نيرتتي ملحمة الصمود … ونساؤها في منصة الكفاح والاستشهاد منذ عقود

بقلم الدكتورة سعاد مصطفي الحاج موسي

7 يوليو 2020

لا تزال نيرتتي المدينة العملاقة بوسط دارفور تقف نخلة ثورية باسقة في صمودها وصبرها منذ عقود في وجه الظلم والاغتراب الوطني. استمرار مواطنيها وتمسكهم بسلمية الثورة واصرارهم على نقل ساحة النضال السوداني الي عقر دارهم يصوغ لنا مثالاً ثوريّا لا يُباري ورسالة بعثٍ لنضالات دارفور التاريخية وبطولات مجتمعه وصبرهم الصلد. فاعتصام نيرتتي تعد نقلة نوعية في ثورة الهامش نحو التغيير الشامل، فها هي الوفود تتسارع للانضمام الي ساحة الاعتصام بنيرتتي في ملحمة دارفورية مذهلة لتضيف لمنارة الصمود وفوانيسها قوةً ووهجاً وضياء.  ولن نبهت وما كنا يوماً بكافرين لرؤية نساء جبل مرّة ملتحمات راعيات لجموع ثوار المنطقة فعهدنا بهن كعهدنا بنساء دارفور لم يستسلمن ولم ينكصن لما أصابهن من جحافل البؤس منذ نشوب الحرب في دارفور وقبلها، بل مضين بإرادة قوية في كسر سلاسل المآسي وانتهاكات حقوقهن، ووقفن ولا زلن، سداً منيعاً لدعم ومساندة الأهل والعشيرة بالطعام والشراب ومعنوياً، فرسمن لوحة تنزف اخضراراً وتفيض شلالاً تعكس ملامح مجتمع الجبل النابض بالوفاء في ماضيه الأخضر وحاضره الأغبش.

 

وقفة نساء جبل مرّة تشكِّل أُنشودة صمود تعزفها قلوب أمهات وفتيات ترزح صدورهن تحت ثقل المرارات وتئن قلوبهن من ذبح أجسادهن وهتك كرامتهن لما يقارب الثلاثين عاماً، ولكن تدفعهن قيم ثورة ديسمبر المجيدة الي التمسك براية الأمل في المستقبل لأبنائهن وهن علي استعداد لدفع المزيد لضمان ذلك المستقبل الواعد البعيد. هذا الدور الرائع للمرأة يشكِّل محوراً أساسياً وفاعلاً من محاور التعمير والسلام، وعلى القوي الوطنية احترامه واحتضانه وتقويته وأن تؤسس عليه وله لتكون مستحقات المرأة في دارفور بقدر ما أعطت وما عانت ولا تزال. ونساء نيرتتي مثلما نساء دارفور الاُخريات لهن عهد مع المآسي سلف ومستمر حان وقت حسمه.

وقتها كانت كبكابية، امتداد لسلسلة جبال جبل مرّة، تسبح في وداعة ربيعية وسكينة، كعادتها وهي تشيِّع الشتاء القارس وتخطو بتمهل نحو الصيف وعلي أطرافها يستلقي وادي باري كالمارد العتيد في اغفاءة صيفية منتظراً إبَان ثورته الخريفية الهائجة، وتلمع رماله مثل اللآلئ تحت ضوء قمر تلك الليلة الحالمة التي جمعتنا في الفة اسرية للعاملين بمنظمة اوكسفام وأصدقاء من القري المجاورة. جلسنا وسط الوادي نحتسي فناجين القهوة فغداً ستغادرنا عُبادة عبد الجبار الي نيرتتي مسقط رأسها.

 

في تلك الجلسة استعرضنا طائفةً مما خضنا من المخاطر داخل جبال وعرة وغابات وأدغال كثيفة وأودية هادرة الموج، وما وصلناها مشياً في عمق الجبال من أماكن لم تشهد يوما دخول عربة ليس لغرض تطعيم الأطفال أو حتى للانتخابات التي كانت الطائفية تستغل فيها أهل القري وتشتري أصواتهم بنصف رطل من السكر ووقية شاي. قبُعت تلك القري لعشرات السنين بعد الاستقلال في عزلة اجتماعية واقتصادية وسياسية لا يهتم لأمرها حاكم عسكري، ولا مدني ممن ترأسوا ما اختبرناه من عهود الديمقراطية الملوثة بالأهواء الشخصية. شابت أحاديثنا إحساس الغبن والحسرة على واقعنا السياسي نُظُماً وقادة، وعلى قلة حيلتنا لتحويل جمال تلك الطبيعة الخلابة برياضها ومروجها الخضراء الباهية الي مواقع سياحية يعود بوافر الخير لأهلها الطيبين ولدارفور ويعزز اقتصاد السودان.

 

 أحب الجميع عبادة – كانت شابة أنيقة الحركة فاخرة النشاط جاءت من غرب جبل مرّة، من نيرتتي، الي مدينة كبكابية والتحقت بمنظمة اوكسفام واندمجت في برامجها التنموية وأضفت عليها المزيد من الحياة وكأنها نبتة من مجد الصباح المزهرة، ينطلق من حولها زخم من الفرح والأريحية وتظن كأنما دعاش المواسم الآتية من قلب الجبال تستمد عطرها من حضور ابنة جبل مرّة بازخة الروح والالفة والتفاؤل. أشاعت عبادة جواً من المودة الدافئة وأذكت مجتمعات القري برونق بهيج من اللطف والاُنس – صارت القري ومرتفعات جبل سي كمن تردد صدي صوتها القوي المفعم بالحياة وتعلو الوجوه ابتسامة جزلة لدي رؤيتها فالكل يهتف باسمها، تعلق بها الأطفال، والكبار رجالاً ونساء يترقبون قدومها بفرح.

 

كان لعبادة حضور ألق – فهي تملأ أجواء القري بمزيج وارف من الود والناس في حضورها كأنهم في حضرة ملاك الرحمة تزيل عنهم الكثير من شعور الإحباط وبؤس الحياة وتغرس فيهم الأمل، كانت لهم كلوحة للبشارة وكل بنت ولدت في تلك الفترة سُميت عبادة. كانت لكنتها الجبلية محببة لديهم ويقولون انها تعكس وتحكي عن مجتمع الجبل وقوة ثقافته.  كنا زملائها نأنس بحضورها الحي ورواياتها وسردية آمالها وأحلامها – أحلام شابة تخطو نحو الحياة بقوة وثقة وابتسامة مشرقة. ولكن ظل طيفٌ خاطف من حزنٍ حائر وعميق يغشي محياها بين الفينة والأخرى!

 

وفي الساعة السادسة صباحاً من ذلك اليوم المشؤوم توجهت عبادة بمعية مجموعة عسكرية الي نيرتتي عبر سرف عمرة في وقت كانت الطرق في دارفور الكبرى تنتحب من غياب الأمن بسبب اشاعة النهب المسلح وظهور مليشيات منظمة صارت تهاجم المسافرين بالنهب والقتل وعاثت خراباً اقتصاديا واجتماعياً في دارفور. بعد نحو الأربعة ساعات من خروج المركبة العسكرية تلقينا النبأ الصاعقة – استشهدت عبادة برصاص قوة مهاجمة رغم حرص العسكريين على إجلاسها وسطهم حماية لها ولكن القدر لا يحول عنه حائل فكانت الوحيدة التي أصيبت في مقتل.

 

عندما ذهبنا للعزاء في منزل الاسرة بنيرتتي استدركتُ تماماً لماذا كانت عبادة بذلك التميز الفائر، فما كانت الاّ رمزاً لجبل مرّة أرضاً وسماء، وطبيعة ومجتمع. كانت كالكلمة التاريخية في قلب حروف كتاب دارفور بربوعه البستانية وفيافيه القاحلة وبأصالة نسائه وإرادتهن الحديدية. كانت روح عبادة كشريان الماء الدائم الجريان في فضاء منزلهم بنيرتتي يسقي العطشى ويرطب المكان بدفق فيّاض.

 

فعبد الواحد ورفاقه خرجوا من ولاية وسط دارفور حيث تقع جبل مرّة، من وسط ركام التظلمات وتجاهل الأنظمة السياسية للدولة السودانية منذ الاستقلال، خرجوا رافعين أصواتهم مطالبين بالحرية والسلام والعدالة – حقوقا دستورية واجبة علي الدولة وحق للمواطن أصيل. ولكن عنصرية الإنقاذ وعنجهية نخبته دفعتهم ليطغوا ويتجبروا فحاولوا قمع أصوات الثوريين واخراس ألسنتهم بالوعيد والتهديد. وحين استكمل الثوريون حلقات السلم ولم تُفرج، امتطوا راحلة المقاومة وتقلدوا سيوف أجدادهم الذين قتلهم المستعمر ومن تواطأ معهم من أبناء الوطن – نعم قتلوهم ولكن لم يستطيعوا حرق راية نضالاتهم من أجل الأرض والكرامة فسيوف اولئك الأبطال ظلت تلمع في أغمادها رافضة للركوع والخضوع في وجه الظالم، وأوفي الأحفاد أمانة الحفاظ علي ميراث الأجداد ولم يسلموها للمستعمر الغاصب مثلما فعل من سلّم سيف المهدي.

 

استشهاد عبادة عام 1993 كان بدايةً لعهدٍ شنّت فيه الإنقاذ حرباً ضروس واستباحت فيه منطقة جبل مرّة وأباحته للقادمين من دول الجوار، فحُرِقت المزارع والمراعي وأُتلفت أشجار الفاكهة ودُمرت شلالات مياهها العذبة الجارية. وحين هب عبد الواحد ورفاقه ثائرين أطل تنين الكراهية والعنصرية برؤوسه المتعددة وصار يحصد أرواح الناس وينقع كرامتهم في مستنقع الذل ويدمر بيئتهم.

 

ذلك هو الإرث البغيض والوبال الذي ورثته حكومة الثورة، ولكن انتقال ساحة الثورة الي عمق جبل مّرة في ذلك المشهد الوطني المهيب القاهر للحرب وصناعها، والرافض للانتهاكات الإنسانية وللعنصرية والظلم ومناصريها، يجبر حكومة الثورة والثوّار والشعب السوداني بأكمله للانحناءة لشعب تلك الرقعة الميمونة التي تزخر بالكثير من الموارد ويُرجي منها الاسهام الوفير في اقتصاد السودان واثراء ثقافته وفنه وتراثه وعلمه وغذائه. فالحكومة دشّنت علاقتها بجبل مرة بتلك الزيارة التاريخية استحقاقاً لقيم الحرية والسلام والعدالة، واتخذت خطوات إيجابية باتجاه مخاطبة المشكلات وتحقيق السلام. ولكن مجتمع الجبل ومن يقف معهم يريدون التأكد والاطمئنان على أن ما تم الالتزام به سيجد طريقه للتنفيذ بينما في مناطق اخري من دارفور نبتت ثقافة الاعتصام للفت أنظار الحكومة لمعاناتها ولتثبيت سلمية الثورة.

 

فحكومة الثورة ترفع راية السلام بإصرار، واجتهاداتها تدعوا أبناء دارفور وتستوجب عليهم الانتظام في قافلة السلام. ومن هنا نكرر الدعوة والمناداة للأخ عبد الواحد محمد نور ورفاقه الي الالتحاق بركب السلام في هذا المنعرج الهام من تاريخ سلام السودان، ونحثهم على الحضور والجلوس مع حكومة الثورة لدعم وتقوية مساعي السلام المستدام.

 

والثورة لابد تنتصر، ولابد للحرية والسلام والعدالة أن تسود.

الرحمة والمجد والخلود لشهداء جبل مّرة ولعبادة والشفاء العاجل للجرحى والمصابين

والتحية للثوّار والثائرات في نيرتتي وعموم جبل مّرة.

 

د. سعاد مصطفي الحاج موسي

[email protected]

       

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *