية وسياسية، علاوة على ممارسات الإقصاء والتهميش القائمة على أساس النوع.
• ولا يتمخض التعاضد المستمر بين سياسات التهميش ونظام الحكم الشمولي الديكتاتوري إلا عن مزيد من استمرار الحروب وعدم الاستقرار.
• ولئن اختار الجنوبيون الانفصال وإقامة دولتهم المستقلة، فإن ذلك مردّه في الأساس إلى عدم الاعتراف بالتنوع الديني والعرقي والثقافي من جهة، وسوء إدارته من جهة أخرى، علاوةً على انعدام الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
• وعليه فقد نشأ جنوب سياسي جغرافي جديد تماما في شمال السودان نفسه. وبات واضحا بعد انفصال الجنوب التقليدي أنه لا يمكن للسودان أن يظل بلا “جنوب” جغرافي جديد، تمارس عليه ذات السياسات التي أدت إلى انقسام الجنوب التقليدي.
• وبات واضحا بالقدر ذاته أن الجنوب التقليدي لم يكن مجرد كيان جغرافي فحسب، بل هو رقعة ذات بعد إنساني في المقام الأول. وخاض ذاك الجنوب كفاحا طويلا ومريرا من أجل الاعتراف بالتنوع والعدالة الاجتماعية. والآن، يستمر الكفاح نفسه من أجل نيل الحقوق ذاتها في الجنوب الجديد الناشئ حديثا في شمال السودان.
• ويجدر القول أن الجنوب الجديد في شمال السودان تقطن في ربوعه وعلى امتداد أراضيه مجموعات عرقية متنوعة- عربية وغير عربية على حد سواء. فقبائل الرزيقات والمسيرية وغيرهما في غرب السودان، والرشايدة وغيرهم في شرق السودان، بما في ذلك طيف عريض واسع من التكوينات العرقية هي جميعا جزءا لا يتجزا من جنوب السودان الجديد. وكذلك النساء وفقراء المدن وغيرهم من القوى المهمشة.
• لقد أدت سياسات المؤتمر الوطني الحاكم إلى اندلاع حرب شاملة في جنوب السودان الجديد، من دارفور وحتى منطقة النيل الأزرق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقة ما بين السودان وجمهورية جنوب السودان التي استقلت حديثا تتسم بالتوترات ولا تزال تعيقها الكثير من المسائل العالقة.
• وبالتالي، فإنه لا سبيل إلى وجود دولتين تتوفر لهما مقومات البقاء وتتمتعان بعلاقات استراتيجية في جمهورية جنوب السودان وجمهورية السودان إلا بإحداث التحول السياسي اللازم في الخرطوم، وعندما تتقاسم كلتاهما قيما ديمقراطية مشتركة. وكما نعلم، فقلّما تندلع الحروب ين دولتين ديمقراطيتين. وفي المقابل، فإن الطموح إلى إيجاد علاقات طيبة وسلمية بين جوبا والخرطوم في ظل النظام الإجرامي الحاكم في الخرطوم، إنما هو أشبه بالأمل في إيجاد علاقات طيبة سلمية بين فرنسا وألمانيا في ظل نظام هتلر النازي.
• ونتيجةً لتمسك قيادة المؤتمر الوطني بالإبقاء على ذات السياسات البالية التي أدت إلى انفصال الجنوب، وهي سياسات تقوم على الهيمنة وضيق الأفق والمعايير والإفلاس الأيديولوجي والكفر بالتنوع وعدم الاعتراف به-على النحو الذي كرسته خطاب عمر البشير، منها على سبيل المثال الخطاب الشهير الذي ألقاه في مدينة القضارف، وغيره من الخطابات التي أعقبت انفصال جنوب السودان، فقد وضعت تلك الخطب الأساس اللازم لشن حرب جديدة على جنوب كردفان و النيل الأزرق.
• تأسيسا على السياسات المذكورة أعلاه، استهدف المؤتمر الوطني الحركة الشعبية بالشمال التي رأى فيها مهددا سياسا وعسكريا رئيسيا مرعبا لنظامه. وبالنتيجة، فقد شن النظام الحرب على جنوب كردفان/جبال النوبة والنيل الأزرق. وهي حرب أسفرت حتى الآن عن نزوح ما يربو على 900000 من النازحين المدنيين بمن فيهم أولئك اللاجئون الذين عبروا الحدود إلى داخل حدود إثيوبيا وجمهورية جنوب السودان.
• حدث كل ذلك في وقت لم تحل فيه أزمة دارفور بعد، في حين لم تتمكن الحلول الجزئية التي تمخضت عنها مفاوضات الدوحة وأبوجا من التصدي للأسباب الجذرية للمشكلة. ذلك أن مرتكبي تلك الجرائم الشنعاء أنفسهم يمثلون طرفا أساسيا في تلك الحلول، في حين تقوم الحلول الجزئية المذكورة على مبدأ الإفلات من العقاب والمساءلة. وقد استلزم هذا الوضع توحيد إرادة وجهود الحركة الشعبية لتحرير السودان ومجموعة حركات التحرر السودانية التي تشكلت في دارفور، لتؤسسا معا الجبهة الثورية السودانية بصفتها ائتلافا أصبح قادرا الآن على جذب قوى المعارضة السودانية وحشد إرادتها على امتداد السودان كله من أجل تغيير النظام.
• وبالنظر إلى التجارب التاريخية للانتفاضات الشعبية وحركات المقاومة المسلحة السابقة، فإنه لا يمكن إحداث أي تغيير جوهري في السودان إلا بإحداث تحول جوهري في الخرطوم. فسياسات الخرطوم هي التي أدت إلى تهميش وإقصاء غالبية السودانيين، ثم إن الخرطوم هي التي شنت الحرب على جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان ودارفور. وعليه، فلا سبيل إلى الوصول إلى حل مستدام لمشاكل السودان وأزماته إلا بإحداث التحول اللازم في المركز وليس في أطراف السودان وأقاليمه. والواقع أن جمهورية السودان الحالية لها تاريخ يعود إلى ثمانية آلاف عام، وكانت جزءا من حضارة وداي النيل العظيمة. ولطالما اتسم السودان بتنوع تاريخي متصل. ويتألف السودان مما يزيد على أربعمائة قبيلة ومجموعة عرقية، وينطق أهله بما يربو على ستين لغة متباينة. ولكي تحسن إدارة هذا التنوع التاريخي والمعاصر في آن، فإن السودان بحاجة ماسة إلى معالجة جديدة لجميع الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية تقوم على أساس المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفصل الدين عن الدولة.
• ويقتضي إحداث أي تحول جوهري في اقترانه بإحلال السلام المستدام في السودان بانتهاج نهج شامل ومفارق للحلول الجزئية. ونستدل على ذلك بأن نظام عمر البشير قد وقّع نحو 43 اتفاقية للسلام ولم يلتزم بتطبيقها جميعا إما جزئيا أو كليا، علاوة على تشديد قبضته على المركز وحراسته وتأمينه ضد إحداث أي تغيير فيه.
• ومن المثير للاهتمام أن البشير وبعض أفراد طغمته باتوا مطلوبين للمثول أمام العدالة الدولية. وهذا يعني عمليا أن المجتمع الدولي مؤيد لتغيير النظام. وللمفارقة، فإن ممارسة المجتمع الدولي تنحو في الوقت ذاته إلى معارضة أي دعوة لتغيير النظام!
• وتكمن المفارقة الأخرى في أن البشير لا يزال متهما من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، لا يزال المجتمع الدولي يعترف به ويواصل التعامل معه ونظامه في ذات الوقت الذي يشيح فيه بوجهه عن الممثلين الشرعيين لضحايا النظام، كما هو الحال مع ممثلي الجبهة الثورية السودانية. وقد آن الوقت لأن تعترف الهيئات الدولية بضحايا النظام وتتعامل مع ممثليهم الشرعيين.
• ويقينا فإن من الأهمية بمكان أن أي نهج يرمي إلى التوصل إلى إحلال السلام الدائم في السودان سيقتضي بالضرورة عملية شعبية قوامها مشاركة الشعب، وليس مجرد التوصل إلى حل توفيقي بين اللاهثين وراء السلطة والجاه، وتسوية لا تتجاوز خدمة مصالح النخب السياسية وحدها. وسواء تعلق الأمر بعملية دستورية أم باتفاق سياسي، فإنه يجب أن تكون تلك العملية مشرعة الأبواب والنوافذ على الأحزاب السياسية قاطبةً، فضلا عن مشاركة منظمات المجتمع المدني.
• وتقترح الحركة الشعبية فترة مؤقتة أو انتقالية توكل إليها مهمة عقد مؤتمر دستوري لجميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في السودان بهدف الإجابة عن السؤال الذي لم يزل دون إجابة منذ فجر الاستقلال في عام 1956: كيف يحكم السودان؟ قبل من يحكم السودان؟
• وفي نهاية الأمر، فإنه ليس أمام الطغمة الحاكمة في الخرطوم سوى خيارين لا ثالث لهما: إما أن تقبل الطغمة التغيير أو أن يتم تغييرها. وقد اقترحنا نحن في الحركة الشعبية خلال اللقاءات والاجتماعات التي عقدناها الأسبوع الماضي في واشنطن وفي الأمم المتحدة في نيويورك أن منبري الدوحة وأديس أبابا-المعنيين بحل مسائل الحرب في السودان- لن يتسنى لهما تحقيق أهدافهما إلا بتوحيدهما في منبر واحد، وأن الآلية الرفيعة للاتحاد الأفريقي برئاسة ثامبو مبيكي عليها إيجاد حل دائم وشامل للمشكلة السودانية. ولهذا السبب فإننا ندعو إلى منبر واحد فقط. وفي حال مواصلة نظام الخرطوم تعنته ورفضه التوصل إلى تسوية سلمية شاملة، فإن الخيار الآخر المتاح هو أن يطيح الشعب السوداني بالنظام وينشئ على أنقاضه نظاما ديمقراطيا يقوم على حقوق المواطنة المتساوية.
لماذا يعتبر السودان دولة فاشلة؟
لقد أصبح السودان اليوم دولة فاشلة بكل المقاييس، تستنزف ما يزيد على نسبة 70% من ميزانيتها القومية في شن حرب ضد شعبها، في ذات الوقت الذي تخصص فيه أقل من نسبة 2% من الميزانية نفسها لخدمات الصحة والتعليم، علاوة على الاعتراف بها عالميا كونها من أكثر دول العالم فسادا. وقد بلغت نسبة المواطنين السودانيين الذي يعيشون تحت حد الفقر 98%. وبذلك فهي سيدة الفاشلين أجمعين بلا منازع. وفي سياق مسيرة الدولة الفاشلة هذه، فقد السودان ربع إجمالي سكانه مقترنا بخسارة ثلث رقعة أراضيه بسبب فصل جنوب السودان. ولا ريب أن استمرار السياسات نفسها يهدد ما تبقى من السودان حاضرا ومستقبلا. فقد واصلت حكومة السودان ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب بحق مواطنيها. وبالنتيجة فقد أصبح بعض كبار المسؤولين الحكوميين متهمين لدى المحكمة الجنائية الدولية، بمن فيهم الرئيس عمر البشير ووزير دفاعه. وعلاوة على ذلك، فقد خصمت الحرب الأهلية 38 عاما من سنوات استقلال السودان البالغة هذا العام 57 عاما، في حين ظلت سياسة الإفلات من العقاب وعدم المساءلة هي السياسة المتبعة. ولا غرو أن هنالك اليوم ما يزيد على 4 ملايين مواطن سوداني إما من النازحين أو اللاجئين أو المهاجرين أو من المقيمين في شتات المنافي.
الأزمة الإنسانية: المساعدات الإنسانية قبل السياسة: الأولوية لإنقاذ الأرواح الآن
عشية استقلال جنوب السودان مباشرة شن البشير الحرب على جبال النوبة ثم تجاهل لاحقا كافة النداءات التي وجهت إليه من قبل الآلية الرفيعة المستوى التابعة للاتحاد الإفريقي بقيادة رئيس جنوب أفريقيا الأسبق ثامبو مبيكي، والنداءت الموجهة إليه من قبل الجارة إثيوبيا والمجتمع الدولي. ومزق البشير اتفاق السلام المبرم في 28 يونيو 2011 الذي كان يهدف إلى إنهاء الحرب في جبال النوبة. بل وسّع البشير نطاق حربه إلى منطقة جنوب النيل الأزرق في ذات الوقت الذي واصل فيه حربه على دارفور. وفوق ذلك كله، فقد انتهج البشير سياسات وإجرات تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى كلتا منطقتي الحرب الجديدتين. وتمثل هاتان المنطقتان الآن أسوأ أزمة إنسانية في القارة الإفريقية. فقد أرغم الكثير من المدنيين على الفرار من بلدهم بصفة لاجئين أو نازحين داخليا مع حرمانهم من وصول المساعدات الإنسانية التي هم في أمسّ الحاجة إليها. وكما تعلمون فإن منع وصول المساعدات الإنسانية يعتبر جريمة حرب بموجب أحكام القانون الدولي. والأشد فظاعة أن عمليات القصف جوا وبرا لا تزال مستمرة ضد المدنيين.
لقد وقّعت الحركة الشعبية على اتفاقين في 18 فبراير و4 أغسطس 2012 مع المجموعة الثلاثية- الاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، والأمم المتحدة. غير أن نظام الخرطوم أحبط كلا الاتفاقين لأنه لا يزال يواصل سياسة التسويف وكسب الوقت نفسها إلى جانب منع وصول المساعدات الإنسانية باعتبار أن ذلك جزءا من استراتيجية الحرب التي يتبناها. وقد دعت الحركة الشعبية كلا من الآلية الإفريقية الرفيعة ورئيس مجموعة الإيقاد المكلفين بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2046 إلى وضع نهج جديد يهدف إلى منع الخرطوم من مواصلة سياسة التسويف وكسب الوقت والمضي في تنفيذ سياساتها العدوانية مثلما هو الحال في التعامل مع المجموعة الثلاثية. والحركة الشعبية على أتم الاستعداد لوقف العمليات العسكرية فورا بما يساعد على توفير ظروف مواتية لتوصيل المساعدات الإنسانية والوصول إلى حل شامل لمشاكل السودان، فضلا عن إنشاء منطقة آمنة خالية من العمل العسكري بين جمهوريتي السودان و جنوب السودان، لا سيما وأن الحركة الشعبية تسيطر على ما يزيد على نسبة 40 في المائة من الحدود الدولية بين البلدين.
وفي الوقت ذاته، فإن الأوضاع آخذة بالتدهور في دارفور التي تشهد موجة جديدة من جرائم الحرب- على نحو ما حدث في مناطق هشابة وكتم وجبل مرة- حيث ترعى حكومة الخرطوم ارتكاب تلك الجرائم في حين تقف قوة حفظ السلام الإفريقية التي نشرت هناك مكتوفة الأيدي بسبب محدودية تفويضها، بالإضافة إلى حيل وألاعيب نظام الخرطوم التي لا حدّ لها. فتلك القوة لحفظ السلام نشرت في منطقة لا يوجد فيها سلام ليحفظ أصلا. أضف إلى ذلك، أن أصحاب المصلحة الحقيقيين والأطراف الرئيسية في النزاع ليسوا طرفا في العملية. والواقع أن اتفاق الدوحة –كما تراه الخرطوم- ليس سوى غطاء يستغله النظام الحاكم لارتكاب مزيد من جرائم الحرب. وفي هذا السياق، فإن الأزمة الإنسانية في الإقليم هي ملمح آخر من ملامح الدولة الفاشلة في الخرطوم، بالإضافة إلى استمرار الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في جميع أنحاء السودان. وبين هذا وذاك، فإن الانقسامات الداخلية قد شقت الحزب الحاكم من أعلى مستوياته القيادية إلى أدناها. وما الاتهامات وحملات الاعتقال التي طالت مؤخرا عددا من قادة المؤتمر الوطني سوى دليل قاطع على ذلك. ولذا نكرر القول أن الحل الجزئي لم يعد حلا ناجعا للمشكلة السودانية.
الإسلام السياسي عاملٌ مهددٌ للوحدة الإفريقية
تواجه إفريقيا اليوم تهديدا جديا وخطيرا لوحدتها من قبل الكثير من جماعات الإسلام السياسي. فقد تولى بعضها مقاليد الحكم سلفا في بعض الدول الإفريقية الهامة، من بينها السودان ومصر وتونس، بينما تضطلع بعض جماعات الإسلام السياسي بأدوار محورية في بلدان أخرى كالصومال وليبيا ومالي. يضاف إلى ذلك، أن جماعات الإسلام السياسي تنشط في بلدان أخرى وتعلن عن أجندتها على الملأ في كل من نيجيريا وكينيا وتنزانيا. وهناك دول أخرى مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا وملاوي تواصل فيها جماعات الإسلام السياسي العمل في الخفاء.
لماذا تشكل جماعات الإسلام السياسي مهددا للوحدة الإفريقية؟
بدايةً، يجب القول أن الإسلام عقيدة دينية تتسم بالتسامح خاصة عندما يتعلق الأمر بالسياق الإفريقي. ومن المعروف تاريخيا أن الإسلام قد أسهم إسهاما بارزا ومقدّرا في توثيق الوشائج والصلات بين شعوب القارة في الكثير من بلدانها، ليسهم بذلك في تحقيق قدر عال من الوحدة الإفريقية نفسها. وعليه، فإن من الخطأ الفادح الخلط بين الإسلام بوصفه عقيدة للتسامح والتعايش السلمي بين المجتمعات والشعوب من جهة، والإسلام السياسي من جهة أخرى.
فالإسلام السياسي ليس سوى أيديولوجية حزبية تتوسل الإسلام وتستغله لتحقيق مصالح دنيوية سياسية واقتصادية محضة. وخلافا لعقيدة الإسلام، فإن جماعات الإسلام السياسي لا تتسم بالتسامح مطلقا وتكفر بثقافة التنوع الديني والثقافي. وتبدي هذه الجماعات عداء لحقوق المرأة ولنظم الحكم الديمقراطي على الرغم من أن بعضها قد انتخب ديمقراطيا كما هو الحال في مصر وتونس. فهناك مؤشرات واضحة على أن تلك الجماعات تتجه أكثر فأكثر نحو الانقلاب على الديمقراطية وتبنّي نهج الحكم الشمولي بديلا عنها. وهي تتخذ في ذلك منحى مشابها لما حدث في الثورة الإيرانية التي صنعتها كافة شرائح وفئات الشعب الإيراني، غير أنها اُختطفت من قبل مجموعة عقائدية تمكنت في نهاية المطاف من إنشاء نظام ديكتاتوري قابض ومستحكم باسم الثورة الإيرانية.
ولا ريب أن هناك صراعا عميقا في مصر وتونس بين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية التي تمكنت من تحقيق الانتقاضة الشعبية وإحداث التغيير في كلا البلدين. ومع ذلك فقد كان الفوز بالسلطة من نصيب جماعات الإسلام السياسي لأنها أكثر تنظيما وظلت تواصل عملها في الخفاء منذ سنوات طويلة. والواقع أن تلك الجماعات تميل إلى اختطاف ثورات الشعوب والمضي بها في اتجاه معادٍ لتلك الشعوب ولأمانيها وتطلعاتها كما رأينا في التجارب آنفة الذكر.
ومن هنا، فإننا بحاجة إلى التمييز بين الانتفاضات الشعبية وأهدافها المتمثلة في بناء الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية بديلا عن الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، وجماعات الإسلام السياسي التي لا تختلف أجندتها الاجتماعية والسياسية عن أجندة الأنظمة السابقة التي أُطيح بها عبر انتفاضات شعبية.
ولا يزال الوضع السياسي في مصر يكتسب أهمية بالغة بالنسبة للسودان وإفريقيا وللعالم العربي أيضا، نظرا إلى أن حركة الإسلام السياسي في مصر “الإخوان المسلمون” هي الحركة السياسية التي تحتل المرتبة الثانية مباشرة في القارة الإفريقية من حيث القِدَم إذ تاتي مباشرة بعد المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا الذي ناهز عمره الـ100 عام في حين يبلغ عمر تنظيم “الإخوان المسلمون” 85 عاما كونه تأسس في عام 1928. وهناك مؤشرات واضحة جدا على أن هذه الحركة ستمضي بمصر صوب نهج النظام الإيراني. ومن شأن ذلك أن يلقي بآثار وتداعيات سلبية بالغة على السودان والقارة الإفريقية بأسرها.
ما هي أهمية تجربة الإسلام السياسي في السودان بالنسبة للقارة الإفريقية؟
وتتلخص الإجابة عن السؤال في أن السودان، بما يتمتع من تنوع هائل إنما هو تجسيدٌ مصغّر للقارة الإفريقية. ثم إن السؤال الذي لا يزال يواجه السودان منذ نيل استقلاله في خمسينيات القرن الماضي، هو السؤال نفسه التي واجهته القارة الإفريقية ولا تزال تواجهه اليوم: كيف تبني دولة ديمقراطية حديثة في سياقٍ من التعدد الديني والثقافي؟ والإجابة المباشرة العملية والموجزة التي تقدمها جماعة الإسلام السياسي في السودان عن هذا السؤال تتلخص في تجاهل وإنكار تنوع المجتمع السوداني جملة وتفصيلا. فمنذ استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة عبر انقلاب عسكري في يونيو 1989 عمدت إلى فرض رؤية تقوم على إلغاء التنوع وتسعى إلى أسلمة وتعريب المجموعات العرقية غير العربية، بل لم تتردد في إقصاء كل سوداني مسلم لا يشاطر الجماعة الإسلامية القابضة أيديولوجيتها السياسية. وفرضت الجماعة هذه مجموعة من البرامج الاجتماعية والسياسية التي أسفرت عن تهميش الغالبية العظمى من السودانيين، ونزعت عن النساء السودانيات أبسط الحقوق والحريات التي تقوم عليها إنسانيتهن. بل تبنت السياسات نفسها إزاء كل من يخالف النظام الحاكم ورؤاه الأحادية المستبدة. ولكي يتسنى للنظام فرض رؤاه الفاشية هذه فلم يكن له بدُّ من اتخاذ العنف وسيلة وسحق كل من يخالفه الرأي بقبضة من حديد، علما بأن من يخالف ذلك الطيش ليس سوى الغالبية العظمى من الشعب السوداني. ومن المنطقي أن تمخضت تلك الرؤية عن ارتكاب أشنع الجرائم في تاريخ السودان الحديث، من قبيل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وتفتيت وحدة البلاد ودفع الجنوبيين دفعا نحو الانفصال.
وفوق ذلك، فإن للمؤتمر الوطني الحاكم- الذي يمثل جماعة الإسلام السياسي في السودان- علاقات عميقة وأنشطة مثيرة للقلق مع غالبية جماعات الإسلام السياسي في إفريقيا. وتخرّج الكثير من قادة هذه الجماعات وتلقوا تدريبهم على وسائل وأساليب عمل هذه الجماعات في جامعة إفريقيا العالمية في الخرطوم. وعلاوة على ذلك، فإن هناك علاقات متينة للغاية بين حكومتي السودان وإيران يشارك في سياقها السودان في حالات وأنشطة عديدة تتم خارج حدود السودان وتلحق أضرارا بالغة بمصالح السودان الوطنية، بما في ذلك تخريب العلاقات بين السودان والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إيران تعتبر شريكا في بناء مجمع الصناعات الحربية السودانية، علما بأن منتجات هذا المجمع وأسلحته تُصوّب في الأساس إلى صدور المواطنين المدنيين السودانيين في الأساس، غير أنها تشكل جزءا لا يتجزأ من استراتيجية حركة الإسلام السياسي في إفريقيا، التي جعلت من السودان منصة انطلاق حربية لإشعال نيران النزاعات الإقليمية في القارة الإفريقية والشرق الأوسط على حد سواء. وإذا ما أخذنا في الاعتبار التنوع الديني والثقافي الذي تتسم به المجتمعات الإفريقية، فإن النتيجة التي ستسفر عنها تجربة الإسلام السياسي في السودان، ستكون هي نفسها في الدول الإفريقية الأخرى، بما فيها مصر. وعليه، فإن من الأهمية بمكان أن يأخذ المثقفون الأفارقة والحكومات الإفريقية، فضلا عن الحركات السياسية والاجتماعية الإفريقية تجربة الإسلام السياسي في السودان على محمل الجد، في إطار التصدي لتنامي نشاط حركة الإسلام السياسي في إفريقيا. وإلا فستكون الخسارة فادحة جدا كما هو الحال في كل من السودان ومالي.
وينبغي أن تكون هذه المسألة في مقدمة المسائل التي يناقشها جميع المعنيين بمستقبل إفريقيا، إلى جانب المعنيين بمستقبل الإسلام بوصفه عقيدة دينية متسامحة.
الفجر الجديد والمضي قُدُماً:
لقد وقّعنا في الخامس من يناير 2013 وعقب انعقاد اجتماع تاريخي للجبهة الثورية السودانية، وقوى الإجماع الوطني، وممثلين لمؤسسات المجتمع المدني، ومشاركة بعض منظمات النساء والشباب على وثيقة “ميثاق الفجر الجديد” التي تقدم الإجابة عن السؤال الرئيسي من أجل توحيد قوى المعارضة السودانية، بما في ذلك الترتيبات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية والآلية اللازمة لمشاركة جميع قوى المعارضة السودانية، وتعزيز قدرة الشعب السوداني على الإطاحة بالنظام الديكتاتوري القائم عبر انتفاضة شعبية سلمية، من شأنها أن تمهد الطريق أمام وضع حد للحروب وإقامة نظام ديمقراطي يستند إلى سيادة القانون وعلى أساس المساواة الكاملة في حقوق المواطنة. وعلى الرغم من التحفظات والملاحظات التي أبداها بعض الموقعين على الميثاق، فقد حظيت الوثيقة بتأييد واسع النطاق على مستوى القواعد الشعبية العريضة والناشطين السودانيين. فقد هز ميثاق الفجر الجديد أركان النظام، ووضع المعارضة السودانية في موقع سياسي متقدم. وقد أعربت جميع الأطراف الموقعة على الميثاق عن ضرورة أن يشارك الجميع وأن يعملوا معا على تحسين وتطوير الميثاق كي يكون قادرا على تلبية طموحات الشعب السوداني، ويتسنى له توحيد قوى المعارضة جميعا في منبر واحد. وسنواصل العمل على تحقيق هذا الهدف الذي نثق بإمكانية الوصول إليه قريبا.
الوحدة السودانية .. وحدة بين دولتين مستقلتين:
لا شك أن انفصال الجنوب يمثل خطأً إنسانيا فادحا يمكن جبره وتصحيحه عن طريق إيجاد شكل آخر للوحدة بين دولتين مستقلتين ذاتي سيادة. فقد آثر جنوب السودان إقامة دولته المستقلة بسبب غياب مشروع شامل لبناء الأمة، علاوة على غياب عملية سديدة للتشكيل الوطني تقوم على خصائص الواقع السوداني الموضوعي، وعلى التنوع التاريخي والمعاصر الذي يتسم به السودان.
وتأسيسا على التزامنا بوحدة القارة الإفريقية وبتحقيق رؤية السودان الجديد، فإننا على إيمان عميق بإمكانية الوصول إلى وحدة بين السودان وجنوب السودان تقوم على الاحترام المتبادل لسيادة كل واحد منهما. وسنواصل العمل من أجل بلوغ هذا الهدف. فالاتحاد الأوروبي يقدم مثالا جيدا وملهما على إمكانية حفظ التوازن اللازم بين سيادة كل واحدة من الدول المستقلة الأعضاء فيه، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على الوحدة فيما بينها جميعا.
الخاتمة:
• لا تزال رؤية “السودان الجديد” سديدة فاعلة ولها من مكامن القوة والإلهام ما يمكنها من بناء دولة تتوفر لها مقومات البقاء وتستند إلى المواطنة والاعتراف بالتنوع وبقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وفوق ذلك فهي رؤية قادرة على تحقيق السلام والمصالحة الوطنية على أساس العدالة. وعلى إثر انفصال جنوب السودان، لا يزال السودان بلدا زاخرا بالتنوع كما كان من قبل الانفصال. ويقينا فإن ما يجمع السودانيين جميعا إنما هي سودانويتهم بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو النوع أو الانتماء الجغرافي.
• وقد تسنى لنا في العام الماضي توحيد فصائل المعارضة السياسية المسلحة وغيرها من قوى المعارضة الأخرى في إطار الجبهة الثورية السودانية. وفضلا عن ذلك، فإننا في غمار عملية سياسية تاريخية جديدة هي ميثاق الفجر الجديد الذي جمع معا بين ممثلي المجتمع المدني والأحزاب السياسية والشباب والنساء والنقابات والاتحادات المهنية. وهي عملية في غاية الأهمية والجدية، وينبغي مواصلة العمل على تحسين ميثاق الفجر الجديد وتطويره. ذلك أنه يمثل الطريق الوحيد الآن لتحقيق التحول الديمقراطي وإنهاء الحروب وبناء مستقبل مشترك لجميع السودانيين يقوم على الإجماع السوداني. وليس بوسعنا أن نغير الماضي، بطبيعة الحال، غير أن بوسعنا الاتفاق على اجندة للمستقبل لبناء سودان على أسس جديدة، لكي نكون جميعا أصحاب مصلحة مشتركة في ذلك المستقبل.
• تشكل حركات الإسلام السياسي في القارة الإفريقية عاملا مزعزعا لاستقرار القارة، ومن المؤكد أنها ستلحق أضرارا بالغة بمجتمعات وبلدان القارة، بل بعقيدة الإسلام نفسها على نحو ما حدث في السودان الذي دفع ثمنا باهظا ليس أقله وحدته ومستقبله معا. وبالتالي، فإن من الأهمية بمكان أن تحظى القوى الديمقراطية في البلدان الإفريقية التي تشكل ثقلا موازيا ومناهضا لحركات الإسلام السياسي، بالتضامن والدعم اللازمين من جميع القوى المحبة للديمقراطية والسلام. ولا يزال السودان الآن شريكا فاعلا للكثير من حركات الإسلام السياسي في إفريقيا والشرق الأوسط. ومن شأن تحقيق التحول الديمقراطي في السودان أن يشكل إضافة إيجابية للقارة الإفريقية وللاستقرار العالمي عموما.