العصيان المدني القادم أفضل وسيلة لإسقاط النظام
صلاح شعيب
البيانات السياسية المعارضة وحدها لا تغير الحكومات الديكتاتورية. الحراك الدائب على مستوى الأرض هو الذي يفعل. لكن البيانات، وإسهامات الكتاب، وأعمال المبدعين، تخلق فقط الوعي لصالح التغيير. أي تأثير ملموس لعمل سياسي ينبغي أن يسبق بحافز فكري، وإعلامي، وتنويري. تتنوع مصادر الوعي السياسي سوى أن للبيانات مفعول آخاذ لحشد الطاقات لمهمة عاجلة، أو مستدامة. ذلك إذا صيغت عقب حوار مستوف.
ولئن استطاعت أن تخلق الحد الأدنى من الاتفاق النظري، ووقعت عليها طوائف متباينة من الناس، فالبيانات هنا أدعى لتنشيط الرأي العام بالقضية محل الاهتمام. وهذا كان جوهر أهداف بيان المثقفين، والنشطاء، والمواطنين، الذين أجمعوا عبر مشاربهم كافة لإبراز مواقفهم الوطنية إزاء الوضع الراهن الكئيب. ولاحقا يمكنهم تطوير توافقهم عبر تحديد الأولويات، وخلق آليات نشطة لتحقيق أهداف البيان، واستثمار سانحات العمل الجماعي لخلق المزيد من الكفاح السياسي.
ولكن بيانات الحد الأدنى للاتفاق السياسي المعارض، بطبيعة الحال، تتطلب تنازلات من هؤلاء، وأولئك، حتى يلتف حولها الراغبون في التوقيع. والتنازلات السياسية، رغم مرارتها أحيانا، ضرورية في العمل المدني المشترك وإلا لا توجد قيمة لوجوده.
وفِي ظروف الأزمة السودانية المتشعبة، ونتيجة لتعددية إثنياتنا، وثقافاتنا، ومدارسنا الفكرية، يصعب للمعارضين، وغير المعارضين، أن يلتفوا حول راية عمل واحدة حتى ينجزوا مشروعا. الدليل على هذا متمثل في تاريخنا الوطني. فشواهد الائتلافات السياسية المنفصمة بغير إنجاز وسط أحزابنا الكبيرة هي ميسم تاريخها. ولكن لا مناص من تكرار المحاولات المثابرة.
التهجم فقط على قوى التغيير الديموقراطي لكونها غير متفقة أمر سهل إذا لم يكن يمثل كسلا ذهنيا مقيتا يتفادى دراسة الأسباب الموضوعية.
فنحن نعرف أن هناك فرقا بين تبني الأحلام غير العملية ونواميس الواقع العصي. فتوحد قوى التغيير يستلزم صبرا على نضوج وعي المنتمين لها. ضف أن بلادنا ظلت مستهدفة في تنوعها عبر منظومات عمل سياسية داخلية، وخارجية. وهذه المنظومات ظلت توطن الفرقة في الجسد القومي بلا هوادة. واستخدمت في ذلك آليات الدولة، والارتهان الخارجي، معا.
وحتى تحدث هزيمة قصوى لمشاريع الفرقة والتآمر ضد وحدة السودانيين المؤمنين بدولة المواطنة نحتاج لاستنباط حكم بليغة حتى يتلملم شعث مكوناتنا الحزبية التي حوربت، وأضعفت، سواء بكيد من داخلها، أو خارجها. وفِي مقابل صد التآمر الداخلي، والخارجي، ما يزال مفكرونا، ومثقفونا، ومبدعونا، الديمقراطيون ينحتون ذهنهم، وخيالاتهم، لتوحيد السودانيين على قلب رجل واحد إن لم تكن “امرأة”. ولا بد أن كل عمل مستنير للتغيير يستبطن حقيقة هذه الفرقة المستوطنة التي ضربت دعاة التغيير الشرفاء منذ الاستقلال.
من خلال التجربة اتضح أن التجسير بين قوى التغيير الديموقراطي محفوف بمصاعب جمة. فبعضها يرغب في تغيير راديكالي يعيد صياغة هياكل الدولة بمجملها، وآخرون يريدون تغييرا طفيفا يزيل النظام فقط، ويقيم الإصلاح للمؤسسات القائمة، وبعض ثالث ما يزال يثق في إمكانية أن يرعوي النظام. لهذه التيارات الثلاثة في المعارضة حججها الكثيفة، وتبايناتها الحادة، وأحيانا تنعدم الثقة بينها. صحيح أنهم يتفقون على توصيف الخراب المتعمد للدولة الذي تبنته الحركة الإسلامية السودانية، ولكنهم يختلفون حول العلاج في حالة إزالتها من السلطة.
وفِي مناخ الاستقطاب الحاد هذا ينعدم السجال الموضوعي بين هذه التيارات الثلاثة التي لا تخطئ العين رؤيتها. كل تيار هو جزيرة منعزلة، ولكنه لا يستن سنة الوصول للآخر بشكل غير تكتيكي. فالمؤتمرات التي انعقدت لتجسير هذه الهوة وسط القوى المعارضة الرئيسيّة في أسمرا، والقاهرة، وباريس، وبرلين، وكمبالا، وأديس أبابا، غلب عليها طابع التوافق التكتيكي، وليس الاستراتيجي، ولذلك لم تصمد هذه المواثيق أثناء تدفق إغراءات النظام التي تلقي عليها الطعم فتبعثرها. عندئذ فإن ما يسمى الكتلة التاريخية المعنية بإحداث اختراق حقيقي في وحدة المعارضة تبقى هي الخاسر الأعظم أمام هذا التكتيك السياسي الذي لا يخلو من انتهازية في كثير من المرات.
الذين هم ينشطون في العمل السياسي باستقلالية، ودون أجندات حزبية، وأيديولوجية، وجهوية، دائماً ما يدفعون الثمن إزاء هذا التنائي السياسي الذي ظل يحكم قوانا السياسية منذ فجر الاستقلال، ويعطل حراكها الجمعي. وربما بسبب تصارع الأجندات هذي تمكن النظام من تفتيت عضد الوحدات السياسية التي نشأت عقب انقلابه. بل وما يزال خطاب النظام يغازل ليستقطب، رغم فشله البائن، جهات من ضمن هذه التيارات الثلاثة لتفجير وحدتها الداخلية، ومنع ذلك التجسير المأمول وسطها.
ما يلاحظ أيضا أن تيار التسوية مع النظام، أو ما سمي تيار “الهبوط الناعم”، عبر الحوار أو المشاركة في انتخابات 2020، أصبح ضمنيا يشارك الإسلاميين خطابهم التخويفي، وتتسهل أمامه فرص الحضور الإعلامي في أجهزته علامة على الرضا به. ومن هذه الزاوية يحس المرء أن هذا التيار صار أقرب لرضا النظام من قربه لرضا غالبية المعارضة، ما يعني تعطل مساهمته الإيجابية في التغيير بالشكل الذي ينادي به التياران الآخران اللذان يشكلان غالبية المعارضة، والعكس صحيح.
أيا كانت حجج هذا التيار، أو ذاك، فإن القراءة العميقة لما هو ماثل في وضع البلاد ترجح ضعف استمرارية النظام أمام التحديات التي يواجهها أطراف الليل، وآناء النهار. وبخلاف ذلك فإن انتظار انتخابات النظام حتى تخلق اختراقا، والصبر على تفضل الحركة الإسلامية بالاعتراف بفشلها، والتحاور من ثم لإنقاذ البلاد، يمثل ضربا من الانتحار السياسي. ولذلك تتمثل الخطوة التالية للموقعين على بيان المثقفين، والنشطاء، والمواطنين، تكثيف الحجة لإسقاط النظام، ولاحقا ابتدار إمكانية للتعاون مع كل القوى السياسية الجادة في التغيير الجذري حول أولى أولويات التغيير الخلاقة، والمنظمة جماعيا: العصيان المدني.
إن الحشد النظري، والعملي، المؤسس جيدا للعصيان المدني الذي لا بد أن يستلهم من تجارب البلاد القديمة، والحديثة، في هذا الصدد ضرورة ملحة. إنه هذه المرة سيجد تجاوبا عظيما في ظل تدهور الأوضاع في كل البلاد، فوقا عن أنه يحافظ على أرواح المواطنين، ويشل قدرات الأجهزة الأمنية، والدعم السريع، المتعطشة للدماء.