حضرت، بالأمس (السبت، 19 يناير، 2013م)، ندوة سياسية نظمتها الجبهة الثوريّة السودانية بمدينة لندن وكنت أظن (“وبعض الظنِّ إثمُ!”) أنها بمثابة دعوة لمناقشة ميثاق الفجر الجديد. لكن ظني خاب كعادته في مثل تلك الندوات التي تأتيكَ بعنوان عريض وكبير حين تقرأه تقول لنفسك إنه سيعالج كل القضايا المعلقة، بضربة معلّم واحدة. ومن نماذج تلك القضايا، على سبيل المثال وليس الحصر، قضية دور المرأة السودانية في ظل الوضع السياسي الراهن حيث لا يبدوا أن لا أحد- بما في ذلك “المناضلين” المديرين للندوة، كما والمتحدثين فيها والمعقبين والمناقشين، وقيل “المُتداخلين”… إلخ إلخ- يدري من هي تلك المرأة السودانية التي يعنونها، في الأساس، وما هو الدور الخاص بالمرأة الذي يريد أولئك تناوله، كما وما هو المجال المعني به ذلك الدور.
من جهة ثانية، حين تطالع ذلك العنوان، ملياً، تجده مثيراً لحيرة شديدة لأنه من شدة كونه فضفاضاً يخيل إليك أنه بوسعه أن يتضمن أيَّ تصور يمكن أن يملكه أي فرد في هذه الدنيا عن أي شيء. أي بعبارة أخرى، يبدوا أنه لا يقول شيئاً بالضبط لأنه يحاول أن يقول كل شيء! غير أننا، مدفوعين بإغراء تلك العناوين الكبيرة الجميلة ، نذهب إلى الندوات إيّاها آملين (ربما ضد الأمل!) بأن تناقش فيها الموضوعات المهمة الذي يتوقعها ذهن كل فرد منا بصورة مفيدة ومجدية، على الأقل، إن لم تكن عميقة أو متأملة.
حينما سمعت بأن هنالك “ميثاق جديد لفجر جديد” ملئت، مرة أخرى، (فيا لغفلتي!)، بالأمل، ذلك رغم أنه يقال إن “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”، وأنا من كبار المؤمنين، كما تعلمون!!! كنت أظن، بعبارة أخرى، أن الاجتراريين المعهودين بالتحدث في أمثال تلك الندوات قد تعبوا من اجترارهم ذاك وأسلموا أمرها لآخرين من المأمول فيهم أن يحدثوا نقلة نوعية في طريقة التناول والحوار فيها. لكن هيهات. كنت آمل، على الأقل، في حضور ممثلين لمن قاموا بصياغة ميثاق الفجر الجديد إن لم يتمكن أحد منهم من الحضور، شخصياً، للندوة، لمخاطبة الجماهير التي عليها العشم، أولاً وأخيراً، في إنزال المكتوب في ذلك الميثاق إلى الأرض. فضلاً عن ذلك إنه من الحق الإنساني لتلك الجماهير أن تشارك في تطوير وتعديل بنود ذلك الميثاق، إضافة وحذفاً وتمتيناً للنص، حتى تشعر بأنه معبر عنها حقاً قبل أن تلتزم بتنفيذه على المستوى الواقعي.
ما الذي حدث، إذاً، في تلك الأمسية التي قيل لنا عنها أنها تخص ميثاق الفجر الجديد؟ أولاً، حضر ممثلون لمعظم الأحزاب التي وقعت على الميثاق لم يكن من بينهم أي واحد من اللذين صاغوا الميثاق أو لديهم علاقة مباشرة ما بمن صاغوه سوى ممثل حركة العدل والمساواة السودانية الذي لم يعط فرصة كافية لطرح نقاط مهمة بشأن الميثاق كي يملك الجمهور معرفة مختصرة، بيد أنها ضرورية، بمحتوياته. لذا فليس من المستغرب أن أولئك لم يقولوا شيئاً كثيراً يتصل، مباشرة، أو بالتحديد، بنص الميثاق الكامل إذ هم استغرقتهم تفاصيل ما يمسونه “النضالات” والتواريخ القديمة واجترار المرارات الشخصية التي لا تعني الجالسين الصابرين عليهم في شيء. ذلك رغم أنه هنالك، بالفعل، فجر جديد يلوح في الأفق كان ينبغي لأولئك الاحتفاء به والتركيز على التبشير به عبر تلخيص نقاط الميثاق الذي وضع، أساساً، بحكم تسميته ذاتها، لينهض بالناس في اتجاه بزوغ ذلك الفجر الجديد، بطريقة موضوعية وسديدة. بالإضافة لذلك حتى ذلك الذي قيل في الندوة، سواء من جانب المتحدثين أو المعقبين وغيرهم، على علاته، لم يتم توثيقه بصورة جيدة حتى يمكن الاستفادة منه في تطوير الميثاق. كما وأنه لم تكن هنالك فرص متاحة للجمهور في نقد الميثاق أو التعليق على بنوده المتعددة، بل أرعب الحضور بفكرة أن أولئك المتحدثين الاجتراريين سوف يعودون إليهم مرة أخرى لما سمى “التعقيب”. على ماذا؟! لست أدري.
ومن الندوة تلك سأعود الآن إلى التحدث عن الظواهر الإيجابية، في ذلك الميثاق. أولاً، للمرة الأولى اتفقت القوى الوطنية والثورية، في مجموعها، إلى نتيجة أنه ليس هنالك من سبيل للتغيير سوى العمل في “وحدة لا انفصام لعراها بين السودانيين جميعاً” . ثانياً، احتفل الميثاق كثيراً بالحديث عن مواثيق حقوق الإنسان الدولية وضرورة الإستفادة منها والإلتزام بها بهدف تحقيق الحد الأدنى من شروط إنسانية الإنسان السوداني. ثالثاً، لأول مرة، كذلك، تم تحديد نسبة للمرأة في الميثاق (30%) حتى تستطيع المشاركة، بفعالية، في صناعة القرار السياسي بالبلاد ومن ثم تم الاعتراف، ضمنياً، بما وقع على المرأة السودانية من عزل وتهميش واضطهاد واستخفاف بالمقدرات طوال التواريخ الماضية. لكننا، مع ذلك، لا ندري كيف هم توصلوا لتلك النسبة بالتحديد، ولماذا لم تكن 50 بالمائة، مثلاً. ربما كانوا هم متيمينين، في ذلك، أقول في جملة عارضة، بقرار العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي أعطى النساء السعوديات ثلاثين مقعداً في مجلس الشوري السعودي (بالطبع من وراء حجاب!) وذلك يؤدي بي إلى هذا التساؤل الحزين: هل يعقل أن تتمكن المرأة السعودية من الحصول على جزء مهم من حقوقها قبل المرأة الكوشية-السودانية؟
وعند الانتقال للحديث عن شكل ومضمون ميثاق الفجر الجديد نجد أنه مكرر في أسلوب صياغته ولا يعكس، بطريقة واضحة متماسكة، وحدة التنظيمات والمجموعات التي وقعته في رؤيتها الخاصة بالكيفية المستقبلية والبديلة لإدارة التعددية الإثنية والاجتماعية والثقافية السودانية بحكمة وبصيرة آخذين في الاعتبار أن التعددية هي دليل قوة وحيوية أكثر منها دليل ضعف أو تفرق. كما ونلاحظ، في الصياغة، خشية من استخدام مصطلحات واضحة ومحددة المعالم مثل مصطلح “العلمانية”، المهم والضروي للغاية، مثلاً، إذ أنه، في رأيي، ليس هنالك، أصلاً، إمكان لبناء مجتمع ديمقراطي مستدام دون نظام حكم علماني يشكل الحد الأدنى للتعايش الإنساني المعافى في مجتمع يتميز، في تركيبته، بتعددية طبيعية وأصلية مثل المجتمع السوداني.
ومن المآخذ الأخرى، الشديدة الأهمية، على الميثاق، أنه لم يصغ بطريقة شكلية، كما ومضمونية، تعبر عن برنامجٍ ليس له، بالضرورة والتعريف، سوى أن يكون برنامج حد أدنى لقوى سياسية سودانية متعددة ومختلفة في رؤاها وفكرها السياسي والاجتماعي، بمقادير ما أو أخرى، له أهداف محددة وواضحة ومؤقتة وانتقالية يمكن وضعها في نقاط قليلة وقاطعة. ذلك لأن ما نطالعه في ذلك الميثاق يبدوا لنا وكأنه برنامج كامل ومفصل يحتوى على استراتيجية تنظيم سياسي ما، أو آخر، أو تحالف سياسي ما أو آخر، يبتغي به أن يُدار الحكم في السودان ليس لفترة انتقالية فقط وإنما لفترة طويلة المدى. بعبارة أخرى، أقول أن مثل ذلك الميثاق، بصياغته الحالية، ليس مناسباً لأن يكون ميثاق فترة انتقالية محدودة المدى والمعالم وإنما هو أحرى به أن يقدم كبرنامج سياسي (مع التوسيع والإضافات المناسبة طبعاً) لحزب ما، أو تنظيم ما، في حالة قيام انتخابات ديمقراطية تنافس فيها المجموعات المعنية المختلفة للوصول إلى السلطة السياسية في البلاد. ذلك لأنه لا يمكن لميثاق قصد منه الاتفاق على برنامج حد أدنى للانتقال الديمقراطي أن يشتمل على تفاصيل كثيرة تتراوح فيما بين تناول موضوعات معقدة مثل إشكالية الهوية وشكل الدولة والمجتمع والبيئة، مروراً بتناولها لكيفيات معالجة الأوضاع المعيشية للعمال والمزارعين واللاجئين والنازحين، ونهاية بالحديث الفضفاض عن صيانة كرامة المرأة السودانية والخدمات وإلخ إلخ…
كذلك تنبغي الإشارة هنا إلى الغياب التام للحديث، في الميثاق المعني، عن وسائل وكيفيات تحقيق التغيير السياسي في الفترة الانتقالية القادمة ما عدا ما ذكر فيه عن وسائل إسقاط النظام الحاكم حالياً في السودان وتشكيل الحكومة الانتقالية وفترة الحكم الانتقالي، مع علمنا أن ذلك كله مكانه لوائح داخلية تسترشد بها قوى التغيير في العمل من أجل السعي نحو انبثاق فجر جديد في السودان.
أخيراً، أود أن أقدم مساهمة متواضعة بشأن ما اعتقد أن على مثل ذلك الميثاق أن يحتويه أو يكون عليه بالرغم من أنه قد يكون بعضها، أوحتى معظمها، مذكوراً في الميثاق، غير أنها بقيت ضائعة في جسد مترهل، كما ومشتته فيه مثل إبر في كومة قش! عليه أنا أرى أنه، بحكم كونه ميثاق عمل انتقالي فحسب كما أوضحت آنفاً، ينبغي عليه أن يشتمل على إثبات الأهداف المحددة التالية فقط ولا زيادة:
1. إسقاط حكومة المؤتمر الوطني الشمولية الإسلاموية الحالية واستبدالها بحكومة انتقالية تمثل فيها كل الفصائل الثورية الموقعة على الميثاق المعني.
2. الاتفاق على دستور انتقالي للحكم، وصياغته، والتحضير لصياغة مشروع دستور دائم للسودان، علماني وديمقراطي وفيدرالي ومتوافق مع المواثيق والأعراف الدولية المتصلة بحقوق الإنسان.
3. إلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والاتفاقات والعقود السابقة التي وقعتها الدولة السودانية مع جهات إقليمية ودولية مختلفة منذ استقلال السودان دون استشارة ديمقراطية لمواطنيها إلى حين إعادة النظر فيها وإعادة تقييمها من قبل حكومة وأجهزة الدولة السودانية الشرعية المستقبلية المنتخبة.
4. حل كل الأجهزة الأمنية والاستخبارية والعسكرية التي تهدد أمن المواطن السوداني على أن يعاد بناءها على أسس مهنية سليمة هدفها الأول والأخير هو الحفاظ على أمن المواطن السوداني وخدمته في حدود اختصاصاتها المحددة، دستورياً.
5. إعادة توطين النازحين واللاجئين والمُهَجَّرِين في المناطق التي يختارونها وتعويضهم عن كل الخسائر المادية والمعنوية الناتجة عن الحروب والإبادة الجماعيّة.
6. إجراء محاكمات فورية وعادلة لكل من تتوفر أدلة كافية لاتهامه بالقيام بانتهاكات لحقوق الإنسان السوداني أو أي ممارسات فاسدة تتعلق باستغلال السلطة والثروة الوطنية. نوصي، في هذا السياق، بتكوين لجنة مصارحة ومصالحة على غرار ما تم في جنوب أفريقيا ورواندا، مساهمة في رتق النسيج الاجتماعي السوداني الممزق.
7. إعادة بناء وهيكلة مؤسسات الدولة السودانية والمؤسسات الخدمية السودانية والسعي الإيجابي نحو بناء منظمات حديثة للمجتمع المدني السوداني تعبر عن الطموحات الحقيقية لأفراده ومجموعاته المتباينة.
8. إجراء إحصاء سكاني مفصل ونزيه وعلمي يعكس تركيبة فئات الشعب السوداني المختلفة حتى يمكن الاستفادة منه في بناء وتطوير النظام الديمقراطي والتخطيط التنموي.
9. الإستعداد لإجراء انتخابات عامة ديمقراطية حقيقية في نهاية الفترة الانتقالية وذلك عبر بناء كل المؤسسات وصياغة القوانين الكفيلة بإنجاز تلك المهمة بكفاءة وعلى نحو عادل وتام الحياد.
10. صياغة لوائح داخلية مفصلة ودقيقة بواسطة كل المهنيين المختصين في المجالات المختلفة تضبط تنزيل كل الأهداف السابقة على أرض الواقع السوداني وذلك ضماناً لاستدامة مسيرة الديمقراطية والمؤسسية.
هذا جهدي في المسألة وللآخرين الحق في الإضافة أو التعديل، إن يروا ذلك، فما على الرسول إلا البلاغ!
سلوى السعيد، لندن، 20 يناير، 2013م