ورقة مستعادة من رزنامة قديمة
ساءني في حلقة الثاني من يونيو 2017م من البرنامج الرَّمضاني “أغاني وأغاني”، لصاحبه الفنَّان القدير السِّر احمد قدور، أن المغني البارع عاصم البنَّا شوَّه أداءه الجَّميل لرائعة أبو داود الخالدة “هل أنت معي”، من كلمات محمَّـد عـلي أحمـد، والحـان برعـي محمَّـد دفـع الله، بتصرُّفه غير الحميد في بعض مواضع القصيدة، وتحديداً في الأبيات التي تقول: “سَكِـرَ السُّـمَّارُ والخَمَّـارُ فِـي حَـانِ الغَـرَامْ/ وأنا الصَّاحِي أرَى فِي النُّورِ أشْبَاحَ الظَّلامْ/ وبَدَت كَأْسِـي عَلَى رَاحِـي بَقَايَا مِـنْ حُطَامْ”، وكذلك البيت القائل: “عَـادَ بِي الوَجْـدُ إِلَى لَيْلِي وكَأْسِـيَ مُتْرَعِ”!
(1)
اتَّخذ ذلك التَّصرُّف شكل التفادي المقصود لكلّ التَّعابير التي تفيد “صورة الخمر” ودلالاتها. وبدا أن لقدور يد طولى في الأمر، بدليل عدم اكتفائه بالإشادة بالأداء، بل أضاف، أيضاً، استحسـانه لذلك التَّصـرُّف، ناسـباً إياه إلى البنَّا!
الغالب أن التَّصرُّف، على أيَّة حال، سواء كان من عنديَّات البنا، أو بدفع من قدور، ناجم عن إحساس طاغ بحرج ديني غير مبرَّر، صوَّر التَّغني بأيٍّ من ترميزات الخمر، كالكأس، والسُّكر، والحان، والخمَّار، كضرب من مقارفة “المحرَّمات”، بعكس ما استقرَّ من شعر “صوفي” في الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، كما سنرى.
(2)
الخمر، لغةً، الحجب والتَّغطية. وتُصنع من نقيع مختلف صنوف الفاكهة كالبلح والعنب. وسُمِّيت خمراً لمخامرتها العقلَ، وتغيِّبيه عن الإدراك. ودرءاً لسوء التَّفاهم غير المرغوب فيه، نسارع للإقرار بأن “صورة الخمر” في الشِّعر العربي ليست على وجه واحد، وإنَّما على وجوه ثلاثة: حقيقي، ومجازي دنيوي، ومجازي صوفي. فأمَّا على الوجه الأوَّل فقد خلدت الثَّقافة العربيَّة، ضمن الكثير من محمولاتها الشِّعريَّة، ضرباً من التَّراكيب الغنائيَّة الوصفيَّة للخمر، فغالت في التَّفنُّن في تصويرها، ومدحها، والتَّولُّع بها، بل والتَّرغيب فيها، والإغواء بمعاقرتها، تركيزاً على دلالاتها الواقعيَّة المباشرة، كاللذة الحسِّيَّة، والنَّشوة الجَّسديَّة، وما إلى ذلك. ولعلَّ أكثر من خَلَدَ ضمن هذا الضَّرب، منذ العصر الجَّاهلي، امرؤ القيس، ومن أشهر إنشاده: “فَظَـلِلْتُ فِـي دِمَنِ الدّيََارِ كَأَنَّنِي/ نَشْــوَانُ بَاكَـرَهُ صَـبُوحُ مُـدَامِ/ أَنِـفٍ كـَلَوْنِ دَمِ الغَـزَالِ مُعَـتَّقٍ/ مِنْ خَمْرِ عَانَةَ أوْ كُرُومِ شَبَامِ”؛ وكذا أبو نواس، منذ العصر العبَّاسي، ومن أشهر قوله: “ألا فَاسْقِنِي خَمْرَاً وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُ/ ولا تَسْقِني سِرَّاً إذا أمْكَنَ الجَّهْرُ/ فَمَا العَيْشُ إلا سَكْرَةٌ بَعْد سَكْرَةٍ/ فَإِنْ طَالَ هَذَا عِنْدَه قَصُـرَ الدَّهْـرُ/ ومَا الغُبْنُ إلا أَنْ تَرانِيَ صَـاحِيَاً/ وما الغُنْمُ إِلا أنْ يُتّعْتِعَنِي السُّـكْرُ”.
وأمَّا على الوجه الثَّاني فقد خلَّدت تلك الثَّقافة ضرباً آخر من الاستعارات لـ “صورة الخمر”، وما ينتسب إليها، ويترمَّز بها، كناية عن الكلف بالمعشوق، حدَّ الاستغراق في السُّكر “المعنويِّ” بحبِّه. فلئن “حرَّمَت” الرِّسالة المحمَّديَّة، لاحقاً، ذلك الوجه الأوَّل المادح للخمر، من حيث دلالتها “الماديَّة”، والمحرِّض على معاقرتها بالمعنى المباشر، فإن النَّقد العربي لم ير بأساً في الوجه الثَّاني الذي اعتُبر، رغم دنيويَّة الاستخدام المجازي لرمزيَّة الخمر، وما يلتحق بها، مِمَّا لا حرج فيه، من زاوية “التَّحليل والتَّحريم”، حيث يستخدم الشَّاعر ألفاظاً عربيَّة، في صور مجازيَّة، يدلِّل بها، فحسب، على مدى استغراقه في العشق والهيام.
(3)
راكم المدى المتقارب لهذين الوجهين نتاجاً شعريَّاً دنيويَّاً ضخماً، منذ ما قبل الإسلام، مروراً بعصر النُّبوَّة، والعصر الأموي، والعصر العبَّاسي، حتَّى العصور الحديثة، فدخل “ديوان العرب” باسم “الخمريَّات”. ومن نماذجه في الجَّاهليَّة، إضافة إلى إنشاد امرؤ القيس، قول لَبيدٍ: “إِذَا شَرِبُوا صَدُّوا العَوَاذِلَ عَنْهُمُ/ وكانُوا قَدِيمَـاً يُسْكِتُونَ العَوَاذِلا”، وقول طرفة بن العبد: “ومازَالَ تَشْرَابِي الخُمورَ ولَذَّتِي/ وبَيْعِي وإِنْفَاقِي طَرِيفِي ومُتْلِدي”. ونسوق من فترة نهايات الجَّاهليَّة وبواكير الإسلام قول المخضرم كعبٍ بن زهير: “نَشْـفَى بِهَـا وهـيِ دَاءٌ لَـو تُصـاقِبنَا/ كَمَـا اشْـتَفَى بِعـِيَادِ الخَمْـرِ مَخْمـُورُ”، وإلى ذلك قول الخنساء في المشهور من رثائها لأخيها صخرٍ: “فَقُمْـتُ وقَــدْ كَـادَتْ لِرَوْعـةِ هُلْكِــهِ/ وفَـزْعَـتِهِ نَفْسِـي مـِن الحُـزْنِ تَتْبَعُ/ إلَيْــهِ كَـأنِّـي حَـــوْبَـةً وتـخَــشُّــعـاً/ أخُو الخَمْرِ يَسمُو تَارَةً ثُمَّ يُصـْرَعُ”، بل ونسوق قول حسان بن ثابت: “ونَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنا مُلُوكَاً/ وأُسْدَاً مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ”، وكذلك قوله: “ولَقَدْ شَرِبْتُ الخَمْرَ فِي حَانُوتِهَا/ صَهْبَاءَ، صَافِيَةً، كَطَعْمِِ الفِلْفِلِ”، وقوله أيضاً: “فَاشْرَبْ مِن الخَمْرِ مَا آتَاكَ مَشْرَبُهُ/ واعْلَمْ بِأَنْ كُلُّ عَيْشٍ صَالِحٍٍ فَانِ”. كما أنشد الحطيئة، المخضرم الآخر، واصفاً الخمر وصفَه للحُليِّ، قائلاً: “إِلى طَفْلَةِ الأَطْرافِ زَيَّنَ جِيدَهَا/ مَعَ الحُلْيِ والطِّيبِ الجَّاسِدُ والخمرُ”. وفي العصر الأموي أنشد الأخطل: “بَانَ الشَّبابُ ورُبّما عَلّلْتُهُ/ بِالغَانِيَاتِ وبِالشَّرَابِ الأَصْهَبِ”.
بذات القدر تكثر نماذج “صورة الخمر” في الشِّعر العربي المعاصر، ومن ذلك، على سبيل المثال، قول معروف الرّصافي: “تَمِيلُ بِقَدِّكَ خَمْرُ الدَّلالْ/ فَيَضْحَكُ فِي مَيْلِهِ الاعْتِدَالْ”؛ ويشبِّه شوقي بها الزَّمانَ قائلاً: “لَمْ نَفِقْ مِنْكَ يَا زَمَانُ فَنَشْكُو/ مُدْمِنُ الخَمْرِ لا يُحِسُّ الخُمَارَا/ فَاصرُفِ الكَأسَ مُشْفِقَاً أو فَوَاصِلْ/ خَرَجَ الرُّشْدُ عَنْ أَكُفِّ السُّكَارَى”! كما يمدحها محمود سامي البارودي بقوله: “تَسِمُ الْعُيُونَ بِنَارِهَا لَكِنَّهَا/ بَرْدٌ عَلى شُرَّابِهَا وَسَلامُ”؛ ويتشوَّق حافظ إبراهيم لمجلسها قائلاً: “وادْعُ نَدْمَانَ خَلْوَتِي وائْتِنَاسِي/ وتَعَجَّلْ واسْبِلْ سُتُورَ الدِّمَقْسِ/ واسْقِنَا يَا غُلامُ حَتَّى تَرَانَا/ لا نُطِيقُ الكَلامَ إلاّ بهَمْسِ/ خَمرةً قِيلَ إنّهُمْ عَصَرُوهَا/ مِنْ خُدُودِ المِلاحِ فِي يَوْمِِ عُرْسِ/ مُذْ رَآهَا فَتَى العَزِيزِ مَناماً/ وهو فِي السِّجْنِ بَيْنَ هَمٍّ ويَأْسِ/ أعْقَبَتْهُ الخَلاصَ مِنْ بَعْدِ ضِيقٍ/ وحَبَتْهُ السُّعُودَ مِنْ بَعْدِ نَحْسِ”!
وفي الشِّعر السُّوداني خرائد شبيهة كثر، من أشـهرها إنشاد توفيق صالح جبريل: “نَضَّـرَ اللهُ وَجْهَ ذَاكَ السَّاقِي/ إنَّه بِالرَّحِيقِ حَّلَ وِثَاقِـي”، والتي يسـترسـل فيهـا قائلاً: “ظَلّت الغيدُ والقَواريرُ صَرْعَى والأَبَاريقُ بِتْنَ فِي إِطْرَاقِ/ أأتِنِي بِالصَّبُوحِ يَا بَهْجَةَ الرُّوحِ تُرِحْنِي إِنْ كَانَ فِي الِّدَّنِّ بَاقِ”. وإلى ذلك قول محمَّد المهدي المجذوب: “فليتي في الجَّنوب ولي ربابٌ/ تهيم به خطايَ وتستقيمُ/ وأَجْـتَرِعُ المَريسَةَ فِي الحَواري/ وأَهْـذِرُ لا أُلامَ ولا ألُومُ”. وكذلك قول عبد الله الطَّيِّب: “تَرَكْتُ سُلافَ الخَمْرِ بَعْدَكِ مُدَّةً/ وعُدْتُّ إِلَيْها كَيْ تَفُكَّ قِيودِي”؛ وقوله الآخر: “يَا بَابِليَّةَ خَمْر قَدْ ظَفِرتُ بِهَا/ أحسُو وتَمْزِجُهَا نَفْسِي بِمُمْتَزَج”. وفي الشِّعر الحديث نماذج لا حدَّ لها.
(4)
أمَّا الوجه الثَّالث، المجازي الصُّوفي، لـ “صورة الخمر” في الشِّعر، ضمن الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، فإن أكثر ما يحدِّد ملامحه هو فعل الخمر، إذ يغيِّب الذَّات المتلاشية في العبادة عن الكون المادِّي، بكلِّ ما فيه من جسوم، ورسوم، ونجوم، وشهب، وموجودات، وحوادث، وخلافه، وذلك من أثر المخامرة حدَّ السُكْر التَّام، والذَّوبان الكامل في عشق المعبود، وأحياناً في ذات المعبود، حتَّى ليكتمل التَّنائي بين صورتين للخمر، حسيَّة وروحيَّة. فالخمر الرُّوحيَّة رمز للمحبَّة الإلهيَّة الأزليَّة المنزَّهة عن العلل الزَّمكانيَّة، والمنطوية على الأسرار العرفانيَّة، والقادرة على جعل الحقائق تتجلَّى، والأكوان تشرق، والأرواح تنتشي، وتستبدُّ بها سكرة العشَّاق.
ورغم أن ثمَّة مفردات خاصَّة ترد، أحياناً، مترافقة مع “الصُّورة الرُّوحيَّة” للخمر، كـ “البدر، والهلال، والشَّمس، والنَّجم”، مثلاً، إلا أن نفس البناء القاموسي المستخدم لـ “الصُّورة الحسيَّة” قد استقرَّ على تركيب “الصُّورة الرُّوحيَّة”، أيضاً، كـ “الحان، والدِِّنان، والنَّديم، والكأس، والرَّاح، والقداح، والخمَّار، والسَّاقي، والثُّمالة، والنَّادل، والشَّذى، والكرْم، والصَّهباء، والصَّبوح، والغبوق”، فضلاً عن مختلف صيغ الطلب إلى السَّاقي أنْ “أدرها، وناولها، واسكبها، وهاتها، وعجِّل بها، وإلينا بها، وداونا بها، وأرحنا بها”. ويتبقى المدى الوحيد للتَّفريق بين الصُّورتين في البُعد التَّرميزي لهذه المفردات، مِمَّا يقتضي إعادة شحنها بدلالات تخدم الصُّورة الذِّهنيَّة لدى الشَّاعر، وتتَّسق مع جوهر البناء العرفاني للرُّموزيَّات.
وقـد أجـاد شـعراء التَّصـوُّف توظيف “الصـُّورة الرُّوحـيَّة” للخمـر، وتوابعـها، أيَّمـا إجـادة، ففجَّـروا قدراتهـا البيانيَّة تفجـيراً رائعـاً، ونهـلوا مِمَّـا سـكب اللّه، عن طريقها، في ألبابهم، من طاقات الكشف والشَّوق والمحبَّة. ومن هؤلاء محي الدِّين بن عربي القائل، مفصحاً عن مقصده من وراء ذلك: “ألا كلُّ مَا قَدْ خَامَرَ العَقْلَ خَمْرةٌ/ وإِنْ كَانَ فِي مَزْرٍ وإِنْ كَانَ فِي تَبَعِِ”. والقائل كذلك: “واشْرَبْ سُلافَةَ خَمِرِهَا بِخِمَارِهَا/ واطْرَبْ عَلَى غَرِدٍ هُنالِكَ تُنْشدُ/ وسُلافةٌ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أََخْبَرَتْ/ عَنْ جَنَّةِ المَأوَى حَدِيثَاً يُسْنَدُ”. أمَّا الإمام السَّهروردي فيقول: “رَقَّ الزُّجَاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ/ فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأَمْرُ/ فَكَأَنَّهَا خَمْرٌ ولا قَدَحٌ/ وكَأَنَّهَا قَدَحٌ ولا خَمْرُ”. ومن جانبه ينشـد صاحـب البُردة أبـو عـبد الله البوصيري: “مَوْلىً تَلَذُّ لنَا أَخْبَارُ سُؤدَدِهِ/ كَأنَّ أَخْبَارَهُ مِنْ حُسْنِها سَمَرُ/ فلَوْ أدَارَتْ سُقَاةُ الرَّاحِِ سِيرَتَهُ/ عَلَى النَّدَامى وحَيَّوْهُمْ بِهَا سَكِرُوا”. وفي ميميَّته الشَّهيرة، بل لعلها الخمريَّة الرُّوحيَّة الأشهر فی تراث الشِّعر العربي الإسلامي، ينشد ابن الفارض “سلطان العاشقين” الذي يكاد النُّقَّاد يجمعون على أن طاقات الخمريَّات البیانیَّة قد انتهت به، فليس ثمَّة جديد في الخمريَّات بعده، قائلاً: “شَرِبْنَا عَلَى ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدامَةً/ سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الكَرْمُ/ لَهَا البَدْرُ كَأْسٌ، وهيَ شَمْسٌ، يُدِيرُها/ هِلالٌ، وكَمْ يَبْدُوإِذَا مُزِجَتْ نَجْمُ/ ولَوْلا شَذَاهَا مَا اهْتَدَيْتُ لِحانِها/ ولَوْلا سَنَاهَا مَا تَصَوَّرَهَا الوَهْمُ”. وينشد عبد الرحيم البُرَعي اليمني قائلاً: “ومَنْ لَكَ بِالزِّيارَةِ مِنْ حَبِيبٍ/ حَمَتْهُ البيضُ والأَسَلُ الظِّبَاءُ/ صَبِيحٌ فِي لِمَى شَفَتَيْهِ خَمْرٌ/ كَأنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ”. وينشد أيضاً: “وبِنْتُ عَشْرٍ سَقَاهَا الحُسْنُ خَمْرَ صِبَاً/ فَالقَلْبُ مِنَهَا بِغَيْرِ السُّكْرِ سَكْرَانُ”. أمَّا عبد الغني النَّابلسي فيسهب في شرح هذا المقصد قائلاً إنه الرَّمز لا الدَّلالة المباشرة، ويدمغ الاكتفاء بقشور الظََّواهر عن ألبابها بأن ذلك من قِصَر النَّظر، حيث التَّرميز، في الحقيقة، بوصف الخمر، ومدحها، لا حرج فيه، ولا تثريب عليه، حين يكون محض جسرٍ قريبٍ لمرادٍ بعيدٍ، ومجرَّد ذكرٍ للحقيقة الرَّمزيَّة المجازيَّة، لا الحقيقة الواقعيَّة المباشرة، فينشد في ذلك قائلا: “صَرِيحُ كَلامِي فِي الوُجُودِ وإِيمَائِي/ سَوَاءٌ وإِعْلانِي هَوَاهُ وإِخْفَائِي”، ويواصل حتَّى يبلغ قوله: “عَلَيْكَ نَدِيمِي بِارْتِشَافِ كُؤُوسِهَا/ فَفِي كَأسِها مِنْهَا بَقِيَّةُ صَهْبَاءِ/ ومَا الكَأسُ إِلا أنْتَ والرُّوحُ خَمْرُهَا/ تَحَقَّقْ تَجِدْ فِي السُّكْرِ أَنْوَاعَ سَرَّاءِ/ وفِي عَالَمِ الكَرْمِِ الذي قَدْ تَعرَّشَتْ/ عَنَاقِيدُهُ قِفْ واغْتَنِمْ فَضْلَ نَعْمَاءِ/ وخُذْ مِنْهُ عُنْقُودَاً هُو الجِّسْمُ ثمَّ دَعْ/ كَثَائِفَهُ واحْفَظْ لَطَائِفَ لَأْلاءِ/ ولا تَكْسِرِ الرَّاوُوقَ إِنَّ الصَّفَا فيهِ/ وحلِّلْ ورَكِّبْ فِي أُصُولٍ وأَبْنَاءِ/ إِلَى أَنْ تَرَى وَجْهَ الزُّجَاجَةِ مُشْرِقاً/ وذَاتَ الحُمَيَّا فِي غَلائِلِ بَيْضَاءِ/ فَإِنَّ هُنَاكَ الدَّنَّ دَنْدَنَ فَانِيَاً/ وَجَاءَ الدَّوَاءُ الصِّرْفُ يَذْهَبُ بِالدَّاءِ/ وأَقْبَلَتِ الحَسْنَاءُ بِالرَّاحِ تَنْجَلِي/ عَلَى يَدِهَا يَا طِيبَ رَاحٍٍ وحَسْنَاءِ”.
ينسحب ذلك الشَّرح على مذاهب الشُّعراء المتصوِّفة أجمعين، في ما يتَّصل باعتماد رمزيَّة الخمر ومتعلقاتها في أشعارهم العرفانيَّة، فليس في ذلك خروج على الإسلام، كما قد يبدو للنَّظر المتعجِّل، حيث تغلغلت هذه الرَّمزيَّة في نسيج قماشة الوجد الإلهي، واندغمت في معمار البناء العرفاني لهذا الشِّعر، فتجاوزت المعطيات الماديَّة إلى المعطيات الرُّوحيَّة، وتسامت عن الطابع الحسِّي إلى التَّجريد المثالي.
وافرٌ كذلك شعر المتصوِّفة السُّودانيين، فصيحه وعاميُّه. فمن نماذج فصيحه، مثلاً، قول الشـيخ قريب الله: “سَلامٌ سلامٌ أُهَيْلَ المُدَامْ/ خُذُونِي إلَيْكُم فَأَنْتُمْ كِرَامْ”. وقول الشَّيخ المجذوب جلال الدِّين: “سَقَاهُ بِكَأْسٍ مِنْ لَذِيذِ شَرَابِهِ/ عُبَيْدٌ تَرَاهُ فِي الخَلائِقِ يَلْعَبْ/ وآنَسَهُ حَتَّى اسْتَطَابَ بأُنْسِهِ/ فَهَيَّمَهُ فِيهِ سَنَاءً ومَشْرَبْ”. أمَّا عاميُّه فهو الأكثر شعبيَّة، كقول أحمد ود سعد: “حَسَنْ وَدْ عُثْمَانْ قُوُمْ دَوِّرْ الكُوْبَاتْ” يريد بها جمع كَوْبْ؛ وكذا قول الشَّيخ المكاشفي: “وَلُّوا مُدْبِريْنْ ذَاقُوا لَذِيذَ الخَمْرُ/ مِنْ بَعْدْ التَّعَبْ تَعَبْ الصَّرِيْحْ للأَمرُ”، ومعلوم أن من خصائص شعر المديح والحقيبة عدم تهيُّب كسر قواعد النَّحو إن تعارضت مع ضرورات القافية أو العَروض؛ وثمَّة، أيضاً، قصيدة “السُّرَّاي” ذائعة الصِّيت، مجهولة المؤلف، والقائلة في بعض مواضعها: “وَاحْدِيْنْ بَارْكِيْنْ فُوْقْ اللاَّلُوبْ/ وواحْدِيْنْ بالِّليْلْ شَايْلِيْنْ مَشْرُوبْ”!
وينبغي ألا يظنَّنَّ كريم أن هذا التَّرميز وقف، فحسب، على شعر المتصوِّفة العرب؛ فلعلنا إذا نظرنا في ثقافة إسلاميَّة أخرى غير عربيَّة، لوجدنا، مثلاً، محمد إقبال، الفيلسوف الإسلامي، وشاعر الهند العظيم، يستعير، هو الآخر، رمزيَّة “نشوة الخمر” في قوله: “جَاهِلاً سِرَّ الحَيَاةِ اجْتَهِد/ وامْضِ نشوانَ بخمرِ المَقصِدِ”!
(5)
نخلص إلى أن “صورة الخمر”، وتوابعها، في أغنية أبو داود “هل أنت معي”، والتي تغنى بها عاصم البنَّا لبرنامج “أغاني وأغاني”، تسمو عن كلِّ ما قد يكون اعتقد الأخير فيها من خروج على الدِّين والأخلاق، ربَّما بتوجيه، كما أشرنا، أو بإيحاء من قدور. فهي، من حيث الاستخدام المجازي، مِمَّا لا بأس به، ولا حرج فيه، على مستوى “التَّحليل والتَّحريم”، إذ يستخدم الشَّاعر، كما ذكرنا، ألفاظاً عربيَّة يدلِّل بها، ترميزيَّاً، فحسب، على مدى استغراقه العاطفي في الحبِّ والهيام. أما من حيث الاستلهام لشعر التَّصوُّف، فثمَّة، في نفس الأبيات المشار إليها، ما “يبرِّئ” الشَّاعر من الإغواء التَّبسيطي السَّاذج بمعاقرة الخمر، كما ويرجِّح ميله، فقط، لاستلهام الرُّموز الصُّوفيَّة شعراً، وذلك في شكواه من أن عدم “سُكره” بالغرام، على العكس من “سمَّارِ” الحانة الآخرين و”خمَّارِها”، قد أبقاه “صاحياً” وحده يراقب، رغم الضُّوء، “أشباح” الظلام: “سَـكِرَ السُّـمَّارُ والخَمَّـارُ فِـي حَــانِ الغَــرَامْ/ وأنا الصَّاحِي أرَى فِي النُّورِ أشْـبَاحَ الظَّلامْ”. فهذه الصُّورة تستدعي إلى الأذهان تعبير ابن الفارض في ميميَّته المار ذكرها: “أََرْوَاحُنَا خَمْرٌ وأَشْبَاحُنَا كَرْمُ”. فـ “الأشباح” كمقابل لـ “الأرواح” هي، في شرح النَّابلسي لديوان ابن الفارض، “الصُّور التي عليها الكَائنات في عالم إمكانها”! وقد استخدم الشَّاعر هذه الترميزات لتكثيف خبرة لا تحدُّها القيود الزَّمكانيَّة، تعبيراً عن “غيبةٍ وفناءٍ يكسران طوق عالم الأشباح”!
ك. الجزولي
ضاحية شمبات الهجرة
8 يونيو 2017م
[email protected]