حين همّ كمال عمر المحامي, أول المتحدثين عن المؤتمر الشعبي في ندوة الأربعاء بدار الأمة بأم درمان, بالصعود إلى المنصة، ترددت تكبيرات أعقبها تصفيق. وعندما أخذ علي الريح السنهوري أمين حزب البعث العربي الاشتراكي دوره لمخاطبة الحضور، تعالت صيحات (بعث الموت شيء مستطاع وموت البعث شيء مستحيل).
أما صديق يوسف القيادي الشيوعي، فقد استقبل بهتافات (عاش نضال الشعب السوداني.. عاش نضال الحزب الشيوعي السوداني)، فيما زف الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم بمقولات السودان الجديد (سودان جديد وياي). أما الإمام الصادق المهدي، فقد رافقت صعوده إلى المنصة هتافات أعضاء حزب الأمة (الله أكبر ولله الحمد). وهكذا اختلفت الحناجر بدار الأمة، إلا أن الجميع اتفق- من على المنصة- على ضرورة السعي لوضع برنامج حد أدنى انتخابي لكافة قوى المعارضة باختلاف تشكيلاتها لهزيمة المؤتمر الوطني في الانتخابات القادمة، وقال كمال عمر بسخرية (سنهزم المؤتمر الوطني في كل الانتخابات بما فيها انتخابات اتحاد الكرة).
الحرية قبل الانتخابات
وكان كمال عمر المحامي ورئيس الدائرة العدلية بالمؤتمر الشعبي أول المتحدثين في الندوة، حيث قال (كل الدساتير بعد العام 56 دساتير مؤقتة تعالج قضايا الدولة السودانية). وتعرض عمر للقوانين التي تتعارض مع الدستور وتعوق عملية التحول الديمقراطي قائلاً: (إذا لم يتم تعديل تلك القوانين المقيدة للحريات والمخالفة للدستور، فلا يمكن أن نضمن أولاً قيام انتخابات حرة ونزيهة العام القادم. كما أن هذه القوانين تحد من إرادة الناخب، فلا يستطيع التعبير عن رأيه بشكل واضح وحر، وكذا الحال بالنسبة للأحزاب والقوى السياسية المختلفة). وأضاف: (قانون مفوضية الانتخابات أعطى الولاة والمعتمدين سلطات واسعة في فض التجمعات ومنع تسيير المواكب)، موضحاً أن المؤتمر الوطني لا يريد تعديل تلك القوانين لأنه لا يرغب في انتخابات حرة ونزيهة. وأكد عمر عزم تحالف قوى المعارضة على إقامة العديد من الندوات الجماهيرية في دور الأحزاب المختلفة من أجل تعبئة الجماهير، وذلك لكي تظهر بوضوح استعدادها لخوض الانتخابات القادمة.
البعث يدعو للنقد الذاتي
من جانبه، وجه أمين حزب البعث الاشتراكي الأستاذ علي الريح السنهوري سياطاً لاهبة للأحزاب والقوى السياسية وحملها مسؤولية الإخفاق الوطني في قيام نهضة شاملة بالبلاد، وفشلها بالتالي في تحقيق الأهداف الكلية لبلادنا وذلك لاعتمادها على المناورات والمزايدات وتغليب المصالح الحزبية والذاتية على مصالح البلاد، ثم قال: (لكن تبقى الأحزاب هي الداء والدواء في ذات الوقت)، واشترط السنهوري لتوحيد رؤى المعارضة واصطفافها ضد المؤتمر الوطني, ضرورة مواجهة عيوبها بتقديم نقد ذاتي شامل في المقام الأول. ورد الريح على تصريحات د. نافع علي نافع أمين الشؤون السياسية والتنظيمية بحزب المؤتمر الوطني الحاكم حول غياب الأحزاب، وأن الأجيال الحالية لا تعرفه، متسائلاً: (من الذي غيب الأحزاب السياسية؟ أليس هو المؤتمر الوطني؟ لماذا لا تمنح الأحزاب فرصاً في أجهزة الإعلام المملوكة للدولة من إذاعة وتلفزيون، والتي أصبحت بمثابة ضيعة خاصة بالمؤتمر الوطني؟). واستدرك قائلاً: (لا أحد يستطيع تغييب الأحزاب)، وضرب أمثلة بالبعث في العراق، والمهدية في السودان وقال: (فشلت قوى الاستعمار القديم والجديد في اقتلاع البعث من بلاد الرافدين، وفشل الإنجليز في اقتلاع الدعوة المهدية التي ظلت باقية إلى اليوم برغم نجاحهم في اقتلاع الدولة). وتساءل السنهوري مرة أخرى: (إذا كانت الأجيال الحالية لا تعرف الأحزاب وملتفة حول الإنقاذ، فلماذا المماطلة في إجازة القوانين المقيدة للحريات والذهاب إلى انتخابات حرة ونزيهة؟).
خروقات بالجملة
مسؤل ملف الانتخابات بالحزب الشيوعي السوداني, الأستاذ صديق يوسف, عدّد الخروقات التي وقع فيها المؤتمر الوطني ومفوضية الانتخابات, سواء ما يتصل باتفاقية السلام الشامل أو قانون مفوضية الانتخابات، قائلاً: (اتفاقية نيفاشا تتويج لنضالات الشعب السوداني, ومهدت الطريق لتحول ديمقراطي، ولكن توجد بعض الخروقات هنا وهناك، فمن ذلك أن الاتفاقية نصت على أنه وبمجرد التوقيع على الدستور تتولى الحكومة مراجعة القوانين المعارضة له لتتواءم معه، كما خرق المؤتمر الوطني قانوني الأحزاب والانتخابات. كما أن الدستور والاتفاقية حددا إجراء التعداد السكاني قبل نهاية العام الثاني من توقيع الاتفاقية أي في التاسع من يوليو 2007م، لكن نتائجه أعلنت بعد مرور نحو أربع سنوات على الاتفاقية). وأضاف يوسف: (مفوضية الانتخابات أعلنت عن ترسيم “17” دائرة انتخابية، فطلبنا منها في الحزب الشيوعي “كتابة” أن تفيدنا عن الطريقة التي بنت عليها توزيع الدوائر، وعلى أي إحصاء سكاني اعتمدت تلك الدوائر؟ فردت علينا المفوضية شفاهة. أما وأن المفوضية قد قسمت تلك الدوائر كان يجب عليها أن تعلن القوى السياسية المختلفة بها لتقديم طعونها في فترة لا تتعدى ثلاثين يوماً بحسب المادة “39” من قانون مفوضية الانتخابات). وقال القيادي الشيوعي: (حكومة تقوم بهذه الخروقات الكثيرة فهي غير مؤتمنة على تقرير مصير السودانيين أو على اتفاقاتها المبرمة مع مختلف القوى السياسية).
من جهة أخرى، قال المهندس صديق يوسف: (لقد طرحنا مسألة الحكومة الانتقالية حتى تقوم بتمهيد الطريق نحو قيام انتخابات حرة ونزيهة، وتعمل على حل مشكلة دارفور). وعن مؤتمر جوبا المزمع عقده مطلع الشهر القادم، قال: (يجب أن يكون هذا المؤتمر بمشاركة كافة الأحزاب بما فيها المؤتمر الوطني. فإما توصلنا لاتفاق أو عرفنا كيف يفكر البعض).
حذار من نقض العهود
الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم قدم مرافعة طويلة عن مشروع السودان الجديد, ورؤية الحركة الشعبية للواقع السياسي وآفاق الحل, وتناول قضايا متنوعة وكثيرة، غير أنه استهل حديثه بتحية الشهداء الذين سقطوا في ظل الأنظمة الدكتاتورية, وعدد شهداء القوى السياسية في نضالها ضد القوى الدكتاتورية. وأكد مجدداً تمسك الحركة الشعبية بالقرار الذي أصدرته محكمة لاهاي مؤخراً بشأن أبيي، قائلاً: (رفض المؤتمر الوطني لبروتوكول أبيي، ومن ثم رفضهم لتقرير الخبراء، جعلنا نذهب مضطرين إلى لاهاي، لكني أجدد عزم الحركة على تنفيذ الاتفاق على الأرض)، وحذر أموم من حمل السلاح خارج القوات النظامية وتركه بأيدي المواطنين قائلاً: (السلاح أداة تحطيم للمجتمعات ولا يبني السلام والثقة بين الناس). ثم عرض رؤية الحركة الشعبية لما أسماه بالمشروع الوطني وقال: (سمات هذا المشروع يجب أن تقوم على القواسم المشتركة الجامعة بين القوميات والثقافات السودانية المختلفة وأن نبتعد عن محاولات فرض الهوية، والتمسك بالهويات الصغيرة في بلد تعددي)، وضرب مثلاً طريفاً بلغة الشلك وقال: (لو أنني قمت الآن بدعوتكم لتعلم اللغة الشلكاوية- وهي لغة سهلة- وأن تتركوا لغاتكم الأم في الشمال والشرق والغرب هل ستقبلون بذلك؟), وواصل تاركاً الجميع يضحكون: (يجب أن نتيح الحرية والمساحة لكل الثقافات المختلفة دون انحياز الدولة لدين أو ثقافة أو لغة، وأن نبني الدولة السودانية على أساس التطلعات المشتركة للسودانيين)، ووصف أموم اتفاقية السلام بالمحاولة الجريئة والجادة لحل الأزمة السودانية أو ما يمكن أن نسميها بـ”صراع المركز والهامش- خاصة الهامش الجنوبي- والحروب الأهلية، والظلم”، وليست للجنوب مشكلة مع الشمال.. مشكلته هنا مع حكومة الخرطوم، ثم أن الاتفاقية أرست دعائم حكم فيدرالي يمنح الولايات سلطات أوسع)..
تقييم الاتفاقية
وعن تقييمه لاتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحكومة والحركة الشعبية، قال أموم: (من ناحية الانتقال للنظام الديمقراطي هناك إشكالات حقيقية لأن المؤتمر الوطني متمسك جداً بـ”الإنقاذ”، وإعادة بنائها أثناء عملية تنفيذ الاتفاق، وعرقلة الانتقال نحو التحول الديمقراطي. كما يجب أن ننتقل إلى بناء مؤسسات الدولة “الخدمة المدنية وغيرها” والتي يسيطر عليها المؤتمر الوطني وفصل فيها أناساً كثر بحجة ما أسموه “الفصل للصالح العام”، كما يجب بناء جهاز قضائي وعدلي يتمتع باستقلالية ومهنية، دون أن يعبر عن وجهة ورأي حزب واحد). وأضاف أموم (إن عدم تنفيذ الاتفاق أو بناء الدولة السودانية المدنية سيعيد إنتاج الأزمة من جديد)، ودعا المؤتمر الوطني إلى الاحتكام للشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة بدلاً عن الوقوف في طريق التحول الديمقراطي، لأن ذلك يجعلها تكسب ثقة الناخبين وربما أعادوها للحكم- يضحك الحضور- ويواصل (إذا لم يسلم هؤلاء السلطة عبر الانتخابات، فإنني أخشى على مستقبلهم السياسي). وشدد أموم في حديثه على ضرورة الوفاء بالاتفاقات والعهود، متسائلاً: (لماذا يأتي نقض العهود دائماً من المركز كما يشهد بذلك التاريخ؟), وحذر في هذا الإطار من اللعب بحق تقرير المصير للجنوبيين كما أقرته الاتفاقية، وأن يكف أولئك الذين يفكرون في فرض الوحدة بين الشمال والجنوب بـ(القانون) عن محاولاتهم، وأضاف قائلاً: (إن الذي يجعل الجنوبيين غير متحمسين للعيش في وطن واحد هو أنهم يشعرون بأن حقوقهم مهضومة في هذه البلاد، وهم يأتون في مرتبة أقل، ولا يشعرون بانتماء للبلد. لهذا ولكي يبقى السودان موحداً يجب بناؤه على أسس جديدة تقوم على الديمقراطية والتعددية واحترام الثقافات المختلفة، وأن يكون دولة علمانية تحترم الأديان وتقف عندها بالتساوي. أما إذا كانت الدولة قائمة على أساس ديني سواء كان “المشروع الحضاري” أو “الصحوة الإسلامية”، فإن مصير الجنوب هو الانفصال لا محالة, لأن الجنوبي لا يأمن على ماله ونفسه ودينه وعمله). وضرب مثلاً ببائعات الخمور البلدية قائلاً: (تمتلئ السجون بآلاف الجنوبيات اللائي يعملن في صناعة الخمور البلدية، وهي عندنا ليست عيباً لكنها كذلك عند المسلمين).
وعن مستقبل السودان، قال أموم: (إذا حدث انفصال يجب أن تتعايش الدولتان في سلام مثلما حدث مع مصر والسودان، حين اختار الأخير الاستقلال عن مصر ثم تعايشا معاً. وسيكون للحركة الشعبية وجودها في الشمال مثلما هناك قوى سياسية لديها وجود في الجنوب، وإذا حدثت الوحدة يجب أن تقوم على شروط جديدة. فمثلما قبلت مصر بقرار ممثلي الشعب السوداني من داخل البرلمان واحترمت رغبته، يجب على الشمال أن يقبل ويحترم رغبة الجنوبيين).
السودان يكون أو لا يكون
أما الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي، فقد بدأ بتحذير شديد ومقتضب وهو يقول: (نحن أمام أن يكون السودان أو لا يكون)، معدداً ثلاثة أسباب للمشكلة السودانية وهي ما أسماها بـ(محاولة فرض رؤية أحادية على وطن متعدد) وتقسيم كل شيء على اثنين, بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني, ليس من العدالة في شيء, وهي محاولة لفرض رؤية ثنائية على المجتمع ككل. فالسودان مشاكله واحدة، لكن اتفاق السلام انحصر بين الشمال والجنوب، وخلقت الاتفاقية حالة من الاستقطاب في الحكم والسياسة، وأعيد توصيفي لها بـ(أنها داخل غرفة العناية المكثفة)، وزاد المهدي: (نحن أمام حالة فيها اتفاقية لا تنفذ على المستوى المطلوب، وهناك قراءة متعثرة من قبل مفوضية التقويم، وهناك بالطبع مشاكل التعداد والاستفتاء وغيرها). ونبه المهدي إلى أن تلك الخلافات لا تخص الشريكين وحدهما بل تخص كل الشعب السوداني، واصفاً سير الأمور بالبلاد بـ(العناد والانفراد)، وأضاف المهدي (إن بلادنا تستقبل في العام خمسة مبعوثين خارج الأطر الدبلوماسية, لأن حالتنا حالة مريض يعيش في غيبوبة)، ودافع عن توقيع حزبه لاتفاقيات مع الحركات المسلحة وقال: (هم لم يقرأوا اتفاق التراضي الوطني الذي وقعناه معاً، فهذه الحركة تجاه دارفور أملتها وقوف “حمار الشيخ في العقبة” بعد أن تعقدت الأمور, ولن نترك بلادنا تتجه نحو الهاوية ونقف متفرجين).
وعن المخرج للأزمة الراهنة، قال المهدي (يجب أن تتفق القوى السياسية وألا تترك مصير البلاد لحزب عنادي). وأكد أن حزبه يرفع شعار (نحو وحدة جاذبة أو جوار أخوي)، ويطرح مشروع (السودان العريض) بهذه المفاهيم والرؤى. وقال المهدي: (عرضنا على لجنة حكماء أفريقيا مسودة إعلان مبادئ ووافقت عليها. فإذا وافقت الحركات المسلحة عليها هي الأخرى، سيكون أساساً للحل).
وكانت الندوة التي دعا لها حزب الأمة بداره قد عقدت تحت عنوان (مستقبل السودان) وحضرها لفيف عريض من قادة القوى السياسية وجماهير الأحزاب.
وعلى صوت الفنانة الأنصارية فيحاء محمد علي القوي وأدائها المؤثر، رقص وعرض وبشر البعض وهم يرددون معها بحب وحماس:
في الفؤاد ترعاه العناية
بين ضلوعي الوطن العزيز
لي عداه بسوي النكاية
وإن هزمت بلملم قواي
غير سلامتك ما عندى غاية
إن شاء الله تسلم وطني العزيز
تقرير: محمد غلامابي