بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور الأفندي و خيار اليوتوبيا
بقلم: جبريل إبراهيم محمد
للأخ الصديق الدكتور عبدالوهاب الأفندي معزّة و احترام كبيران عندي و عند جمهور قرائه العريض في السودان و خارجه، لأنه يكتب بأسلوب سلس أخّاذ قل ما يجاريه فيه أحد. و لأن يراعه الدفّاق يصدع بالحق و بالحجّة الدامغة. و فوق هذا كله، يحظى باحترامي الخاص لأنه اكتشف سوءات الانقاذ في وقت مبكّر و جهر بها رافضاً فقه السترة. و أنذر قومه المغررين بشعارات تديّن لم تتجاوز حلوق الذين يتشدقون بها و يملؤن الدنيا بها ضجيجاً، فاستبان الأمر لبعضهم مساءً، و بقي فريق منهم سادراً في ضلال الانقاذ إلى يوم الناس هذا، متعلقاً بأهداب سلطة لا ترعى في مواطنها إلاً و لا ذمّة. إلّا أن احترامنا و تقديرنا الخاص للدكتور الأفندي يجب ألا يكون مسوغاً للحؤولة بيننا و بين تناول بعض كبواته بالنقد و التعليق، و منها ما جاء في مقاله المنشور في صحيفة سودانايل الإلكترونية بتاريخ 15 يناير 2013 تحت عنوان “الإشكاليات في وثيقة كمبالا:خطوة إلى الوراء تجاه الأزمة السودانية المزدوجة”.
اتخذ الدكتور الأفندي في مقاله آنف الذكر موقفاً معادياً لتحالف “ميثاق الفجر الجديد” الذي جمع المعارضة السلمية مع المعارضة التي تحمل السلاح على صعيد واحد لاسقاط النظام الذي يبدو أنه – على الأقل في الظاهر – لا يكن له كبير ودّ، و لا يتّفق معه في كثير من سياساته. إلا أنه قدّم خدمة جليلة للنظام – من حيث أراد أم لم يرد – بكيله السباب و الذمّ للمعارضة بشقّيها، و إظهارها بأنها أسوأ من النظام القائم، و أن وصول تحالف ميثاق الفجر الجديد إلى السلطة لن يكون سوى احلال نظام مستبد سدّ منافذ الحوار بآخر أقل حسناً منه. كما قدّم ذات الخدمة الثمينة للنظام بسعيه الحثيث – عبر المقال – لدقّ إسفين بين أطراف التحالف بإيغار الصدور و تخويف الأطراف من بعضها، باتهامه للمعارضة المسلحة بأنها لا تثق في الأخرى، و أنها لا محالة ستهيمن على السلطة بقوتها العسكرية إذا بلغتها، و أن “السلاح مثل العملة الفاسدة يطرد العملة الحرة من السوق”، و أن الحركات المسلحة واجهات لفصائل سياسية، و أنها مجموعات لا تمثّل إلا جزءاً يسيراً من الشعب، و أنها تفتقر إلى الحوار الداخلي، و أن الانشقاقات و الرصاص هو أداتها لحسم الخلافات كما هو الحال عند عصابات المافيا، إلى آخر سيل التهم التي لم يسندها بالدليل. و في المقابل اتهم المعارضة السلمية بأنها تسعى إلى استخدام المعارضة المسلحة حطب حريق للوصول إلى السلطة، و أنها تنظيمات “أسياد” لا تعرف الديموقراطية في داخلها، و أن من بين قادة المعارضة من شارك في أنظمة دكتاتورية و لم يعتذر للشعب عن تلكم المشاركة. كما وصف المعارضة مجتمعة بأنها “تدمن لعق أحذية كل طاغية” و دعاها إلى لعق أحذية النظام من باب أن الأقربين أولى بالمعروف!! و قال أنها “تصرخ” بالحرية من عواصم لا تعرف غير الحزب الواحد و الصحيفة الواحدة، و أنها مرتمية في أحضان المخابرات الأجنبية إلى غير ذلك من التهم التي تجري دائماً على ألسنة زبانية النظام و أبواقه، مما يجعل التمييز بين رأي الدكتور الأفندي في المعارضة و رأي النظام فيها أمراً أعسر من سلخ النملة. و السؤال المهم هنا: لماذا اختار الدكتور الأفندي القيام بهذا الدور الهدّام تجاه المعارضة في هذا التوقيت و بهذه اللغة الفظة التي لا تليق بعالم نحرير و مفكر في قامته؛ و مبلغ علمي أنه فارق الانقاذ منذ أمد ليس بالقصير؟! يا ترى هل بقي في دمائه من فيروس الانقاذ شيء؟! أرجو ألا يكون كذلك.
نسي الدكتور الأفندي أن نلسون ماندلا، الزعيم الإفريقي الأسطورة، الذي استشهد به و يريدنا أن نحذو حذوه و نقتفي أثره، هو في حقيقة أمره، و رغم عظم مثاله الباهر، لم يكن بالمثالية “اليوتوبية” التي يطلب منّا أن نركن إليه. فهو من مؤسسي Umkhonto we Sizwe الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1961 الذي أقام المعسكرات في دول “أجنبية” مثل روديسيا (زمبابوي) و موزمبيق و انغولا و ناميبيا، و نفذ المئات من العمليات التي يمكن أن تصنّف في زماننا هذا في خانة “العمليات الإرهابية” – خلافاً لعمليات المواجهة المباشرة مع قوات النظام التي تقوم بها المعارضة المسلحة في السودان – في مواجهة نظام الفصل العنصري البغيض قبل أن يعلن عن انهاء هذه العمليات في العام 1990. و قد برر نلسون ماندلا انشاء الجناح المسلح للحزب حينها بالآتي: ” في بداية عام 1961 ، و بعد تقييم طويل مقلق للوضع في جنوب إفريقيا، وصلتُ أنا و بعض من زملائي إلى خلاصة مفادها أن العنف صار أمراً حتمياً في هذه البلاد، و يكون من عدم الواقعية و الخطأ أن يستمر القادة الأفارقة في الدعوة إلى السلام و نبذ العنف في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة مطالبنا السلمية بالقوة. الوصول إلى هذه النتيجة لم يكن بالأمر الهيّن؛ و لم نصل إليه إلا عندما فشلت كل الحيل الأخرى، و عندما سُدت أمامنا كل قنوات الاحتجاج السلمي. عندها فقط، قررنا اللجوء إلى الشكل العنيف للنضال السياسي، و أنشأنا Umkhonto we Sizwe (MK). و قد فعلنا ذلك ليس لرغبة منّا في هذا المسلك؛ و لكن لأن الحكومة لم تترك لنا خياراً غيره.”كما قال الزعيم ماندلا في ذات السياق: “يأتي في عمر كل أمة زمان لن يكون أمامها سوى خيارين: الاستسلام أو القتال. لقد بلغنا في جنوب إفريقيا تلك اللحظة الآن، و لن نستسلم؛ و ما لنا خيار غير الردّ بقوة و بكل الوسائل المتاحة لنا دفاعاً عن شعبنا و مستقبلنا و حريتنا”.
لجأت إلى هذا الاقتباس المطوّل من أقوال الزعيم نلسون ماندلاّ لأن كل الأسباب التي فرضت على الزعيم و زملائه حمل السلاح قائمة و ماثلة أمام أعين الشعب السوداني، و بشهادة الدكتور الأفندي نفسه. حيث لم يكتف نظام الخرطوم بسدّ منافذ الحوار الوطني الحر بل سفّه المنادين به، و دعا إلى منازلته بالسلاح لأخذ الحقوق التي إغتصبها هو بقوة السلاح. وقد دُفعت المعارضة المسلحة السودانية إلى حمل السلاح دفعاً – و حمل السلاح مهمة أبعد ما تكون عن نزهة في حديقة هايدبارك اللندنية – لأنها خُيرت بين الاستسلام و القتال، و ما كان لها أن تختار غير القتال، لأن الاستسلام أمر حقير و ذو عواقب وخيمة لا يقبل بها الحر الأبيّ. و سقت تجربة المؤتمر الوطني الإفريقي و قائده لأذكّر الدكتور الأفندي بأن تحالف ميثاق الفجر الجديد الذي يمجّه و يغلظ عليه القول أقرب إلى تجربة المؤتمر الوطني الإفريقي من ثورة الشباب “النقيّ ممن لم تتلوّث أيديه بدماء الأبرياء أو المال الحرام” التي يريد لنا انتظارها. فقد جمع المؤتمر الوطني الإفريقي في كنفه غير قليل من التنظيمات التي تحمل توجّهات متباينة، و تعتمد أساليب مختلفة في المقاومة، ليصنع بها المعجزة التي ينسبها الناس إلى زعيمه ماندلا من باب “الخيل تجقلب و الشكر لحمّاد”. فقد حمل المؤتمر الوطني الإفريقي السلاح مضطراً، و أقام معسكرات لجيشه في بلاد أجنبية – و جيوش المقاومة السودانية في أرضه – و قدم قادته أرواحهم رخيصة في سبيل قضيتهم كما الحال عندنا، و دخلوا السجون مثلما للمعارضة السودانية قادة أمثال المناضل الجسور المهندس يوسف لبس و أصحابه الذين مكثوا في زنازين النظام ب(جزيرة) كوبر لما يناهز العقد من السنين العجاف.
و أقول لأخي الدكتور الأفندي: بصفتك باحث متميّز، عليك بذل المزيد من الجهد للتعرّف على المعارضة المسلحة. فهي في حقيقتها بحال أفضل مما تظن. كما أنه ليس في دستور أي من تنظيماتها حصر العضوية في عرق أو ركن محدد من الوطن؛ مع التأكيد على أنها لا تستطيع و لا تملك فرض حمل بطاقة عضويتها لأي سوداني إلا بمحض إرادته و اختياره الحر؛ و أن الانشقاقات ليست بالماركة المسجّلة لدى المعارضة المسلّحة وحدها؛ و يحقّ للمعارضة المسلحة التي تدافع عن شعبها الأعزل ادعاء تمثيل الشعب إذا جاز للنظام المسلّح الذي اقترف كل الكبائر و الخطايا في حق الشعب أن يدّعي ذلك. كما أقول له: ثقّ أن المعارضة بشقيها قد تعلّمت كثيراً، من تجاربها الداخلية و من تجارب الوطن العريض، و استيقنت أن العمل على الإستئثار بالسلطة و اقصاء الآخرين، لا يورث إلا الكراهية و العزلة كالتي يعيشها النظام. و لذلك لم يدع الميثاق إلى تكوين الحكومة القومية الانتقالية من الموقعين على الميثاق فحسب، و دعا إلى قيام مؤتمر دستوري يصدر عنه الدستور الانتقالي و يؤسس لكتابة الدستور الدائم و لم يقل بأنه سينفرد باصدار الدستور الانتقالي. و أقول للدكتور الأفندي: أن غياب الديموقراطية في بعض دول الجوار لا يعفينا من المطالبة بها في بلادنا، و أن ميثاق الفجر الجديد لن يكون مختلفاً عمّا هو عليه لو كُتب لاجتماع المعارضة أن يعقد في عاصمة أكثر ديموقراطية؛ و أننا مع ثورة الشباب النقي الذي يدعو إليه رغم أننا نشكّ في أن للشباب مناعة مطلقة ضد الانتماء إلى الأحزاب أو الأفكار، و أن بامكان جماعة غير منظمة القيام بثورة تسقط هذا النظام الذي يستخدم القوة المفرطة لاسكات أي محاولة للتعبير عن الرأي. و أخيراً أقول له و للقراء الكرام: لا سبيل إلى خلاص الوطن مما هو فيه إلا بتحمّل الآخر، و افساح المجال للحوار الحر، و بسط الشورى، و السعي باخلاص و تجرّد نحو تحقيق وفاق وطني راسخ.