المجاعة والبطولة في دارفور
د. عبدالوهاب الأفندي
(1) خلال هذا الأسبوع شهدت لندن تظاهرة فريدة من نوعها تولى تنظيمها عدد من الأطباء والأكاديميين السودانيين عبر مؤتمر لدعم الخدمات الصحية في درافور. وقد نظم المؤتمر مشاركة بين جمعية أصدقاء السودان في بريطانيا، وجامعة الأحفاد للبنات (السودان) ومنظمة ‘التنمية الآن’ الطوعية (بريطانيا)، وكلها هيئات يقودها سودانيون، بالتعاون مع معهد الشرق الأوسط في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية في جامعة لندن.
(2)
ما يميز هذا المؤتمر هو أنه إلى حد كبير جهد سوداني خالص، وكان معظم الحضور من الأطباء السودانيين أو الناشطين في المجال الطوعي، مع عدد قليل من الأجانب. تميز المؤتمر كذلك بمهنيته العالية وبعده النسبي عن التسييس، حيث حضره سفير السودان في لندن، وممثل لوزارة الصحة، وثلة من الأطباء القادمين من السودان، إضافة إلى عدد كبيرمن المعارضين لم يترددوا في اتهام الحكومة بالمسؤولية عن تدهور الخدمات الصحية في دارفور خصوصاً والسودان عموماً حين استهدفت الأطباء بالتشريد والملاحقة وظلت تنفق على الصحة معشار ما تنفقه على الأمن.
(3)
شدنا ونحن نتابع مداخلات الحاضرين المهنية العالية في الأوراق التي قدمت، والكم الهائل (والصادم) من المعلومات، والتحليل الرصين لمشاكل العمل الصحي في دارفور. وقد تناولت هذه المداخلات كل ما يخطر على البال من مشاكل العمل الصحي، ولم يغفل صحة الحيوان ولا تأثير الظروف الاجتماعية والأوضاع السياسية والأمنية على الصحة.
(4)
ولكن أكثر ما صدمنا ونحن نتابع هذه المداولات ليس فقط الروايات المرعبة عن المعاناة الصحية والإنسانية لمواطن دارفور، بل عدم التوازن في دور الحكومة ودور المنظمات الطوعية. فعلى الرغم من اعتراف المتحدثين بأن الدولة في دارفور ما زالت تساهم بنسبة عالية من الخدمات الصحية في دارفور، إلا أن ما أنجزته بعض المنظمات الطوعية في فترة وجيزة وبموارد محدودة فاق ما أمكن للحكومة إنجازه خلال عقود.
(5)
كان د. علي الحاج، وهو طبيب ووزير صحة سابق في دارفور، أول من أعرب عن دهشته وإعجابه لنجاح منظمة بريطانية صغيرة تقوم عليها سيدة واحدة في تدريب أكثر من أربعين قابلة من قرى مختلفة وتزويدهن بمعدات العمل وإرسالهن إلى قراهن التي ظلت تواجه الأمهات فيها أخطاراً كبيرة. ولكن مسؤول منظمة آخرى اشتكى من أن الحكومة رفضت توظيف قابلات قامت المنظمة بتدريبهن بحجة أن فترة التدريب (18 شهراً) لم تكن كافية.
(6)
الحكومة أكدت على لسان مندوب وزارة الصحة أنها شرعت في تدريب مائتي قابلة وخمسمائة من الكوادر الصحية من ممرضين وفنيين في دارفور، ولكن برغم هذا فإن المنظمات الطوعية ما تزال تغطي حوالي 45 بالمائة من مستلزمات الخدمات الصحية في الإقليم.
(7)
ولكن أكبر صدمة لنا كان سماعنا أنه، إضافة إلى كل الكوارث التي أصابت دارفور، فإن أهل هذا الإقليم يواجهون أسوأ جفاف مر في السنوات الأخيرة، بعد فشل الموسم الزراعي في مناطق كثيرة، مما اضطر كثيرين للجوء إلى أكل الأعشاب التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
(8)
ليست هذه أول مرة تتعرض فيها دارفور لجائحة الجفاف وخطر المجاعة، ذلك أن كثيراً من المراقبين ربط بينه وبين تفجر الصراع الذي احتدم في دارفورمنذ نهاية السبعينات. والأصح أن يقال أن التعامل الرسمي من الحكومات المتعاقبة مع الجفاف وآثاره، وهو تعامل اتسم بالتجاهل والإنكار والتقصير الإجرامي، هو السبب في تصدع دارفور واحتدام الصراع فيها وحولها.
(9)
هذه المرة يجب ألا يتكرر الإنكار أو التلكؤ في تقديم الإغاثة العاجلة للمنكوبين، خاصة بعد أن ظهرت تباشير السلام في الإقليم، ولا بد من تحرك سريع للتصدي لهذه الأزمة. ولا بد في هذا المجال من الإشادة بمبادرة من عقدوا هذا المؤتمر، حيث عبروا ليس فقط عن المهنية العالية وروح المبادرة، بل أيضاً عن التزام أخلاقي ووطني يدعو للفخر.
(10)
في واحدة من أهم جلسات المؤتمر تمت مناقشة مسألة ‘الصحة كمدخل للسلام في دارفور’، حيث طرح التساؤل: هل تحقيق السلام هو الذي سيمكن من تقديم الخدمات الصحية الضرورية، أم أن تقديم الخدمات هو الذي سيحقق السلام؟ وقد أجاب المؤتمر جزئياً على هذا التساؤل، لأن مجرد عقد مؤتمر من قبل أفراد من النخبة السودانية، وما يجسده هذا من تضامن عملي مع ضحايا العنف في دارفور، يوثق عرى التضامن بين أهل السودان، ويقربهم من بعضهم البعض.
(11)
في مؤتمر عقد في الخرطوم العام الماضي حول فرص الوحدة بعد استفتاء الجنوب، استغرب أكثر من مشارك من الجنوب الغياب الكامل لأنصار الوحدة من الشمال عن الساحة في الجنوب، وتساءلوا لماذا لا نشاهد المسؤولين والناشطين والسياسيين يطوفون قرى الجنوب يبشرون بالوحدة ويروجون للتضامن والتقارب بين السودانيين؟ وقد شهدنا من قبل في الجنوب كما في دارفور أثناء الحرب الهيمنة الكاملة للمنظمات الطوعية الاجنبية على مهام دعم المتضررين، في حين غابت المنظمات الوطنية، وقصرت الجهات الرسمية التي أضافت إلى ذلك الاجتهاد في تعويق عمل المنظمات الآجنبية. وعليه فإن عودة النخبة السودانية المتضامنة إلى الساحة في دارفور سينقذ ما هو أهم من صحة الأفراد: صحة الوطن.
(12)
اختتم المؤتمر بتوصيات عملية حددت أوليات لدعم الخدمات الصحية، من أهمها الدعم الفوري والمباشر لخدمات صحة الطفولة والأمومة إضافة إلى الصحة النفسية، مع إعطاء أولويات لدرء الأخطار الصحية التي قد تنتج عن الجفاف. وكاقتراحات محددة قرر المؤتمرون إطلاق مبادرة لإنشاء برامج تجريبية في ثلاث محليات في دارفور لوضع نظام صحي متكامل لا يهتم فقط بالعلاج، بل يسعى لتوفير رعاية صحية متكاملة تبدأ من الغذاء والرعاية الاجتماعية. وقد ندب المؤتمرون السودانيين المقيمين بالخارج للمساعدة في توفير الدعم المالي لهذه المشاريع الطموح، وطالبوا الحكومة بالتعاون معها. ولمثل هذا فليعمل العاملون.