موريس متى
فع الحظر بشكل دائم يوجه رسالة سيئة في وقت حقق فيه السودان تقدما ضئيلا في مجال حقوق الانسان
بعد نحو 16 شهرا من الجهود الديبلوماسية المكثفة، رفعت الولايات المتحدة يوم الجمعة 6 تشرين الاول 2017 الحظر الاقتصادي الذي فرضته قبل عشرين عاما على السودان الذي كان رفعه جزئيا الرئيس السابق باراك اوباما قبل مغادرته البيت الابيض بعد ان أحرزت الخرطوم تقدما في محاربة الإرهاب وتخفيف المعاناة الإنسانية في الوقت الذي حصلت فيه واشنطن ايضا على تعهد من حكو
مة الرئيس عمر البشير بعدم السعي لإبرام صفقات أسلحة مع كوريا الشمالية.
تعود هذه التدابير الاقتصادية العقابية الى عامي 1997 و2006 وكانت مخصصة لمعاقبة الخرطوم على انتهاكات اتهمت قواتها بارتكابها في سلسلة من الصراعات الداخلية. وكانت فرضت واشنطن عقوباتها الاولى على الخرطوم في العام 1997 لاتهامها بدعم مجموعات إسلامية إرهابية، بما فيها تنظيم “القاعدة” وبعد ان أقام مؤسسها وزعيمها السابق أسامة بن لادن في السودان بين عامي 1992 و1996. كما فُرضت حزمة أخرى من العقوبات في عام 2006 ردا على العمليات العسكرية السودانية في منطقة دارفور. وبعد ان أعلن الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما في كانون الثاني 2017 رفع قسم من العقوبات الاميركية بحق السودان لفترة تجريبية من ستة اشهر، ها هي واشنطن تكمل هذه الاجراءات برفع جزء من العقوبات الاقتصادية والتجارية الاميركية القاسية المفروضة على حكومة السودان التي تعهدت تطبيق خارطة طريق من 5 نقاط بينها انهاء دعم مجموعات متمردة في جنوب السودان وانهاء المعارك في دارفور والنيل الابيض وجنوب كردوفان وتعاون مع المخابرات الاميركية في مكافحة الارهاب. واعتبرت وزارة الخارجية الاميركية ان السودان يستحق رفع جزء من العقوبات عنه نتيجة التصرفات الإيجابية المتواصلة التي قام بها، ومنها محافظة نظام الرئيس عمر البشير على وقف الأعمال العدائية في دارفور وشرق الخرطوم والنيل الأزرق، بالاضافة الى تسهيل وصول المساعدات الانسانية الى مناطق نزاعات سابقة، واوقف محاولات زعزعة الاستقرار في جنوب السودان الذي نال استقلاله في تموز 2011. كما شهد التعاون بين الولايات المتحدة والسودان في مجال مكافحة الارهاب قد أحرز تقدما، كما ان الخرطوم تساعد اليوم في معظم الجهود الاقليمية لملاحقة جوزف كوني قائد “جيش الرب المقاوم” المصنف على لائحة الارهاب الدولي. ومن هنا، يعتبر بعض المراقبين أن رفع الحظر المفروض على السودان يشكل وسيلة فعالة وقوية لكسب تعاون الخرطوم في العديد من المجالات التي لواشنطن مصلحة فيها، وبخاصة في ما يتعلق بمكافحة الارهاب، والحفاظ على الاستقرار في القارة الافريقية. ولكن، رغم هذه الاجراءات التاريخية، يبقى السودان على لائحة “الدول الراعية للارهاب” مع بقاء بعض العقوبات ضد الخرطوم خصوصا في مجال الاسلحة، في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن الى توفير تقدم أكبر في سلوك السودان قبل ان يكون هناك نقاش حول استعادة العلاقات الديبلوماسية كاملة معه، والتي يبدو ان عودتها لن تطول كثيرا، وبخاصة بعدما رفعت واشنطن الشهر الفائت قيودا كانت قد فرضتها في وقت سابق على سفر المواطنين السودانيين إلى أراضيها. هذا وتبقى لائحة العقوبات المفروضة من قبل مجلس الأمن الدولي والمتعلقة بالنزاع في دارفور نافذة، وهو الحظر الذي يمنع أساسا توريد الأسلحة والمواد ذات الصلة إلى الأطراف الضالعة في النزاع في دارفور.
خطوة غير مرحب بها!
الخطوة الاميركية التي يُتوقع ان تدخل حيّز التنفيذ يوم 12 تشرين الاول المقبل، لم ترق كثيرا لعدد من المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان ومن بينها منظمة هيومن رايتس ووتش التي اعتبرت ان رفع الحظر بشكل دائم يوجه رسالة سيئة في وقت حقق فيه السودان تقدما ضئيلا في مجال حقوق الانسان ومثل هذه الحكومة لا يجب ان تكافأ، وبخاصة أن الرئيس السوداني عمر البشير صدرت بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة جرائم حرب وابادة. هذا واعتبرت منظمة “ويغن بيس” لحقوق الإنسان ومقرها بريطانيا، ان الحكومة الأميركية “أخطأت” في التركيز على النشاطات العسكرية للسودان وليس على سلامة المدنيين في اتخاذ قرارها.
ماذا يعني رفع الحظر التجاري؟
خطوة الادارة الاميركية برفع الحظر التجاري الذي كان فروضا على السودان منذ سنوات تحمل العديد من الايجابيات الى الاقتصاد السوداني الذي أنهكته العقوبات منذ عام 1997، خاصة وأن هذا الاقتصاد يعاني من عوامل هيكلية ضعيفة إنعكست سلبا على ماليته وقطاعاته. واليوم، مع رفع الحظر التجاري الذي كان مفروضاً على الخرطوم، سيسمح لكل البنوك الدولية والعالمية بإجراء كل انواع التحويلات المالية مع المصارف السودانية ما سيسمح ايضا للسودانيين في الداخلي والشركات العاملة في السودان من إجراء تحويلات مالية مع نظرائهم في السودان وخارجه. كما يسمح رفع الحظر للمواطنين الاميركيين بالتصدير والاستيراد من والى السودان، الأمر الذي كان ممنوعا بموجب العقوبات الاميركية السابقة، على ان يتم ايضا رفع كل الحظر المفروض على الممتلكات والمصالح بموجب العقوبات والسماح لكل انواع المعاملات التجارية التي كانت ممنوعة مسبقا بين الولايات المتحدة والسودان. وبعد ان فقدت الخرطوم نحو 75% من مواردها النفطية لصالح الجنوب بعد الانفصال، مما فاقم وضع السودان الاقتصادي. ومع رفع العقوبات التجارية، سيسمح بإتمام كل التحويلات المالية المتعلقة بالصناعات النفطية أو البتروكيميائية في السودان والمحظورة مسبقا، بما فيها خدمات الحقول النفطية، وخطوط النفط والغاز، مما سيؤمن بعض الايرادات الاجنبية لخزينة الدولة.
الاقتصاد المنهك ينتظر الانقاذ
وكشف وزير المال والتخطيط الاقتصادي السوداني أن خسائر الخرطوم جراء العقوبات المفروطة عليها منذ سنوات قد بلغت 45 مليار دولار اي ما يقارب 4 مليارات سنويا. هذا ووصف تقرير لصندوق النقد الدولي السودان، بالبلد الهش المنخفض الدخل الذي يواجه قيودا محلية ودولية شديدة واختلالات اقتصادية كبيرة، فيما توقع ان يتراجع معدل النمو الاقتصادي في البلاد خلال 2017 إلى 3.2% من 3.5% في العام 2016 مع معدل تضخم يقارب 17.8%، فيما قارب الدين العام السوداني الـ 50 مليار دولار ما يمثل أكثر من 60% من الناتج المحلي للبلاد. ووفق تقارير الأمم المتحدة، فإن 50% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر، بينما يبلغ معدل البطالة في البلاد 20.6%، في حين يجد 70% من السودانيين صعوبة في الحصول على الماء والغذاء والتعليم والخدمات الصحية. كما تشير التقارير الى ان الاقتصاد السوداني فقد سنوياً ما يقارب 18 مليار دولار تقريبا من الصناديق والجهات المانحة، والتي يبلغ عددها 16 صندوقا ومنظمة، كما فاقمت أزمة انفصال الجنوب في العام 2011 من هذا الوضع الكارثي، بعد ان تحولت الخرطوم الى مستورد للمشتقات النفطية نتيجة سيطرة الجنوب على نحو 75% من حقول النفط، والتي تُمثل ما يقارب 50% من الإيرادات العامة للبلاد.
الاصلاحات ضرورية للإنطلاق من جديد
بعد الخطة التاريخية التي قامت بها واشنطن يوم الجمعة الفائت المتمثلة برفع جزء من العقوبات عن الخرطوم، توقع وزير المال السوداني محمد عثمان الركابي ان يتجه اقتصاد البلاد صوب الانتعاش التدريجي مما يفتح الطريق أمام إصلاحات اقتصادية حاسمة. كما توقع الركابي أن يكون لرفع العقوبات آثار إيجابية على الاقتصاد السوداني ولكن بصورة متدرجة بعد ان تقوم البلاد بالعمل على خفض التضخم والإنفاق الحكومي ورفع الدعم على السلع الرئيسية وجذب الاستثمار الأجنبي. فإنهاء العقوبات الأميركية سيؤدي إلى تعاف تدريجي للوضع المالي والاقتصادي للبلاد خاصة في مجال الاستفادة من القروض ومبادرات الديون الأميركية وإسترداد الأصول المالية المجمدة في الولايات المتحدة. ولكن، الانتعاش المنتظر يجب ان يتواكب ايضا مع إصلاحات هيكلية في الاقتصاد السوداني وخاصة فيما يتعلق بالسياسات الحكومية المتبعة. فالحكومات السابقة ركزت كل إهتماماتها فقط على قطاع النفط وأهملت قطاعات أساسية مثل الزراعة والتجارة والصناعة والتعدين وقطاعات إنتاجية مهمة، وبالتالي فإن رفع العقوبات لن يمثل الحل السحري بل الحل الجزئي للإقتصاد والذي يكتمل مع خطة إقتصادية – مالية إصلاحية، خاصة وأن البلاد لديها إمكانات اقتصادية واعدة وعوامل جذب كثيرة.