يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى :
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئم
* تُعرّف الحرب لغة كما ورد في معجم المعاني الجامع أنّها قتال بين فئتين .
وفي القانون الدولي العام فإن التعريف التقليدي للحرب هو أنّها عبارة عن نزاع مسلّح بين فريقين من دولتين مختلفتين؛ إذ تُدافع فيها الدول المتحاربة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها ، ولا تكون الحرب إلّا بين الدول .
أما التعريف الحديث للحرب فقد تم توسيعه ليشتمل على أي نزاع مسلح ولو لم تتوافر فيه عناصر التعريف التقليدي من امتلاك الجماعة المسلحة لصفة الدولة ، كما أصبحت النزاعات الأهلية التي تحدث في نفس الدولة تندرج تحت مسمى الحرب.
إذن فإنّ كلمة حرب تشير بمعناها اللغوي إلى القتال، وليس شرطاً أن تكون عادلة وإنما قد تكون لوقوع العدوان من طرف على طرف آخر ، وهي عبارة عن صراع بين طرفين يسعى كلٌّ منهما للتغلب على الطرف الآخر وتدمير قوته وكيانه .
* تملكني الدهشة وأنا أطالع ما أوردته صحيفة “سودان تربيون” من تصريحات لعضو المجلس العسكري الفريق طيار صلاح عبد الخالق أمام حشد من الإدارات الأهليه أمس الأول ، والذي ألمح خلالها وبصورة أقرب إلي التحدي اللا مدروس الذي اعتاد الرئيس المخلوع عمر البشير إطلاقه بين كل حين وآخر ، بأن السلطة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الحرب و(البونية) فقط لا غير.. ( إن السلطة يمكن تسليمها فقط إذا انتصرت قوى الحرية والتغيير في الحرب على المجلس العسكري ) .
وفي أول لقاء مباشر بين المجلس العسكري ووفد قوي الحرية والتغيير فضحه المايكروفون عندما همس لأحد زملائه بالقول ( أنا أكعب من حميدتي .. لكن هم ما عارفني ساي ) ، ليؤكد لمستمعيه أنه ما طفق يتدثر بتلك العقلية التي أوصلت السودان الي ما هو عليه !
* إن مثل هذه التصريحات الخطيرة هي نفسها التي أشعلت النيران في أرجاء السودان المختلفة والتي تزال مستعرة تطحن بنات وأبناء هذا الوطن بلا رحمة .
ولعل من نافلة القول التذكير هنا بأن أهم عوامل إذكاء نار الحرب في دارفور هي لغة الرئيس المخلوع عمر البشير العنجهية عندما ظهرت بوادر الثورة المطلبية في دارفور فقد قال فيما قال : ( نحنا السلطة دي جيبناها بالبندقية .. والدايرها اليشيل سلاحو ويجي ) ، فكان له ما أراد وما لم يرد .
قبل أبناء دارفور التحدي و حملوا السلاح في مطلع العام 2001 ، و عندما تدخل بعض الحكماء كالفريق ابراهيم سليمان والي شمال دارفور الأسبق لحث البشير علي التفاوض مع الثوار والاستماع إلي مطالبهم قبل استفحال المسألة ، صب البشير الزيت علي النار بتصريح أكثر سماجة ، قائلا بعد فاصل كارب من الرقص أمام الجمهور : نحن لن نجلس مع قطاع الطرق ورعاة خارجين عن القانون..
* لم ينتبه النظام إلي نتيجة تهوراته اللفظية إلا عندما فوجئ بدوي المدافع تهز أركان إحدى أكبر قواعدها الاستراتيجية بشمال دارفور في الساعة 5:30 من صبيحة يوم الجمعة الموافق 25 أبريل 2003 عندما دخلت قوة مشتركة من جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة تستقل 33 سيارة لاندكروزر الفاشر وهاجمت موقعا عسكريا ، فدمرت أربع طائرات الأنتونوف وثلاث مروحيات هيلكوبتر على الأرض، وقتلت 75 جنديا طيارا وتقنيا وأسرت 32 ، بما في ذلك قائد القاعدة الجوية اللواء طيار إبراهيم البشرى ، واقتادتهم إلى (المناطق المحررة) .. في غارة لم يسبق لنجاحها مثيل في السودان .
أذلت تلك الغارة القوات المسلحة ، وأصبحت الحكومة في وضعية إستراتيجية صعبة ، تلتها انتصارات ساحقة للثوار ضد الحكومة ، ففي الأشهر الوسطى من 2003 انتصرت ثورة دارفور المتمثلة في حركتي العدل والمساواة وجيش تحرير السودان في 34 من أصل 38 اشتباك.
في مايو دمر جيش تحرير السودان كتيبة في كتم، فقتل 500 وحرر 300 سجين ، وفي منتصف يوليو قتل 250 في هجوم ثان على تين. ثم بدأ جيش تحرير السودان في التوسع شرقا ، مهددا بنشر الحرب في كردفان.
هذه الهجمات التي كانت تحولاً لافتاً في نشاط الثورة في دارفور لم تأت إلا نتيجة حتمية للغة الغطرسة التي انطلقت كالصاعقة من أفواه قادة حكومة الإنقاذ !
فلم تجد الحكومة بدا من تفعيل دور مليشيات الجنجويد التي استخدمتها سابقا لقمع انتفاضة المساليت من 1986 إلى 1999. فأصبح الجنجويد محور إستراتيجية مكافحة التمرد الجديدة بعد أن تحطمت مراكب الجيش في صخرة إرادة شعب دارفور الثائر ، فقامت مليشيات الجنجويد الدارفورية _بعد تسليحها اللا محدود _ بتغيير مسار الحرب لصالح الحكومة .
* فإذا كنت _ يا سعادة الفريق صلاح عبد الخالق _ تعني بالحرب حسب التعريف السالف الذكر القتال و (الدواس) ، فلا اعتقد أنك ولا مجلسك الكيزاني أهل لها .. لأنكم ولفرط خوفكم لا تزالون مصرين علي التشبث و الاحتفاظ بميليشيات الجنجويد لحمايتكم من المدنيين !
ثم ألم يكن هؤلاء المدنيين الذين تستخسر فيهم السلطة ، أحري بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ، وتحت حماية قواتهم المسلحة ، بدلا من أن يسلم أمرهم لمليشيات جل أفرادها مستجلبين من خارج السودان للارتزاق !؟
أم أن ما بأيدي تلك المليشيات من المدافع والقدرات القتالية والأموال المنهوبة جعلتك تغض الطرف عنها تجابنا ، لتجد متنفسك في المواطن الأعزل ( الحيطة القصيرة) وتدعوه للنزال في الوقت الذي ما برح سلاح مليشيات الجنجويد مشهرا علي وجه ذات المواطن وصدره !؟
* ختاما : في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ السودان يجب ضبط الألفاظ أو إلتزام الصمت نهائيا.. سيما عندما يتعلق الأمر بالحرب ، لأن مثل هذه الإستفزازات من شأنها أن تدفع المعتصمين بالقيادة العامة علي اعتلاء ال(فري فري) وحمل السلاح بدل ( الصب) وإعتلاء كبري النفق والمتاريس.. خصوصا وأن قوي الحرية والتغيير تضم في مكوناتها ذات الحركات المسلحة التي استطاعت في يوم ما أن تدك حصنكم داخل امدرمان وقبلها الفاشر كما أسلفت .
وحينها ستكون أنت أول المحترقين بلهيبها ..لأن الحرب ليست نزهة ، إنها رحي طاحنة تطحن كل شيء ، ولا يتمناها عاقل البتة !
وهوووي ترا .. الشعب ده أكعب من حميدتي ..لكن انت ماك عارفو ساي .
أحمد محمود كانم
المملكة المتحدة
1يونيو 2019