تعددت، هذا الأسبوع، تحذيرات المراقبين للمأزق الذي دخلت فيه البلاد بسبب ظروفها الاقتصادية التي تزداد كل يوم سوء. فمنكدات مثل الوقوف في صفوف الخبز، والوقود، والنقود، وصعوبة الحصول على الدواء، أرهقت المواطنين فيما تتصاعد الأسعار بشكل خرافي، وفجأة وصل سعر الدولار إلى نحو مبلغ 70 جنيها سودانيا.
الحكومة، أو الحركة الإسلامية، أو المؤتمر الوطني، جهات مسؤولة ليس لديها حلولا ناجعة ما يعني أنه لا يلوح في الأفق أمل لفك الضائقة قريبا، والتي انعكست بالضرورة على كل مجال. كل الذي تفعل فيه هذه الجهات الآن الاحتياط لغضب الشعب أكثر من حل مشاكله. وقد تزامن مع هذه الأزمات إعلان جهاز الأمن على لسان نائب المدير أنه سيضرب المخربين بيد من حديد. أما المعارضة، والتي تنشط عبر جزر معزول فلا رابط وسطها، وما تزال في ضعفها المعروف الناتج من تعدد تحالفاتها المتضادة. وفِي الوقت ذاته تجدها منقسمة بين التفاوض مع الحكومة، أو إسقاطها، أو الانشغال بتفاهات تعديل الدستور، وقانون الانتخابات، والهبوط الناعم. وبينما يغط المجتمعان الإقليمي والمحلي في سبات عميق إزاء حالة البلاد المتردية أصبحت جموع السودانين في حيرة من أمرها. فالذين هم في الداخل استسلموا، أو تطبعوا مع الحالة الكئيبة، بينما وجدنا الذين في الخارج يتابعونها بشئ من القلق. ولكن لا حيلة أمامهم إلا الانغماس في خلافات وتسليات القروبات، أو شغل وسائط التواصل الاجتماعي الأخرى بنقد السياسات الحكومية كيفما اتفق.
والحال هكذا كان منظرا مؤلمًا أن نرى قطاعا من المواطنين يمتطون ظهر الدفارات، وقلابات التراب، والتراكتورات، للوصول إلى منازلهم، وذلك تفضلا من الأمن ليس من بعده من فضيلة أجود لتفادي الغضبة المضرية. وبينما يعاني الشعب الصابر من المسغبة، والحجز على ماله، والعجز عن الإنتاج، كان رئيس البلاد مشغولا بزيارة دولة لا ذكر لتأثيرها السياسي، أو الاقتصادي في كوكبنا الصغير. ولعل هذه الزيارة وحدها كفيلة بالتأكد من العزلة التي دخل فيها النظام ما أدى إلى تناسل أزماته التي تتطور يوما إثر يوم. إنها حالة مزرية للإفلاس الحكومي، ويقابلها سكون لأي عمل معارض فاعل.
إن الأوضاع التي يعيشها الناس في البلاد هي نتاج لفشل تام للإخوان المسلمين في إدارة البلاد، وليست هي نتاج سياسات تتعلق فقط بفشل النهج الاقتصادي. فهذه التراجيديا التي تسبب فيها دعاة ربط الدين بالدولة لن تستمر طويلا. فاستقرار الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، عنصر أساسي لأي سلطة دولة. ولكن ما يحدث أمامنا الآن هو أن حل الحكومة للأزمات التي تهدد كيان الدولة كله لا يتمثل إلا في إحكام القبضة الأمنية، والسعي إلى شق وحدة الأجسام السياسية، والعسكرية، للمعارضة، سواء بالترهيب، أو الاختراق، أو التفاوض الذي يفجر مطالب عادلة هنا وهناك عند التطبيق.
باختصار، لا يوجد حل نظري ناجع للأزمات السودانية سوى إسقاط النظام، ولذلك لا نرى داع لجولات التفاوض الفارغة المحتوى في الدوحة، أو أديس أبابا، أو انتظار انتخابات ٢٠٢٠، والتي لا تسمن، ولا تغني من جوع. فالقوى السياسية، والعسكرية، كلها جربت التفاوض مع النظام، وتوقيع اتفاقيات للتطبيق، ولكن فِي كل مرة تخرج منه منقسمة، وفاقدة لتوحدها الذي دخلت به جولات التفاوض. فالحركات المسلحة ظلت إعلاميا تعبر عن قضايا السودان كافة. ولكنها للأسف تبدو في طاولة المفاوضات حركات دارفورية، أو تمثل جبال النوبة، أو الشرق ليس إلا. والدليل على ذلك أن النظام يبلعها كل أدبياتها السياسية القومية عند المفاوضات، ويجبرها على طرح مطالبها الأقليمية لقسمة السلطة. وهذا بدوره أضعف الحركات نفسها، وشكك في مصداقيتها، وكذلك أضعف العمل المعارض المركزي، ولم يحقق شيئا ملموسا لأهل مناطق النزاع خلاف زعزعة استقرارها، وتشريد أهلها، وقصفهم بالانتنوف، وحرق قراهم. والأمر المؤسف أن حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان “جناح مناوي” رفضتا التفاوض مع النظام عبر وثيقة الدوحة عندما كانتا في عنفوان قوتهما العسكرية. والآن قبلت الحركتان بالوثيقة بينما وجدناهما في أضعف وجود ميداني لهما داخل السودان، فوقا عن ذلك انسحبت منهما مجموعات مؤثرة، وانضمت للحكومة. كما أن الحركة الشعبية “قطاع الشمال” تعنتت في مفاوضة النظام، ولكنها قبلت بعد الانشطار بجناحين ينشطان الآن للتفاوض عبر مسارين متباينين، ويكمن بينهما عداء لا يخفى على أحد. أما حدوتة “نداء السودان” المتصل بالهبوط الناعم وفق إرادة القوى الدولية فلن يكون سوى حبل النجاة للنظام المنهار أكثر من أن يكون منبرا لوضع حلول جذرية للمشكل السوداني، وذلك في ظل معارضة قوى مؤثرة للطريقة التي يحاول بها المجتمع الدولي التوسط بين النظام ومعارضيه.
الحقيقة المرة هي أن غالبية شعب السودان الآن تفتقد الآلية الموحدة لإسقاط النظام بناء على ما تقدم حول تشتت العمل المعارض. فالنخبة السياسية، والعسكرية، تتمسك بأجندتها وسط صراعات شخصية داخلها، وترفض تقديم تنازلات لإقامة تحالف الحد الأدنى لإنقاذ السودان. ونعتقد أن هذا هو سبب استمرار النظام كل هذه السنوات ما دام هو قادر على اللعب بتناقضات هذه القوى التي يفترسها بانفراد عبر استخدام آلية التفاوض. ومع ذلك نأمل أن تقدر هذه النخب المأساة التي يعاني منها أهل البلاد وأن يتناسوا خلافاتهم، ويتوحدوا لإسقاط النظام. ونرجوا من الحركات المسلحة كافة ألا تنساق لهذا التفاوض غير المثمر، وأن توحد نفسها، وتلتزم لأدبياتها القومية، وأن يعمل حزب الأمة، والحزب الشيوعي، وحزب المؤتمر السوداني، والحركة الاتحادية، وحزب البعث، وحركة حق، وبقية التنظيمات على تناسي الخلافات السابقة، والانطلاق بمبادرة الأستاذ إبراهيم الشيخ لتفعيل جبهة المقاومة عبر تحالف جديد يستوعب كل الراغبين في إنقاذ البلاد.
لا شئ يمنع وحدة العمل المعارض من جديد ما دام الهدف الأسمى هو المحافظة على مستقبل السودان، وأعاد بنائه وفق أسس الديموقراطية، والعدالة، والمساواة، والحريّة، ومحاسبة مجرمي النظام. ونعتقد أن المسؤولية الوطنية تقتضي تقديم التنازلات لمجابهة النظام بدلا من السعي إلى مفاوضته عبر مسارات مختلفة تكون فيه القوى السياسية، والعسكرية، مستضعفة وغير مدعومة من كل المعارضين. وتلك هي استراتيجية النظام، والذي ظل منذ يومه الأول في السلطة يجري مفاوضات سرية مع شخصيات، وأحزاب، بعينها بهدف كسر وحدة المقاومة. إن شعب السودان الذي أذله النظام، وشرده بالملايين، وأهان كرامته، ووضع بلاده على حافة الانهيار، يستحق أن يجد من قادته السياسيين الجدية لتحمل المسؤولية في إنقاذه من طغمة الإخوان المسلمين، عاجلا إن لم يكن آجلا.
[email protected]