بسم الله الرحمن الرحيم
الشرتاي التجاني الطيب رائد التعليم المجهول
بقلم/ جبريل إبراهيم محمد
لقد أعطى المولى سبحانه و تعالى رجالات الإدارة الأهلية في السودان الكثير من الحكمة المستمدة من التجربة المتراكمة عبر العصور في عائلة رجل الإدارة، و من المعرفة العميقة بالمجتمعات التي يتولّون أمرها. و تميّز كثير منهم بالعدل و الشجاعة و الكرم و معرفة أنساب الرجال و مقاماتهم. هذا لا يعني أنه لم يكن من بينهم الظالم الباطش الذي سعى لحكم قومه بيد من حديد، و بخاصة عندما كانوا هم السلطة المطلقة قبل أن تمتد سلطة الدولة الحديثة إلى مناطقهم، و قبل أن ينخرط أبناء قومهم في التعليم النظامي ثم في وظائف الدولة السياسية و المدنية و النظامية، و تكون لهم سلطات أكبر من سلطات رئيس الإدارة الأهلية.
هذه السياحة القصيرة ليست للحديث عن الإدارة الأهلية في السودان، و دورها في الماضي و الحاضر، و لا عن مستقبلها. و ليست محاولة لإبراز مآثر كل رجالاتها. ففي السودان من هو أكثر تأهيلاً و أطول باعاً من شخصي الضعيف للقيام بذلك. و لكنها محاولة متواضعة لإيفاء بعض الحق لأحد رجالات الإدارة الأهلية الأفذاذ الذين تصادف لي أن أعرف طرفاً من حياته و مآثره و عطائه. و رأيت أنه يستحق التخليد إحقاقاً للحق، و إحياءً لمثال حريّ بأن يحتذى به. هذه الشخصية هو المرحوم بإذن الله الشرتاي التجاني الطيب صالح، رئيس إدارة دار قلا، و الذي انتقل إلى جوار ربه عام 1970.
للشرتاي التجاني الطيب مناقب كثيرة يستحق تخليده بأي منها، و على رأسها الكرم الذي إشتهر به. حيث كان يجد الضيف و إبن السبيل الطعام الدافيء في داره في أي ساعة من النهار أو الليل. و من كرمه أن جعل مزرعته ملكاً مشاعاً للجميع، يحصد منها كل من أراد. و كان من أكثر قيادات الإدارة الأهلية قبولاً بالوافدين من خارج إدارته للاستقرار – بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية – و تيسير اندماجهم فيها، و تقديم ما يغريهم على البقاء في دارهم الجديد. و تشهد سوق مدينة كرنوي، عاصمة دارقلا، أن الشرتاي منح الأماكن المميزة (الناصية) للوافدين من خارج دارقلا تشجيعا لهم، كما اشركهم في وظائف الإدارة من خفر و غيرها. فانصهر الوافدون في مجتمع كرنوي و تزاوجوا مع أهلها، و صار من العسير جداً معرفة الوافد إلى المنطقة من أصحاب الأرض، و بخاصة بين أبناء الجيل الثاني و نظرائهم من أهل المنطقة. كما كان الشرتاي التجاني رائداً في مجال البستنة، و زراعة الفاكهة و الخضر في بيئة شبه صحراوية. و من فضائله أنه كان لا يفجر في الخصومة. بل إشتهر أنه كان ينفق بسخاء على أبناء عمومته من معارضي سلطته الألداء، لا رجاءً في أوبتهم، و لكن قياماً بواجب صلة الرحم. الذي دفعني للكتابة عن الشرتاي التجاني الطيب اليوم، ليست مناقبه الكثيرة التي نسأل المولى أن يجزل له الثواب عليها، و إنما أردت إبراز دوره في التعليم في دارقلا و المنطقة، و تعليم البنات على وجه الخصوص.
في الوقت الذي سعى فيه بعض قيادات الإدارة الأهلية في دارفور، و ربما في أجزاء أخرى من السودان، إلى الوقوف في وجه نشر التعليم في ديارهم، لعلمهم بأن التعليم سيعرّف الناس بحقوقهم القانونية، و يحدّ من سلطة الإدارة الأهلية المطلقة، و يُخرج المتعلمين من أبناء المنطقة من بيت الطاعة، كان الشرتاي التجاني الطيب رقيقاً مع قومه في كل شأن عدا رفض التعليم. فقد كان قوياً و حازماً مع كل من يقف في وجه تعليم الأبناء و البنات. و قد سبق المنطقة كلها في تطبيق إلزامية التعليم في منطقته، و أجبر قومه على تعليم أبنائهم. حيث جعل تسجيل الأطفال في سن التعليم ملزماً، و أرسل خفره إلى كل أنحاء إدارته لأخذ الأطفال إلى المدرسة و الإتيان بكل من يرفض إدخال إبنه المدرسة ليواجه سلطة الشرتاي و غضبه. بل بلغ به الأمر أن أرسل خفره إلى موارد المياه لأخذ الأطفال غصباً عن أوليائهم إلى المدرسة. و بفضله – بعد الله – اكتظت مدرسة كرنوي الأولية، و عجزت عن إستيعاب التلاميذ الذين صار إدخالهم المدرسة إلزامياً، ففتحت مدرسة عدّ الخير، و حُوّلت مدرسة فوراوية الصغرى إلى مدرسة أولية. و كان يشجع التعليم و ينفق على التلاميذ الفقراء و يكسيهم، و يطعم المدرسة كلها من ماله الخاص لأيام إذا ما تأخر متعهد التغذية عن توريد الأغذية في ميقاتها، ثم يفرض على رجالات إدارته المساهمة في اطعام التلاميذ إلى حين وفاء المتعهد بإلتزاماته. و لا يسمح بقفل المدرسة بسبب نقص الأغذية كما يحدث في بعض المناطق الأخرى في السودان. علاوة على ذلك، عندما تبيّن للشرتاي أن طحن الغلال يدوياً لاطعام التلاميذ أمر مرهق للعاملات، ادخل الطاحونة إلى منطقته لتيسير الأمر. كما درج على ذبح ثور أو أكثر لتلاميذ كل مدرسة في كل عيد.
و للشرتاي التجاني أفضال كثيرة على أبناء المنطقة الذين كان سبباً في تعليمهم دون تمييز طبقي. فمما يروى من قصص إصراره و حرصه على التعليم، أنه مرّ على من يشرف على بهائمه صباحاً فوجده برفقة إبنه الذي في عمر المدرسة، فسأله لماذا لم يدخل إبنه المدرسة، فاجاب الرجل بأن إبنه يساعده في رعاية بهائم الشرتاي. فقال له الشرتاي دع بهائمي تضيع على مسئوليتي، و خذ إبنك غدا إلى المدرسة. فإمتثل الرجل لأمر الشرتاي على مضض، و أخذ ابنه إلى المدرسة. و بحمد الله ثم بفضل الشرتاي صار ذلك الطفل فيما بعد من كبار الأطباء الاستشاريين الذين يشار لهم بالبنان في سودان اليوم.
مهمّة الشرتاي الأكبر كانت في اقناع رعيته بتعليم البنات في مجتمع ذكوري ينظر إلى المرأة باعتبارها آلة انتاج لا رأي لها، و ليس من حقها سلوك مسالك الرقي. كان الشرتاي التجاني متقدماً على عصره بقرون في شأن المرأة و حقوقها. و لتنفيذ قناعاته بشأن تعليم البنات و جعله واقعاً لا مفر منه، خصص أرضاً لبناء المدرسة في أفضل موقع في عاصمته كرنوي، و إشترى مواد البناء الأساسية من خالص ماله ، و أتى بالبنّائين المختصين من الفاشر، و أعدّ كمائن الطوب، و وفّر وسائل و عمال نقل المياه على حسابه، ثم استنفر أهل المنطقة لمساعدته في بناء المدرسة. و كان أول من يسجل حضوره في موقع البناء في الصباح الباكر، و يباشر في نقل الطوب بنفسه، فيهرع إليه القوم و يكفونه معونة ذلك. و يبقى في الموقع إلى نهاية اليوم، و يقضي بعض أمور إدارته فيه، حتى يطمئن على سير العمل في بناء المدرسة وفق خطته. و عندما انتهى من بناء المدرسة بسورها على أحسن المواصفات، و عيّن لها خفيراَ، تقدّم لإدارة التعليم في المركز طالباً التصديق له بمدرسة كرنوي للبنات، و إرسال المدرسين و مستلزمات المدرسة بأعجل ما يتيسر. فكان له ما أراد، و فُتحت المدرسة. و لكن من أين له بالبنات؟
ليلزم الآباء بإدخال بناتهم المدرسة، ألزم نفسه، و أسرته، و الأعيان، و العاملين معه، بتسجيل بناتهم في المدرسة قبل الآخرين. ثم أعلن عن اجتماع حاشد لكل أعيان و رجالات الإدارة، و شرح لهم أهمية تعليم البنات، و ضرورة أن يلتزم الجميع بتعليم بناتهم. و توعّد الذين يعزفون عن ذلك باتخاذ ما لديه من سلطات ضدهم. و لما تأخّر الناس في إرسال بناتهم إلى المدرسة، أرسل خفره إلى البوادي و موارد المياه لأخذ البنات عنوة إلى المدرسة. و عندما تبيّن له بعد فترة أن هذا الإجراء يُنفّر الناس، و يجعلهم يفرّون ببناتهم من المنطقة، قرر أن يربط قبول التلاميذ في مدرسة البنين بقبول أخواتهم في مدرسة البنات. فأضحى لا يُقبل تلميذ في مدرسة البنين إلا مقابل قبول أخته أو قريبته في مدرسة البنات. و صار لزاماً على الذي ليس له بنت في عمر المدرسة، و يريد تسجيل إبنه فيها، أن يأتي بإبنة أخته أو أخيه أو أي من بنات الأسرة في عمر المدرسة، ليقبلا معا في المدرستين في آن واحد. و بذلك صار تعليم البنات ملزماً و ممكناً في دارقلا بفضل إصرار الشرتاي التجاني و تدابيره المحكمة، و وضع كل إمكاناته المادية و سلطته الإدارية في خدمة التعليم في إدارته، و تعليم البنات على وجه أخص، رغم كل العوائق. و قد استفاد أبناء و بنات الإدارات المجاورة أيضاً من مجهودات الشرتاتي التجاني الطيب – على روحه شآبيب الرحمة – في نشر التعليم. و لو كان الشرتاي التجاني الطيب من أهل العواصم، لكان ذكره في مصاف ذكر رواد التعليم أمثال بابكر بدؤي، و لوجد تكريماً و تخليداً يليق بما قام به من جهد استثنائي في نشر التعليم عموماً، و نشر تعليم البنات على وجه أخص في بيئة عصية على قبول مشروعه في زمانها. و من هنا أدعو أبناء دارقلا، و كل الذين تخرجوا في مدارس كرنوي و عدّ الخير و فوراوية من البنين و البنات بما فيهم الرئيس التشادي إدريس دبي إدنو ، أن يسعوا لرد شيء من جميل الشرتاي إليهم بتكريمه بالكيفية التي يرونها.
أخيراً، هذه مجرد فاتحة شهية لمن أراد أن يكتب عن الشرتاي التجاني الطيب، أو أي من قياداتنا الذين قدّموا لمناطقهم بغير منّ و لا أذى. و أشكر للدكتور زكريا محمد طاهر علي الذي أمدني بغالب المعلومات التي جاءت في هذا المقال و شجعني على كتابته.