نقلا عن جريدة ” أجراس الحرية ” اليومية بتاريخ السبت 2 يونيو 2009 م
عندما بكيت (هريا ) كما لم ابك إنسان من قبل
قصة حقيقية
محمد بشير عبدا لله مناوى
كنت من اشد المعجبين بعمى إبراهيم عبدا لله(كندى) والملقب ب (كندى التعريج) وهذا اللقب مسموح به فقط لأصحابه وأنداده الأقربين ، أما نحن الأطفال فلا نجرؤ على النطق بكلمة “العريج” أمامه لأنه سيوسعنا الضرب المبرح والسبب لأنه أعرج بالفعل نتيجة لإصابته ومنذ الطفولة بشلل الأطفال ومع ذلك فهو يعتبر محظوظافي عهده لان الشلل قد أصابه فقط جزئيا في أحدى ساقيه وصار ساقه الأيسر رفيعة ومعوجة حتى نهاية القدم ، ولكن مع ذلك كان عمى هذا رجلا وسيما مهندما و شهما تفضله الفتيات في الألعاب الشعبية لللعب معه عكس الكثيرين من مكتملي البنية الجسمانية والذين كانوا يغيرون منه في مثل هذه المواقف ويتلفظون بكلمة “العريج ” غيرة منه وتقليلا من شانه أمام الفتيات ولكنه في الغالب لا يعيرهم اهتماما ويستمر في اللعب ، وكأنه يرد عليهم بالعبارة التقليدية المعروفة (البيان بالعمل ) !
ربما كان حبى و اعجابى الشديدين لعمى لهذه الصفات علاوة على انه هو الأخر يبادلني المحبة والإعجاب أكثر من اى فرد من أطفال الأسرة ويبرر ذلك دائما باني طفل نجيب أكثر من بقيه الأطفال وكان دائما يحكى بزهو أمام الآخرين والى وقت قريب قبل وفاته – رحمة الله عليه – بأنه شاهد بأم عينيه ابن أخيه مرة- والمقصود هو شخصي – وقد طار في السماء والتقط عصفورة عندما أفلتت من شرك نصبه لها وحاولت الطيران ولكنه كان الأسبق في الطيران وقبضها في الجو !! ، هذا على ذمة رواية عمى إبراهيم رغم أنى لا أتذكر هذه الحادثة
اذكر لعمى إبراهيم هذا في بداية الستينات بشمال دار فور وأنا طفل ، حدثين متناقضين احدهما فرائحى والآخر مأساوي ، اما المأساوي فانه وفى إحدى مناسبات القرية الفرحة ، ظهر العم إبراهيم فجأة في ( المدى) – اى اللعب – وقد عمل السكر براسه بعض الشئ من فرط شرب (المريسة ) و لعب أربعة أشواط متتابعة مع أربعة فتيات مختلفات في شوط واحد وعندما انتهى من الشوط الأخير تعالت أصوات الشباب احتجاجا واستنكارا بال (العريج ..العريج … العريج ) ، فما كان منه ان اغتاظ غضبا هذه المرة ولعن الظروف التي جعلته أعرجا من دون خلق الله الآخرين من حوله وقال انه سيتخلص من هذا “الشين” إشارة الى رجله العليلة ، وتحداهم أن يحذوا حذوه بسيقانهم واتجه مباشرة الى الشجرة الكبيرة بجوار الحفل وادخل ساقه المصابة بين فرعى الشجرة محاولا كسرها مما جعل الجمع يندفع نحو الشجرة لمنعه من ذلك لأنهم يعلمون انه دائما ينفذ ما يقبل على فعله ، وقد هالني جدا هذا المنظر كطفل وحمدت الله ان الجمع قد أسرع إليه لأنه كان سيكسر ساقه العليلة لا محالة ، هذه كانت حماقة فائقة دون سبب وجيه من العم إبراهيم ولكنها تمت تداركها في الوقت المناسب
أما الحدث الثاني والذي كنت أيضا شاهدا له هو مناسبة ميلاد ابنته “هريا ” بفتح الهاء وكسر الراء وتشديد الياء وهو اسم شائع في مجتمعات قبائل الزغاوة . حينها لم أر مبررا للفرحة الزائدة التي ألمت بعمى إبراهيم لقدوم بنت لأسرته وقد سبقها ولد بكر من قبل ولم الحظ مثل هذا الفرح ، ولكن بالطبع للناس أسبابها الذاتية في الكره والفرح ، إلا انه و بعد أكثر من 40 عاما على هذا الحدث ثبت بما لا يدع مجال للشك ان عمى كان محقا في فرحه بقدوم (هريا ) وكأن القدر قد اخبره مبكرا أنها سوف تصبح امرأة استثنائية بكل المقاييس وسوف تتناقل إخبارها القبائل في البداوة والحضر لشجاعتها وتفانيها في حماية أهلها وعرضها وعشيرتها . رحل أهل ” هريا ” من شمال دار فور بفعل الجفاف في بداية السبعينات الى جنوب دار فور واستقرت الأسرة في منطقة “لبدو” بشرقي نيالا ، وترعرعت “هريا ” وكبرت وأصبحت فتاة جميلة ذائعة الصيت بجمالها وتنافس عليها شباب القبيلة وكانت من نصيب ابن عمتها . أنجبت “هريا ” 6 من البنين والبنات وكانت تعيش في سعادة بالغة مع زوج يقدرها ويوفر لها كل طلباتها المتواضعة الى أن جاءت كارثة دار فور الحالية وأصبحت منطقة ” لبدو” هدفا ثابتا لغارات “الجنجويد” وخاصة قرى قبائل الزغاوة وأصبح الناس هناك اما حراسا دائمين للقرى أو حراسا متأهبين لمطاردة “الجنجويد ” الذين ينهبون مواشي الاهالى ويهربون بها كنوع من الحرب الاقتصادية لتهجير الناس قسرا الى معسكرات النازحين حول المدن الكبيرة مثل نيالا وشعيرية ، …الخ . في ظل هذا الجو المضطرب أبت “هريا ” الأم أن تكتفي بالدور التقليدي للمرأة في مثل هذه الحالات ، وهو البقاء مع أبنائها في القرية بحماية الرجال ورسمت لنفسها دورا اكبر لا يقل عن دور الرجل في حماية العشيرة والقبيلة كما سنرى لاحقا .
في ذات صباح ، جاءت (هريا ) باكرا الى منزل شيخ القرية بعد صلاة الصبح مستأذنة زوجته لمقابلته في أمر هام وكان لها ما أرادت ولكن بعد جلسة قصيرة مع الشيخ خرجت بوعد منه على ان تأتى الى المسيد (المسجد) بعد الإفطار مباشرة قبل انفضاض جمع رجال القرية مع بداية اليوم الجديد ، كل الى مشاغله وذلك لمناقشة موضوعها الهام . بعد رجوعها الى المنزل أخطرت زوجها بأنه مطلوب منه الحضور الى المسيد بعد الفطور لأنها طلبته عند شيخ القرية لمعالجة خلاف بينهما بوجود رجال القرية ، وعبثا حاول الزوج معرفة الخلاف الذي تضطرها بالشكوة إلى شيخ القرية دون مناقشة مسبقة بينهما ، ربما يصلون الى حل يوفر لهما التخاصم أمام رجال القرية وهو الزوج الذي يكن لها كل التقدير ولكنها رفضت البوح بأمر الشكاية الا بوجود الشيخ ورجال القرية ، وأخيرا استسلم الزوج تحت عناد زوجته ووعد بالحضور في الزمان والمكان المحددين .
جاءت “هريا ” وأخذت مكانها في المسيد ، متطرفة من جمع الرجال كما العادة عندما تضطر امرأة في هذا المجتمع للجلوس أمام الرجال (في مجلس الجودية ) لحل أمر مستعصي يخصها ، وطلب منها شيخ القرية شرح شكايتها أمام الرجال . استعدلت “هريا ” في جلستها وأحكمت غطاء رأسها للمزيد من إبداء الاحترام للرجال ولكنها رفعت رأسها في شموخ وإباء وواجهت الرجال في تحدى وقالت كلمتها الصاعقة وهى أنها تطلب الطلاق من زوجها وابن عمتها !
عند سماع هذه الكلمة ارتفعت حواجب الرجال بالدهشة – وأولهم بالطبع زوجها المصدوم – وقالوا لها لماذا تطلبين الطلاق من زوجك ونحن لم نلحظ يوما انه على خلاف معك وانه رجل محترم ؟ قالت وبعد أن تنفست الصعداء :
نعم انه رجل محترم بلا شك وافتخر جدا أن أكون زوجة لرجل مثله ولكنى اضطررت إلى طلب الطلاق حتى لا اعصيه وأنا على ذمته لانى بصدد أمر جلل لا استطيع الإذعان لأوامر الزوج !
قالوا لها : ما هو هذا الأمر الذي تضطرين إلى مفارقة زوجك وأطفالك؟ قالت : أن زوجي العزيز يمنعني من مرافقة الرجال في المعارك ضد هجمات الجنجويد التي تغير على قرانا وتسلب مواشينا لانى كما تعلمون دائما أسير خلف “الفزع” حاملا الماء في “القربة ” – بكسر القاف- لسقى الجرحى وتطييب الجراح وتشجيع الرجال على قتال الجنجويد وقد عزمت ألا أغيب من اى معركة في سبيل قتال هذه الفئة الضالة .
لعلم القارئ أن هذه السيدة معروفة على مستوى منطقة “لبدو” والقرى المجاورة بأنها ترافق الرجال في كل معارك الاهالى مع عصابات الجنجويد ووصلت أخبارها حتى مدينة نيالا والفاشر وصارت تعرف بالمنطقة ب (هريا ست القربة والشرائط البيضاء ) وذلك لأنها تحمل قربة مملوءة نصفها بالماء وتربط في وسطها شرائط من قماش الدمورية الجديدة وتسير وراء الفزع لتسقى الجرحى الماء وتضمد الجراح وذلك بربط الجروح بشرائط القماش لوقف النزيف للذين يسقطون في المعارك .
بعد سماع الرجال لحديثها اطرقوا جميعا لفترة وكأن على رؤوسهم الطير وأولهم بالطبع الزوج المصدوم . بعد فترة سكوت ووجوم رفع شيخ القرية رأسه وطلب من زوج ” هريا ” الرد على ما تقوله. اطرق الزوج مرة أخرى لفترة ورفع رأسه للحضور والدموع تغطى وجه وقال بعد أن جفف دموعه ، نعم يا الشيخ فقد دار حديث ونقاش هادئ مع زوجتي قبل ليلتين فيما يخص مشاركاتها في معارك الجنجويد وعندما أصرت على المشاركة في المعارك امرتها بالطاعة لانى زوجها ولكنى ما كنت اعلم أنها بالإصرار الذي تشكيني وتطلب منى الطلاق ولكن لعلم الجميع أن سبب رفضي لمشاركة زوجتي في المعارك هو ليس تقليلا مما تقوم به والتي تعجز النساء عن فعله وهو أمر مشرف لي ولكن السبب أيها الرجال اطفالى ، اطفالى ! . المرء منا يخرج في كل معركة وفى مخيلته انه سوف لن يرجع الى أهله و أطفاله ويمكنكم جميعا تصور أطفالا يتامى الأب فما بالكم أننا نخرج للقتال سويا أنا وزوجتي في كل المعارك وفى مخيلتي أننا الاثنان سوف لن نرجع ، الى من اترك اطفالى أيها الرجال ؟ وأجهش الرجل بالبكاء أمام زوجته وهو أمر نادر في مجتمع قبيلة الزغاوة المعروفة بالقسوة وسطوة الرجال !
خاطب شيخ القرية “هريا ” طالبا منها الإذعان لرغبة زوجها لأن مصلحة أطفالهما تكمن في هذا الإذعان ولكنها رفضت، مشترطة أما الطلاق أو السماح لها بالمشاركة في القتال، وان الأعمار في النهاية بيد الله حسب قولها. أمام إصرار الزوجة خاطب الزوج الجلسة قائلا ونزولا لرغبتها انه تراجع عن إصراره على اعتكافها البيت ومنعها من المشاركة في القتال وانفض الجمع واصطحب الرجل زوجته هريا الى البيت ودارت الأيام وانتشرت أخبار “هريا ” في معظم ربوع المنطقة واضطر زوجها الى تمليكها السلاح الناري وتدريبها عليه وأصبحت تحمل بالإضافة الى “القربة” ومعدات الضماد السلاح الناري في معاركها ضد الجنجويد ، ووصلت أخبار “هريا ” حتى الى السعودية حيث أقيم أنا منذ فترة طويلة وشعرت حينها بالفخر والشفقة في آن واحد ، الفخر من هذه الشجاعة النادرة لامرأة تزاحم الرجال في قتال عدو لا يميز بين الأطفال والنساء والشيوخ في بطشه والشفقة مما وصات إليه الأحوال في دار فور من سوء ، الأمر الذي تضطر معه امرأة وأم لنصف دسته من الأطفال الى مشاركة الرجال في القتال ولا تعبأ بمصير أطفالها بعد موتها أو موت زوجها لان الأعمار بيد الله !!
في صبيحة يوم جمعة من احد أيام عام 2006 م وأنا جالس في منزلي في مدينة الرياض السعودية حيث أقيم ، أداعب طفلي (وليد) ، رن جرس هاتفي النقال ولمحت رقما من مدينة نيالا لأرد عليه وأجد احد أفراد اسرتى في الطرف الآخر يقدم الى التعازي في ابنة عمى “هريا” التي قتلها الجنجويد بطريقة جبانة في احدي المعارك حيث كمنوا لها لعلمهم أنها تأتى دائما خلف الرجال في الفزع واغتالوها واغتالوا معها نبل المرأة وشجاعتها . اصابتنى الصدمة والذهول لفترة وأطرقت طويلا استرجع التاريخ وتذكرت والدها عمى إبراهيم(العريج) وأيام شبابه وتذكرت تحديدا يوم ميلاد “هريا ” وتلك الفرحة العارمة التي أصابت عمى لقدوم مولودته
“هريا ” وفجأة انهمرت الدموع من عيوني ولاحظ صغيري الذي يلعب بجواري الدموع وسأل متعجبا : اتبكين يا أبى؟ وماذا يبكيك وهل يبكى الكبار أمثالك ؟
جففت دموعي بسرعة قائلا لابني : لا بني أنى لا ابكي وإنما أصابت عيوني بعض التراب وكان هذا سبب الدموع ، وصدق المسكين كذب أباه وانصرف لللعب من جديد .
أنهيت غربتي الطويلة بالسعودية و عدت للاستقرار بالعاصمة الخرطوم وسافرت نيالا لتحية الأهل ومواساتهم من فقد العشرات من أفراد الأسرة الذين راح اغلبهم ضحايا عصابات الجنجويد والقتال في صفوف حركة تحرير السودان وكان أول من وصلتهم لتقديم العزاء هو عمى إبراهيم (والد هريا) والذي صار نزيل إحدى مخيمات النازحين بنيالا ، احتضنت عمى مطولا وبكيت بصوت عال ونسى عمى كل مآسيه واجتهد لاسكاتى بلا جدوى قائلا أن فلانا وعلانا من أفراد العائلة قد قتلوا وان ” هريا ” فقط واحدة من هؤلاء أذن لماذا البكاء المر؟ قلت لعمى أن “هريا ” أمرها مختلف لان الآخرين هم رجال ماتوا في مواجهة الرجال وان هريا امرأة وأم تمردت على أخلاق رجال آخر الزمان وتصرفاتهم البربرية وتصدت بنفسها لقتال تتر ومغول العصر (الجنجويد ) ولكن هؤلاء التتر لا يميزون بين امرأة ورجل وكانت هي الضحية اغتالوها واغتالوا معها هريا المرأة هريا الأم هريا المدافعة عن أهلها وعشيرتها .
محمد بشير عبدا لله مناوى
الخرطوم – السودان