بقلم د. الوليد آدم مادبو
تعجبني، بل تذهلني، مقدرة الشباب المتظاهرين هذه الأيام في التعبير عن مواقفهم بعبارات بسيطة تعكس فهماً عميقاً لظواهر معقدة، وبطريقة ساخرة تعكس مدي جديتهم وعزمهم علي عدم السماح للظرف العصيب للتأثير علي حيويتهم وصفائهم الروحي.
سأل أحد المحللين السياسين ناشطاً مدنياً عمّا ينوون فعله وتحقيقه من هذا الحراك الكثيف. فرد عليه قائلاً:” نُسَقِّط هذه الحكومة، ونُسَقِّط الحكومة الإنتقالية ثم نرجع إلي منازلنا.” لله دره، فقد أغناني هذا الفتى عن المشقة النفسية وأعفاني من الكبد الفكري،
إذ كنت مشفقاً علي الثورة من رجال يحملون “حبالاً علي أبقار”. وكل ما يحسنون فعله قولة: “هش، تك”.
إن قوي التغيير والهامش تدرك أن معظم السياسيين والمنخرطين في الشأن العام، والذين ظلوا في تدافع حيوي مع الإنقاذ لعقود، يحتملون في طياتهم جزءً ولو يسير من إرثها في التعاطي الإنتهازي والنرجسي والإستبدادي الوقح حال التفاعل مع كبريات الأمور. وها هم يخرجون علينا من المقابر ببيانات ومواثيق وتحالفات (منهم من قبرته الحادثات ومنهم من سارت بخبر موته الشائعات)؛ لكأنهم يتصورون أننا قد نسينا مواقفهم وسجلهم الحافل بالمخازي والتأمر والالتفاف حول قضايا الجماهير. رغم كل ما حل في هذا البلد من مأسي، فإن هناك أقلية عرقية وأيديولوجية ما زالت تظن أن لها حق قدسي لتسيير زمام الأمور في هذا البلد. وقد غرهم أن هناك قلة من أبناء الهامش قد أصابتهم هزيمة معنوية فانصاعوا لهم طوعا وقنعوا من العملية السياسية بدور الرقيب.
هذه هي الإشكالات السلوكية الأكثر غوراً في شخصية السياسي السوداني، بيد أن هنالك تشوهات أصابت بنية الوعي الثقافي للإنسان السوداني وبنية الوعي الإقتصادي والإجتماعي (مما تسبب فيما أسميته “ببنية الوعي الإنشطاري”)، وهذه هي التي لزم التعرض لها إن أردنا صدقاً أن نُعَبِّد الطريق نحو الحرية، السلام، والعدالة، وأن نجعل الثورة خياراً للشعب لا إصطفاءً من النخب أو انحيازاً لخيارتها.
لقد منحتنا الثورة فرصة للتصالح لأنفسنا إذ سرعان ما تسامينا الجراح وإنتقلنا من موقف الإنكار للجرائم التي إرتكبت ضد الهامش إلي الإعتراف بها، بل الندم علي عدم إتخاذ المواقف المبدئية وبالطريقة اللازمة. هل سننجح في تطوير هذه الوحدة الوجدانية إلي وحدة مشتركات سياسية وموضوعية؟ بأي الآليات؟ ووفق أي معطيات؟
لقد شكل النظام لجنة أقرت بإغتيال الأستاذ أحمد خير، لكنه ظل يستنكف عن مجرد التحقيق في إبادة جميع الذكور بقرية حمادة بدارفور. بل إنه، اي النظام، لن يتواني عن تفعيل آلية الإبادة مرة ثانية إذا ما أجترأ الدارفوريين على التحرك الجماعي من أحياء الخرطوم الطرفية. وإذا شئت فأنظر إلي أحيائهم التي تحولت إلي ثكنات عسكرية، رصدت بناحيتها أسلحة ثقيلة تكفي لتحرير الفشقة أو حلايب. لقد دفعت دارفور الجغرافية ضريبتها التي لا تتضاهي في معركة التحرير، وها هي العصابة تتربص بدارفور الإجتماعية. فهل سيكون المطلوب من الأخيرة الإسهام بنفس القوة للدفع في ذات الإتجاه، أي إتجاه التحرير من النظام؟ وما الذي يلزمها للتخلص من المنظومة؟ علماً، بأن لكل غاية من هاتين الغايتين تكتيكاتهما، إستراتيجيتهما وتحالفتهما.
يقول الأستاذ عثمان نواي: “والان والوطن يقبع فى القاع، فان الحراك الذى يقوده هذا الشباب هو بالتأكيد صعود الى اعلى. فشباب اليوم الذى يتحدث لغة الراندوك التى أصبحت الان لغة تكتب بها بيانات الثورة، لن يفرقه أوهام المتطرفين دينيا، ولا احلام المتشددين سياسيا ولا مؤامرات المتعصبين عرقيا. وعلى إيقاع الزنق تعالت هتافات تسقط بس ورقص الناس وهتفوا للحرية.. هذا الشباب وهذه الثورة ولأول مرة تمثل السودانيين بس… دون اى حاجة الى توصيفات او إضافات أخرى.. حيث الهوية لم تعد سؤال بعد الآن.. إنها ممارسة عملية تخلق وتعيد انتاج نفسها مع طموحات شباب يصبو الى الحرية والكرامة والإنسانية للجميع على أرض السودان… ومع خروج نهائي للنخب وتعاليهم من باب تسقط بس، يفتح السودان أبوابه نحو مستقبل مختلف لم يحلم به حتى الكثيرون من الاجيال السابقة .. لانه اكبر وأوسع واجمل مما تخيلوا او مما كان يخدم مصالحهم” (10 فبراير 2019).
إن تمدد الثورة أفقياً مرهون بتوسعها رأسياً (بمعني إشتمالها علي الأحياء الطرفية للخرطوم، جغرافياً وليس فقط عضوياً)، وإحساس السواد الأعظم ممن يقطنون حزام الخرطوم من السودانيين بأن الأمر لم يعد مجرد تلاعب بأجندة سياسية، إنما تصميم وعزم من قبل النخب السودانية كافة علي تحقيق تسودية وطنية شاملة. وقد يتوجسون حينها فلا يبرزون قوتهم الحقيقية حتي تستبين ملامح الثورة (ثورة البنفسج نسبة لدور الجنس الناعم فيها وسلميتها المنشودة) في الفترة الإنتقالية القادمة.
لا يملك أحد أن يتفضل على الهامش بالقيادة في المرحلة القادمة، بل إن الهامش – بحكم ما قدم من تضحيات وبحكم ما يملك من أغلبية – سيتصدى للقيادة وسينالها بعز عزيز أو ذل ذليل. ولن ينفع النخب المركزية تهافتها، تسابقها لإحتلال المنصات وتلبسها بلبوس الفعة والوطنية. لا أعرف كيف “يجلد بعضهم وجهه” ويملك من الجرأة ما يقف بها أمام المرآة، دعك من ملاقاة الرجال والنساء والتبسم في وجوههم. أكيد أن هذه ملكة يحسد عليها كثير من ساسة اليوم الذين لا يتورعون عن عض أيادي تفضلت عليهم “بمكرمات” عديدة بالأمس القريب وليس قبل ألامس. بيد إننا يجب أن نعي أن الإلتقاء بين هذه النخب ليس مجرد إلتقاء مصلحي، بل هو أيضاً تحالف استراتيجي.
لقد سعي النظام لإستفزاز دارفور الإجتماعية وإستعدائها بشتي الطرق، لكنه لم ينجح، فإن الجماهير كانت فطنة هذه المرة، وهي إذ تتحاشي ألية النظام العسكرية، فإنها أيضاً تتحسب لمكر النخب المركزية التي قد تنسحب من المعترك، بل قد لا تتورع في الوقوع في أحضان النظام وقد بدأت محترسة وإنضمت متوجسة في الأصل من طبيعة الإنقلاب السياسي والإجتماعي الحادث والبائن لناظرهم ولم ترتضه بعد سرائرهم.
نشرت جريدة العربي الجديد مقالاً للدكتور طارق الشيخ ورد فيه الأتي: “ولما فاجأت الثورة الشعبية في مدن السودان الحكم في الخرطوم، لم يجد رئيس جهاز الأمن السوداني، صلاح قوش، سوى فتح الصفحة نفسها من قاموس الدكتاتورية، واتهام حركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد النور، وطلاب الجامعات من أبناء إقليم دارفور، بأنهم وراء أعمال التخريب في عطبرة والدامر وبربر. ثم زاد بتوضيحاتٍ أغرب، إن “مجموعة تابعة للحركة، وتتكون من مائتين وثمانين عنصرا يشرف عليها الموساد (المخابرات الإسرائيلية)، تحركت من إسرائيل إلي كينيا ثم دخلت السودان”. ثم تبع ذلك إعلان وزير الدولة في وزارة الإعلام والاتصالات، مأمون حسن إبراهيم، فى مؤتمر صحافي، عن “ضبط خلية مسلحة من عشرة أفراد بالدروشاب شمال الخرطوم تتبع المتمرد عبد الواحد محمد نور، تتمثل مهامها بإحداث اغتيالات وسط المحتجين، والقيام باعمال تخريبية”، ثم أورد أرقاما للسلاح تبعث على الضحك، أن عشرة طلاب قدموا من إسرائيل، لتنفيذ عمليات كبيرة ببنادق عتيقة وعدد محدود من الطلقات”(2 فبراير 2019).
كلما طال زمن الحراك كلما ساعد ذلك في تعديل قواعد اللعبة، وأجدى في إضعاف موارد المنظومة، حبذا وضعها علي حافة الإفلاس الأخلاقي والروحي. وها هم الناشطين والسياسين يعملون ليل نهار في مسعي منهم لبناء مشتركات تقوم علي الإتفاق علي الحد الأعلي من المبادئ، والحد الأدني من المشتركات. وهم إذ ينجحون في تطوير “البيان” إلي “ميثاق” فإنهم يخفقون، أو لا يكادون ينتبهون إلي المنطلقات المتعددة في تعريف “الخلاص” و “الحرية” و “المواطنة”: منهم من يسعي للتخلص من الرئيس، ومنهم من يسعي للتخلص من النظام، ومن من يسعي للتخلص من المنظومة؛ أما بخصوص الحرية، فإنهم يمارسون حُرية سلبية يختصر مفهومها علي مقاومة الطغيان، لكنها لا تمتد لتشمل الحرية الإيجابية القاضية بتثبيت دعائم البنيان وفق إتفاق مبدئي ورؤيوي، في هذه الحالة بين قوي التغيير والهامش. أما موضوع المواطنة هذا فهو الإشكال الأكبر لأن النظام السياسي قايم علي هرمية عرقية ودينية لا ينجح الدستور بمفرده في تقويمها، بل يلزم أن تكون هنالك تصاميم مُؤسسية تدعم الجانب التعليمي والتربوي ومسودات قانونية تؤسس لفدرالية النظام السياسي، ولا مركزيته.
إن الجبهة العريضة التي تسعي المقاومة لتكوينها تضم حتي الأن كلا من تجمع المهنيين، الإتحادي المعارض، قوى الإجماع الوطني، حزب ألامة وقوى نداء السودان، وقد ينضم أخرون عند كل يوم وعند كل ساعة. لكن من الواضح أنه سيصعب التنسيق، بل قد يستحيل، بين هذه القوي لأنها عبارة عن جبهة تضم فئات صاحبة رؤا متباينة فيما يخص الخلاص والحرية والمواطنة، مما يجعل الإتفاق بينهم تكتيكي وغير إستراتيجي البتة. جماعة السودان القديم ينتظرون ساعة النصر كي يركلون دعاة السودان الجديد ويرموهم من أعلي التل نحو الهاوية، والأحزاب التقليدية تتربص بدعاة التغيير في داخلها، والقوي الرجعية لاتري في العلمانية خلاصا إنما تري فيها إرتكاسة عن قيم الدين والمعتقد.
نحن لا نريد أن نعدد مظاهر إنما نود أن نستكشف ظواهر لن يجدي المذهب الكلاسيكي في بنيانها، لأن الحراك الثوري هذه المرة جاء مندفعاً من المدى الجغرافي تستدفعه حمولات التهميش التاريخي. إن وعي الهامش بحقوقه لا يقابله نضجاً لدي نخب المركز ولا إنفعالاً برسوخه، لكننا نري نخباً من قوي التغيير لديها نضج أخلاقي، ويمكن أن تساعد في خلق تحالف (قوي التغيير والهامش) يُجنب السودان مسألة الإستقطاب الجهوي والعرقي والمناطقي. خاصة أن من المتوقع أن يحدث إنقسام عميق داخل المنظومة مما قد يتسبب في شلل تام للأجهزة السياسية والإدارية فور إنهيار النظام. إن المدة بين إنهيار النظام وإنتفاء المنظومة لن تطول، لأن الشارع سرعان ما سيكتشف أن الوحدة الوجدانية الحالية لا يمكن تطوريها إلي وحدة سياسية وموضوعية الا إذا إتفق القادة علي أسس مبدئية يتم رعايتها من قبلهم بصدقية وتجرد، الأمر الذي يفتقد إليه الكثيرون من دهاقنة النادي القديم الذين لم ولن يبرحوا “محطة الفلهوة” حتي يروا مكانهم من الجحيم عند الفجة ( فجة الموت).
بما اننا نعيش في ظل نظام شمولي، فانه لا يسعنا إلا القبول بهذه النداءات الفوقية التي إستوجبت نوعاً من الوحدة الشعورية، آملين من ممثلي الشعب المضي قدماً آخذين في الإعتبار إنهم يمثلون شعباً غابت أغلبيته وحضرت إرادته. فعليهم أن يترجموا هذه الإرادة إلي وحدة عضوية تصطحب القضايا التي بسببها حدث الحريق، وأن لا ترخي السمع لجهات تعمل من بينهم وتريد دوماً أن تتجنب مطبات الطريق. (فالهزيمة البَيِّنَة أفضل من الإنتصار الناقص لان الأولى تحرض علي المقاومة والثانية تحفز علي الإستكانة.) هذه الجهات تريد حلاً يعفيها من تبعات الإنتفاضة العسكرية التي ربما شملت قوي الهامش، أو الثورة الشعبية العارمة التي لن تكتمل أركانها إلاَّ بدخول الأحياء الطرفية بثقلها الكامل بالرغم عن تواجدها الكثيف في هذا الحراك. كادوا يقولون “يا الإنجليز الفونا”، لكنهم إذ عجزوا فقد تنادوا لإستنقاذ الكرسي وليس لتحرير السودان. هاذان السيناريوهان يمثلان هاجساً حقيقياً، إذا لم نقل كابوساً، لدي النخب المركزية التي قد تكون علي النقيض الأيدولوجي من النظام الحاكم، لكنها لا ترتضي بتبدل قواعد اللعبة، بل تفضل أن تكون مهمشة ومضطهدة داخل منظومتها، علي أن تري تغيراً في بنية السلطة يجعلها تتحسب لوزنها الحقيقي، لا ذاك الذي كانت تدعيه عبر الإعلام أو أروقة الأحزاب المركزية تمسحاً بقياداتها، أو إستدراراً لعطف منسوبيها.
إن “الجنرال” يفعل خيراً بعدم تنازله، فإن تنازله من شأنه أن يفسح المجال للنخب المركزية لإستعادة أنفاسها، ومن ثم الإستمرار في غيها وضلالها. تعلم النخب علم اليقين أن الحراك الشعبي لا يُسقط الأنظمة الشمولية، لكنه يربك التوازنات، التي ربما حَفَّزت أحد اللاعبيين الأساسيين وحرضته للتحرك ضد الآخرين. والذي لم يتحرك أحدهم فإنها مضطرة لتقديم تنازلات تُرَغب الأحياء الطرفية بالتحرك الجماهيري، وليس فقط التمثيلي العضوي، لأنها تحتاج إلي نسبة تتراوح بين 3 إلي 5 في المائه من التعدد الكلي للمواطنين لا تتحقق إلاَّ بتدافع الحزام الأسود (كما أسماه أحد مفكريهم العنصريين).
أنا أرجح تحقق الخيار العسكري الذي إن تم هذه المرة فلن يتم بالطريقة إياها، والتي يتمنّاها نشطاء المركز والذين يتكلمون عن الصبغة التنظيمية والقومية للجيش السوداني، بنوع من المثالية تُحسد عليه الجُهال قبل الكبار. هذا السيناريو تكتنفه خطورة واحدة وهي تربص الجارة الشمالية التي لن تفرط في المنظومة، لأن أعضائها هم عملاء تاريخيين وتقليدين، إنضم لهم أخرون، تحت طائلة الإبتزاز، وبعد أن فقدوا نقاط الإرتكاز. فالهامش لم تعد تحركه “الإشارة” وما عاد يتلهي بحلو العبارة أو معسولها. لكنها إذ تفعل، أي الجارة المنهارة، فهي إنما تُفرط في مصلحتها الإقتصادية مُستدفعة بتحالفات سياسية بالية، وتحريشات أمنية خالية من أي مضمون فعلي وحيوي. ظلت الجارة الشمالية تبحث عن نخب موالية، لا تهمها مصلحة بلدها ولا تكترث لعقد تحالفات إقليمية ذات بعد إقتصادي وتنموي. آن للعلماء والخبراء في كلا البلدين أن يدعموا تكاملاً تسنده أسساً علمية وموضوعية، لا تتهادى أو تتأرجح به نوازع شخصية أو عاطفية.
ختاماً، إن مقدرتنا علي مقاومة الطاغوت والإطاحة بالجنرال، تعتمد علي عزيمتنا علي مقاومة اليأس القابع في نفوسنا وتدارك الخلل الشائب لأفكارنا. فالآفات التي إستغلها الجنرال لإستعبادنا فترة 3 عقود وتدمير هويتنا مازالت كامنه فينا، وستظل، مالم نعمد لتقويم ذواتنا، والنظر في أسس تربيتنا الروحية وتنشئتنا الفكرية. ذكرت ثلاث قضايا رئيسية في هذا المقال: أولاها، مسألة “الوعي الإنشطاري”، التي تقر بأن هناك وعي لكنه من طبيعة منشطرة، ثانيها، مسألة “التكلس الجغرافي” والتي تختلف عن التقوقع الوجداني، في أن الأول يشبه الإنكفاءة النوعية أو الإختيارية، أما الأخر فأقرب إلي العزلة الشعورية. ثالثهما، مسألة “الحرية النسبية” والتي ترتبط بحاجة الإنسان للإسهام في تقويم دعائم البنيان، لا الإكتفاء فقط بمقاومة الطغيان.