محجوب حسين
مضي عقد من الزمان والشيء المؤكد ولا يختلف حوله اثنان، ان دماء ومدادا كثيرا سال منذ اندلاع الثورة السودانيـــة في دارفور، التي تمددت وانتشرت وعمت كل اجــــزاء الوطن السوداني، والنتيجة وفق حاصل القيـــــمة السياسي لم تكتمل بعد، ولكنها تتقدم في نقلات نوعية وكمية حتى تمكنت من ملامسة مقر منظومة التمركز السودانية، حيث يوجد صاحب المسؤولية الدستورية والاخلاقية. ومن يريد رصد حراك هذه الثورة يجدها متقدة وفي اهم واشد مراحلها على الاطلاق منذ اندلاعها قصد اكمال القبضة النهائية، أما وفق الحاصل الحسابي وباستعمال رموز الرياضات في الطرح والجمع والضرب والقسمة فهي تساوي صفرا.
في خضم كرنولوجيا هذه الازمة التي تحولت الي كارثة وازمة عالمية نجدها مرت بمحطات واسلاك شائكة كثيرة يصعب سردها وتوصيفها،’الا ان’الاهم في الموضوع الدارفوري السوداني الان، انه لا يحمل جديدا غير سريان وتفعيل الهندسة السياسية المقصودة والمرسومة سابقا كاستراتيجية، والمبنية على ثنائية حادة قائمة على مفهومي ‘الدمج’ او’الالحاق’ ضمن منظومة الخلل السياسية السودانية، جاء عبر اتفاق او دونه، وهي سياسة لم تتغير بعد مضي عشر سنوات من نشوب الازمة، فيما الرؤى الاستشرافية لهذه الهندسة التي تقوم على هندسة سوء النوايا في ادارة الازمة تقول، ان اي مجهودات لحلول مرتقبة بالضرورة ان تبقى ولا تخرج عن هذا السيناريو الذي له ادبياته والمدافعين عنه، ويلبي في محصلته النهائية شروط عقل التمركز السياسي الحاكم في التعاطي مع قضية دارفور، باعتبارها ازمة تريد ان تغير المنظومة وبموجبها اوراق اللعبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في السودان، كحد ادنى وهو مكمن السر والرفض.
وامتدادا لهذا النهج ومن اجل تحسين ظروف المعركة من جديد وليس تغييرها، وفي اعادة جديدة لتراكم كم المؤتمرات واللجان التي لا تحصى ولا تعد، زائدا الانشاءات السياسية المكتوبة التي تصاحب عادة مقرراتها وتوصياتها، انتظم مؤتمران، الاول محلي فرخ لجنة جديدة اطلقت عليها لجنة ‘ الاتصال بالحركات’، وهي لجنة ‘الاخ الاول’ واسندت رئاستها لرجل الاعمال الدارفوري الحاج صديق، المعروف ‘بودعة’.
وفي مراجعة تاريخية تعتبر اللجنة عبارة عن اعادة استنساخ متقدمة من حيث الشكل للجنة سابقة هي ‘لجنة منبر ابناء دارفور’ عام 2004 لحل ازمة دارفور ولالحاق او دمج الحركات التي لم توقع وقتها على اتفاقية ‘ابوجا’ 2006 المنقرضة، وهنا بدون ان نتوقف كثيرا في اسئلة مشروعة عن ماهية هذا الاتصال وزمنه وآلياته وحدود مساحة حركته، ولماذا استنهض الان وحدد رجال المرحلة القائمين عليه، واين مصدر قوته واهليته السياسية وحدود شرعية هذا التفويض ضمن متغيرات قد تكون اختلفت فيها شروط الصراع، بالنظر الى عموم القضية السودانية، ولماذا تم تغييب المؤسسات الدستورية المعنية في الدولة، او بشكل ادق مصدر الحكم محل صنع القرار وطبخه وترحيل الازمة من المركز الى الكيان المحلي، بالاعتماد مجددا على بوصلة ‘الجودية السياسية’، ان صح التعبير- (والجودية عرف سوداني اجتماعي/ اهلي محلي يعمل به عند نشوب نزاع اجتماعي او قبلي او مدني كقضايا الزواج او الطلاق والقتل، فيها يتم استدعاء كبار القوم من الطرفين وتتم تسوية القضية عرفيا وفرض احكام ملزمة للطرفين بدون اللجوء الى المحاكم).
هذه اللجنة، لا نشكك مطلقا في حسن نواياها، كما اقول من عندي انها مقبولة، لاطراف من الصراع في الحركات السودانية المنطلقة من دارفور، والدليل استطاعت في هذا المنحي ان تتوصل الى وثيقة عمل مع حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان ‘مناوي’، ربما كانت مخيبة لامال من كانوا خلف تكوينها، حيث مخرجاتها موضوعية، اهمها اكدت فيها ان حل ازمة دارفور تبحث في اطار الحل الشامل للاشكالية البنيوية في السودان، وهو عمل متطور ومتقدم ونوعي في اطار نشاط الفعاليات الدارفورية. ولاول مرة استطاعت النخبة الدارفورية من كبار القوم – رغم ان القوم كله بات كبيرا – في ان تكسر حاجز ‘ترزية’ حكم عقل التمركز القابض، وتخرج من عباءة سياستي’الدمج او الالحاق’ الحكوميتين اللتين يبرمجهما العقل نفسه، والحل الشامل المشار اليه هو التفكيك السلمي للنظام او اسقاطه عبر فوهة البندقية – ولا ندري هل اللجنة فهمت ذلك ام لا- ومعناه في كلا الحالتين ترتيبات جديدة لوضع انتقالي جديد بدون الرئيس السوداني، يتبعه مؤتمر جامع لشعوب او اقاليم السودان، فيه يتم وضع ترتيبات دستورية جديدة تناسب المتغيرات السودانية وتلبي شروطها القائمة على اعادة الهيكلة لبناء اسس نظام ديمقراطي توافقي سوداني، فضلا عن انه تجاوز والغاء عملي لكل الملحقات السابقة، مثل اتفاقية ‘الدوحة’ دمجا كان او الحاقا، حيث ولدت هذه الاتفاقية وامام شاهد ملك ميتة، ومن اجل رأس واحد اختلف الناس، لمؤهلاته او سحنته الاجتماعية، وتحولت في ما بعد لاتفاق امتيازات ومصالح مباشرة تنفذها ‘طبقة المستوردين’ للازمة، كانوا وسطاء’جودية’ وانقلبوا الى زعامات لحركات لا علاقة لها بواقع الارض والقضايا الوطنية في دارفور، ولكن الحكومة تتمسك بها تلبية لشروط الدولي والداخلي، والسؤال الملازم الذي ليس بيدي اللجنة، هل تمتلك مفاتيح الحل الشامل ولها من الصلاحيات ما يؤهلها لصناعة قرار سوداني قومي يفضي الى التحول في السودان كله، وبالتالي انجاز المهمة العصية التي فشلت فيها الدولة، ام تكتفي بوضع توصياتها على الرف كشأن اخريات ويكتب لها في ميزان الحسنات في مجهود جبار بذلوه؟ الا ان غطرسة الحكم هي التي قطعت الطريق للحيلولة دون اكمال الحل.
اما الثانية ذات الصلة بالاشكال الدارفوري، فهي لجنة ‘الاخ الثاني’ التي انبثقت عن فعاليات المؤتمر الذي نظمه الرئيس التشادي ادريس ديبي في مدينة ام جرس التشادية مؤخرا وتحت رعايته، حيث نقل اليه نفر من قبيلة ‘الزغاوة’ السودانيين للاجتماع به، جاءت جل نتائج مقرراته على عكس اللجنة الاولى معززة ومكرسة سياستي الدمج او الالحاق الحكومتين والمرفوضتين مسبقا، والادهى لازمها اجال للالتحاق بها، مع تصريحات للرئيس التشادي فسرت على انها – حربية- تهدف لاذعان وخضوع وخنوع قادة وثوار مسلحين من ابناء’ الزغاوة’ في صفوف الحركات المسلحة السودانية، وبالمرة حسم التمرد لاعتبار القبيلة هي السبب الرئيس في استمرار الحرب بالاقليم من وجهة نظر حكام السودان، وهو اختزال مخل بجوهر القضية كاختزال القضية السودانية نفسها، علما بان وجودهم لا يمثل اكثر من عشرين في المئة من مجموع قوات الجيش الثوري للحركات، هنا تستنهض اسئلة عديدة بريئة حول المؤتمر وممثليه والغاية منه، ولماذا استهداف ابناء’الزغاوة’ السودانيين في الحركات العسكرية دون غيرهم من قبائل السودان الاخرى المنضوية، او قل القبائل السودانية الدارفورية الاخرى، التي لها اصول مع تشاد وهي عديدة فيها العربية والافريقية لمن لا يعلم؟ كما لا ندري الغطاء الشرعي والدستوري والقانوني والاخلاقي الذي استند اليه الرئيس التشادي، او استندت اليها المجموعة ‘الزغاوية’ التي قيل انها ‘فوضته’ لحل ازمة دارفور، حسما او رضا، وهل يكفي امام هذا الوحل السياسي البعد الجيولبيتكي والجيوسياسي والاجتماعي، باعتبار الرئيس التشادي اجتماعيا ينتمي لقبيلة ‘الزغاوة’ ذات الامتدادات المشتركة بين تشاد والسودان، ام ثمة دوافع اخرى تتعلق باجندة مشتركة تضم لاعبين كثرا لضرب المقاومة السودانية ذات الصوت المدوي في تفاصيل القضايا الوطنية، ومصدر قلق يومي للرئيس السوداني، خصوصا بعد دخولها ام درمان عام 2008، واعني هنا حركة العدل والمساواة السودانية. وكيف يصنف هذا الامر في القانون الدولي والعلاقات الدولية تدخلا أم نوايا اقليمية دولية طيبة وحسنة، ام مؤامرة بين النظامين؟ وفي سياق هذه الاستفهامات هل قضية دارفور هي قضية لقبيلة بعينها دون القبائل الدارفورية الاخرى، التي يصل تعدادها الى المئة؟ وهل زعمت القبيلة في يوم ما انها الممثل الشرعي الوحيد لقضية وطنية مثل قضية دارفور، حتى تستهدف عناصرها؟ ومن قال ان قضية دارفور هي قضية مطلبية وترتبط حصرا بتنمية مناطقها الواقعة على الشريط الحدودي مع تشاد او حتى دارفور كلها؟ وبالمقابل وفق ‘صك تفويض’ ابناء من الزغاوة السودانيين للرئيس التشادي وتهديدات ووعيد الاخير تجاه حركات تحرر وطنية سودانية، وبنفس آلية شرعنة استجلاب الاجنبي للقيام بمهام فشلت في ادائها الدولة السودانية نفسها، ووفقا لمبدأ’ التعامل بالمثل’ هل يجوز مثلا ان تذهب الحركات المسلحة الى ‘تل ابيب’ او’واشنطن’ وتقوم بتفوض رئيس الوزراء الاسرائيلي او الرئيس الامريكي حسم قضية دارفور عبر ضرب نظام البشير واسقاطه واعادة البناء والتنمية ليس لـ’دار زغاوة’ فحسب بل دارفور وعموم السودان، وهل استهداف عناصرها من طرف الحكومتين السودانية/ التشادية تشكل ارضية موضوعية ومسوغا قانونيا- كما تعد لها جهات معينة – قد تجبر القبيلة لطلب الحماية الدولية من ابادة مرتقبة قد تنفذها عمليات مشتركة بين الحكومتين، خصوصا انه حتى الان لا تعرف دوافع حكومة الرئيس التشادي في تصدير عناصرها المسلحة لعدد من الدول الافريقية للقيام بدور، كما نلحظ في كل من مالي وافريقيا الوسطى والسودان وليبيا. الاهم في سياق تشابك هذا التحول ‘الزغاوي/ الحكومي’ السوداني وارتباطه ‘بالزغاوي/ التشادي’ الدولة على صعيد وتعقيدات هذا الارتباط مع ‘الزغاوي السوداني الثوري’ الحامل للسلاح ضد الرئيس السوداني عمر البشيرمن جهة ثالثة تقول انها محاولات ان تم جمعها وقراءتها بناء على ارشيف هذا التقاطع الذي لا يتسم بالثبات كترمومتر درجات الحرارة طوال العقد الماضي من عمر الثورة وتداعياته الايجايبة مرة والسلبية مرة ثانية قد لا تغير في سياق احداث ومجريات الثورة السودانية في شيء، لان مكانيزم وداينمو العمل نعتقد انه اختلف جذريا، واي ترتيب من هذا النوع لن يوقف الثورة من قيادة التحول الديمقراطي الذي اقترب، ولكن ربما تغير في جزء من الولاءات وتعكر بموجبها صفو العلاقات البينية الاجتماعية لقبيلة الزغاوة المشتركة بين البلدين، وتنسحب تدريجيا لعلاقات حسن الجوار والتعاون الممتدة بين تشاد والسودان التي ترى فيها الحركات علاقة استراتيجية قائمة على حسن الجوار وعدم تدخل دولة في شؤون اخرى، وترحب في ذات الوقت بأي مجهود غير عدائي من الشقيقة تشاد تدفع بالامور ايجابا في معالجة القضية السودانية.
في الاخير، المؤكد ان لجنتي ‘الاخوين’ السوداني والتشادي، رغم عدم وجود رابط او تداخل منهجي بينهما، كل منها تعمل في دائرة خاصة واهداف مختلفة كليا، كما بينا، وليس ثمة جداول زمنية بينهما الا انه ومع ذلك من حيث الموضوع تلتقيان في ازمة دارفور وموضوع الحركات المسلحة في الاقليم، وهو الامر الذي تجاوزته منظومة الاخيرة على مستوى الاهداف والخطاب السياسي والاليات والتقنيات، لترتبط عضويا بالاهداف الوطنية والحل البنيوي للمشكلة السودانية، ودارفور تبقى جزءا من كل وليس عبر ثنائية الدمج او الالحاق، اما سياسيا فاوقفت عبثية التفاوض مع نظام الحكم، وعسكريا تقدمت متجاوزة جغرافيا دارفور الى جغرافيا قريبة من مركز القرار، واهم اهدافها اسقاط النظام الحاكم في شراكة متكاملة مع القوى الديمقراطية الاخرى وبناء دولة ديمقراطية قائمة على حقوق المواطنة، التي تعتبر الجهاز المركزي في ازمة دارفور وكل الازمات السودانية ومعالجتها بالضرورة تتم عبر برنامج اعادة الهيكلة. وهو موقف الجبهة الثورية السودانية التي تشكل الحركات السودانية الدارفورية اضلاعها الثلاثة، فيما الضلع الرابع يعود للحركة الشعبية في مربع محكم، وبالتالي لا نرى مستقبلا لاي مبادرة على النمط الكلاسيكي بدون استصحاب المتغيرات الوطنية في الصراع، متغيرات الحل الشامل المشار اليها.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن
القدس العربي