بقلم د. سعاد الحاج موسي
9 فبراير 2020
منذ بواكير عام 2003 بدأ مسلسل الشر الإنقاذي المستطير الذي كتبت له السيناريو وأنتجته نخبةٌ من الإسلاميين وأشرفوا أيضاً على تنفيذه، تحت راية الإسلام، باستخدام الجنود والمليشيات في مواقع أداء وتصوير هي أرض دارفور وقراه البكرة حيث الناس طيبي النفوس نقية سريرتهم عفيفي السلوك. فأهل دارفور هم الذين أحسنوا استضافة الغرباء علي مدار التاريخ وأفسحوا لهم في أرضهم متسعاً أقاموا فيه حولا وحُؤُول واستقر الكثيرون منهم فاحترموهم ولم يستنكروا وجودهم ويطردوهم أو يظنوا بهم الظنون، بل جادوا لهم بالعطاء حواكيراً وأخاء، وامتزج الناس المقيم بالوافد اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا حتي ذابت التسميات الاثنية التي تُفَرِّق، وصار الناس يُعَرًفون بأماكن سكناهم وديارهم وقبائلهم فيقال دار برتي ودار التعايشة ودار زغاوة ودار قمر، ولا يقال دار العرب ودار الأفارقة أو أولاد البلد، أو الزرقة كما ابتدعتها الإنقاذ، وأخيراً الزنوج ايغالا في التحقير والاستفزاز! وفي تاريخ تداخلهم الطويل خاض مجتمع دارفور حروباً دامية مع بعضه البعض دون أن تطل تقسيمات الاثنية البغيضة برأسها الاّ في عهد الصادق المهدي (1986 – 89) زعيم حزب الامة حين ابتدعت الطائفية الحاكمة حملة استقطاب القبائل بالعزف على الوتر الإثني والعرقي مدفوعين بحمى البقاء في كرسي السلطة ولسان حالهم يقول “ولو على جثث أهل دارفور ورماد بيوتهم”، فكان نتاج فعلهم القبيح هو شرذمة أهل دارفور ومجتمعه الذي لا يزال يئن من حدة وقع الاستقطاب عليه وعضال مرضه.
ومهما طال تناحر وحدات دارفور القبلية واشتدت مشاكساتهم الدموية لبعضهم البعض، يجلس كبارهم لوُثْقَ ما تمزق من عروةٍ، ولتصفية خلافاتهم بوضع نتائجها المريرة على ميزان الحساب للتعويض وجبر الضرر فيحترم قراراتهم المقاتلون ويذعنون لخياراتهم ولو كره البعض منهم ذلك، فتنفض جموعهم متصافحين متسامحين ومتصالحين ولو الي حين. كل ذلك اختبره مجتمع دارفور ولكن لا يوجد في عرف القبائل وممارساتها، ولم يذكر يوماً بأن قبيلة ما اعتدت على اخري باغتصاب نسائها فرداً أو جماعة. لأن مثل تلك الفعلة النكراء ستكون ذلةً تطال قبيلة من ارتكبها بأكملها وتحط من مكانتها أكثر من وقعها على الضحية وقبيلتها. ولذا فالمرأة في دارفور معروف لقرون بأنها “ما عندها عدو،” فكل رجل هو حاميها وحارسها وهي تتحرك ليلا نهارا دون خوف ولا يرافقها رجل. ذلك هو العهد الكريم الذي تبرأ منه الإنقاذ ودمر بنياته الاجتماعية وأبدل طمأنينة أهله بالخوف واستقرارهم بالتشرد والنزوح واللجوء.
فمع اندلاع ثورة الكرامة في دارفور في بواكير 2003، وطأت أرضه أرجلَ أشرارٍ فارقوا آدميتهم وهم يتجمعون حول طفلة في عمر الخمسة سنوات وكلٌ منهم يكشر عن انياب بهيميته منتظراً دوره للانقضاض على بقايا فريستهم والتي تكون في الغالب قد فارقت الحياة لكنهم لا يكترثون. يفعلون ذلك لقرابة عقدين من الزمان تحت طبول الإنقاذ وحكومته التي أوكلت إليها قوانين وأعراف الحكم التقليدية والرسمية الدولية منها والمحلية، والدساتير، جميعها أوكلت للحكومات والأنظمة حماية الأطفال والنساء ضمن حماية المواطن. ولكن رئيسهم نراه يرقص جزلا ويبصق فسق القول وهو يستحسن اغتصاب الجعلي لبنات دارفور، وهو لا يفقه بأن عُرْفَ مجتمع دارفور يستهجن تزويج بناته لمن هو خارج الحدود ناهيك عمن يغتصبهن! رئيس الإنقاذ لم يحاول نفي التهمة والصاقها بالجنجويد ولكنه أكدها علي بني قبيلته من الجنود الذين أغاروا على قري دارفور الآمنة آنذاك.
ومنذ 27 فبراير 2003، بدأ مسلسل جرائم الإنقاذ الجماعية في اغتصاب نساء دارفور عندما هاجمت القوات المسلحة جوا، وبرا مدعومة بمليشيات الجنجويد، هاجموا منطقة طويلة على بعد 55 كيلو متر جنوب غرب الفاشر والقري المحيطة بها. ففي ذلك اليوم المشؤوم والأيام التالية له، أُنْتِهك شرف أكثر من اربعمائة أُنثي واخْتُطِفت أكثر من مائة فتاة من مدرسة طويلة الثانوية لم يعرف لهن أثر حتى اليوم! خرج بيان حركة تحرير السودان يومها بالخبر الزؤام ولم يجرؤ، من هول الصدمة، على ذكر ما تعرضت له النساء – بناتهم وزوجاتهم وامهاتهم وجداتهم! من وقتها استشري حمي الاغتصاب في قري دارفور – في دار مساليت ودار زغاوة وكل قرية تسكنها قبيلة الفور، وتفاقمت الأوضاع الإنسانية مما دعا ناشطي السلام ومنظمات حقوق الانسان الدولية للتحرك لاستعلام الأوضاع وملاقاة الضحايا. هالنا وراعنا والعالم من حولنا تفاصيل ما أوردته منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في يوليو 2004. فما كان من حكومة الكيزان الاّ أن جلبت ما أسمتهم وفد الجامعة العربية الذي نفي ما حدث وقال قائلهم على رؤوس الأشهاد بأن نساء دارفور يقولون “اغتصبونا” ويقصدون بكلمة “اغتصبونا” انهم أخرجوهم من ديارهم غصباً عنهم! خرجت بعدها جموع نساء المؤتمر الوطني تحت سماء الخرطوم في تظاهرة لعنتها وتبرأت منها العفاف والخلق القويم، وهن مهللات لبشيرهن الرئيس حامي الشريعة الذي أهدر دم عفة بنات الوطن المسلمات المؤمنات، ومؤيدات للجريمة ب “سير … سير … يا بشير،” ومكبرات ب “الله أكبر”، لمباركة ما ارتكبت الإنقاذ في حق حرائر دارفور. لم تتساءل أية منهن عما عسى أن يكون عليه حالها إن دارت عليها الدائرة، لا قدر الله، وتجرعت من سموم نفس الكأس أو بناتها أو أمها وجدتها ذات الثمانين حولا.
وبينما تغتصب بنات دارفور ونسائه، لم نرَ من حركات النضال المسلح مبادرة بحملة سُمْيّت “من أجل نساءنا” أو “فداك نفسي وروحي يا أُختاه”، لحماية النازحات ونساء الريف واطفالهن، وتطمينهم بأن من وراءهم رجال أرواحهم رخيصة في سبيل كرامتهم! ولكن وجدت نساء الريف الرحمة والتعاطف من المنظمات الدولية التي خاضت صراعاً عنيفاً مع الإنقاذ لأجل إقامة المعسكرات لتأوي اليها أجساد النازحات المنهكة وأطفالهن وكبار السن ممن لم يحترق بنيران الكلاشنكوف والمسامير الحارقة، ولم يمت من أثر لسعات السياط الجارحة أو مدهوساً تحت حوافر خيول الجنجويد. الهجوم على طويلة وحرقها شكل بداية تكوين معسكرات النزوح في دارفور التي فاق عددها الآن المائتين يسكن في كل معسكر نزوح ولجوء ما بين ألفان الي أكثر من ثلاثمائة ألف نازح ينتظر الإغاثة ويهدد أمن نسائه وبناته الجنجويد وفلول الإنقاذ.
معظم النازحين واللاجئين هم من النساء اللائي نشأن على ممارسة الزراعة والرعي ورعاية الشؤون الاجتماعية في مجتمعاتهن. من عاداتهن استضافة الضيوف في منازلهن وهن مستبشرات، حضر الرجل ام غاب، ويقدمن لهم أفضل ما في وسعهن من طيب الطعام والشراب، وعلى محياهن ترتسم الهدوء والطمأنينة والرضا. الآن تغير حالهن وعشن على الكفاف والصدقات، فقدن الأمل وهزلت أجسادهن وضمرت أحشائهن وفارقتهن السكينة وراحة البال، ومعهن أطفال سكنت وجوههم الرهق والبؤس والحزن ونظرات الضياع. مجتمع ريف دارفور الكريم بأهله والمغمور في سكينة أجوائه تم تحويله في لمحة بصر الي ساكني معسكرات يغمرهم البؤس وعدم اليقين في الأمن والسلام والعودة الي ديارهم. فهل نأمل في سلام يعيدهم لديارهم ويعيد إليهم ما استلبته منهم الإنقاذ وهمجيته؟
بعد مأساة طويلة تكررت حوادث الاغتصاب بصورة أكثر وحشية وبشاعة وصار أحد معاول ومؤسسات الانقاذ وضمن منظومة حربها اليومية في دارفور – ففي كل قرية من آلاف القري التي تعرضت للهجوم والحرق، استهدف الجنجويد والعساكر الإناث البشرية من جميع الأعمار دون تمييز، بهدف قهر المجتمع الريفي بأكمله وتجريد النساء من انسانيتهن وإخضاع واذلال الحركات المسلحة وهزيمتها نفسياً. وعندما أُدين البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، في 4 مارس 2009، بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، أُحتسب الاغتصاب، مدموغاً بإفادات الضحايا، ضمن فظائع الحرب. ولكن كان قرار الدولية سببا كافياً لمن فقد الحس الإنساني والفطرة السليمة ليتمادى في غيه وعنتريته وينتقم، فكثرت من وقتها حوادث اغتصاب بنات دارفور أفراداً وجماعات في جميع أرجاء دارفور وحتى داخل العاصمة القومية لم يسلمن. إصرار الحاكم بالشريعة ورغبته في اذلال شعب دارفور استمر بلا هوادة فرأينا هجوم جنود الإنقاذ على قرية تابت جنوب الفاشر، في 30 أكتوبر و1 فبراير 2014، لتُرْتَكب فيها عملية اغتصاب جماعي لأكثر من اربعمائة امرأة وفتاة، خلال 36 ساعة، تحت نظر الأشقاء والآباء والامهات!
أما عام 2016 فقد كان الأكثر مرارة لنساء دارفور – فقد تعرضت للاغتصاب الآلاف من النساء والفتيات القُصّر، وقُتِلن وكُسِرت أيديهن وأرجلهن، خاصة داخل قري جبل مرة (جلدو، سوني، دربات، أرقو، قولو، نيرتتي، الخ)، ومعسكرات الجنينة وزالنجي ومورني، سورتني بكبكابية، السلام بنيالا والفاشر، فوربرنقا، معسكرات طويلة الأربعة، مرشنق، الردوم، الخ. وفي 27 فبراير 2016 أُغتِصبت عشرة نساء من معسكر زمزم جنوب الفاشر تتراوح أعمارهن بين العشرة والعشرين عاما بينهن أربعة قُصّر. كل ذلك حدث على مرأي ومسمع من وثيقة الدوحة، والحوار الوطني والسلطة الإقليمية آنذاك، ومكاتب اليوناميد كانت لا تزال مفتوحة على مصراعيها! ولا ندري ماذا كان رد فعل الحركات وقتها أكثر من بيانات الإدانة والتهديد والوعيد!؟
واستمر الحال الي أن انتفض ثوار العاصمة في ديسمبر ليلحقوا بركب من سبقوهم منذ التسعينيات، وانضمت الي جموعهم نساء السودان أُسوةً بنساء دارفور اللائي انتفضن منذ عام 2012 وحصدتهن رصاص الإنقاذ في المظاهرات العارمة التي قوضت أمنه في نيالا والجنينة، ثم التحقت المئات منهن بقافلة دارفور الثورية التي قدمت من فيافي دارفور في 30 ابريل 2019 للوقوف قريباً وجنباً الي جنب مع ثوار الخرطوم. وفي ليلة فض الاعتصام أُسْتُهدِفَتْ نساء غرب السودان بالضرب والجلد والاغتصاب، واستشهد ما يزيد علي 118 ثورياً برصاص الانقاذيين لتضاف الي قائمة ما يفوق المائتي ألف من شهداء ثورة دارفور.
تمخض جبل الثورة فوضع الحكومة الانتقالية – الجنين الذي آلت رعايته لقوي الحرية والتغيير (قحت) ولكن قحت أدارت ظهرها لنساء دارفور والهامش وأبعدتهن وأقصتهن من مراتب الانتقالية بشقيها السيادي والمدني. ولعل تهميش نساء الهامش في الانتقالية هي ما أوعزت لفلول الإنقاذ وجنجويده بالاستمرار في التهجم علي نساء دارفور وكان آخر ما ورد الينا هو التهجم علي ٦ نساء في منطقة أم هشابة يوم الثلاثاء، ٥ فبراير ٢٠١٩، جنوب معسكر زمزم وفي معيتهن ٣ صبية، وقد ربطت النساء ب ”رسن” الجمال وجررن علي الارض وضربن واغتصبن كما أوردته اتحاد أبناء دارفور بالمملكة المتحدة وآخرين. فذلك يحدث ولا يوجد صوتٌ واحد للملايين من نساء دارفور داخل مقاعد السلطة، صوتاً يعبر عنهن ويتعاطف معهن بصدقٍ في مصابهن وينتفض بقوة لمعالجة قضاياهن.
واقع الحال ينبه وبشدة الي أن إعادة تأهيل الأوضاع المزرية لنساء دارفور لا تتحمل الانتظار وتأجيل مشروع الإيفاء باستحقاقات الثورة – حرية سلام وعدالة، لحين الانتهاء من مفاوضات السلام، والأحرى أن تشرع الانتقالية في تمثيل نساء دارفور والهامش بكليته، وادراجهن في جميع وحدات مؤسساته حتي في تلك التي يقال انها اكتملت، واشراكهن بفعالية في مائدة مفاوضات السلام الجارية الآن كمُفاوِضات ومراقبات وناصِحات للمفاوضين عن التفاوض وبناء السلام وقوانين حقوق الانسان والمرأة والطفل وقضايا الهامش والسودان الكبير والعدالة الانتقالية. ذلك لأن سلام الهامش وقضايا نسائه لا تستقيم في غياب نسائه، كما وأن روح القبلية التي طغت على مائدة التفاوض حالياً يجب اسقاطها لتمهد الطريق لمشاركة فاعلة ومتجردة للنساء والرجال معاً، بعيدة عن الانتماءات القبلية والاسرية، لتخرج وثيقة اصلاح تخص المجتمع بأسره فتقبله وتتفاعل معه، وليست لمصلحة قبائل بعينها وخشم بيوت واسر فيرفضها المجتمع المعني به فيتعاركون بسببه!
سعاد مصطفي الحاج موسي
[email protected]