ملخص سياسي تحليلي لوقائع ومسارات الثورة السودانية، يستطيع عبره كل الناشطين داخلوخارج السودان تأسيس تكتيكات الثورة الملائمة لواقعهم أينما كانوا.
مالذي يجري الآن ؟
لا نولي اعتباراً كبيراً لعامل الزمن الذي استغرقته العملية الثورية في السودان، رغم أهميته المعنوية الهائلة على صعيدي الدعاية والتحريض، إن اقتناع المضطهدين بقدراتهم الكامنة وخوف الحاكمين من نتائج أفعالهم ينتج بالتأكيد آثاراً مشاهدة على واقعنا اليومي، ولكن دون تحليل متعمق لبنى مجتمعنا لن نتمكن من تحديد موقعنا الحالي، وسنعجز عن رفد استراتيجيتنا بتكتيكات ملهمة وضرورية وقبل كل هذا : واقعية.الزمن الذي استغرقناه في مركز تحليلاتنا، ولكنه ليس لبها.
للمفارقة : انتصار الثورة الأول جاء من خارج الحدود – اثيوبيا، كل المعطيات تفيد بتوقيع وشيك على اتفاق لمرور النفط الجنوبي عبر السودان مقابل حزمة من المساعدات الإقتصادية الجزئية، إن الطبيعة الداخلية للنظام كانت تجعل من مثل هذا الإتفاق مستحيلاً بسبب ميله الكامن إلى توسيع نفوذه السياسي باستعمال بيروقراطية الدولة وتوزيع المغانم المتأتية من النفط، هذا نظام ريعي لا يقبل إلا بزيادة مصادر دخله بدون أن يتورط في العمل الإنتاجي طويل الأمد. ماجرى تحول نوعي هائل، فلأول مرة يأتي السخط الجماهيري على الحرب ليكبح المنطق الداخلي للنظام المائل للعسكرة نحو السلم.
لقد دفعت استراتيجية الثورة بالنظام إلى موقع حرج على كل المستويات، إن حفاظ النظام على نوع من الهيمنة والمشروعية مرتبط بقدرته على تخليق عدوٍ متوهم يقوم بتعليب وعي الجماهير ضده وصرف أنظارها عن القضايا الأساسية، ثم استتباع أحزاب ومجموعات معينة حسب معادلات البقاء في السلطة بتوزيع عائدات الريع، عمليتان متواترتان زمنياً وتميزان الإنقاذ وتكشفان عن نمط توسعها السياسي والاقتصادي، وهذا يتناقض بالتأكيد وبكل الموازنات مع اتفاق للسلام مع دولة الجنوب، هذا انتصارنا الأول ! فأين هو العدو هذه المرة ؟ ومن سيقبل تحت هذا المد الثوري المتصاعد أن يدخل جهنم بقدميه ؟ تلهف النظام لحل أزمته الإقتصادية جعله في موضع ضعيف عسكرياً وسياسياً وخلق الظروف الموضوعية التي أجبرت النظام على أخذ السلام كحل مؤقت. فقط !
أما في الشق الآيديولوجي من صراعنا مع النظام، أصبح اجتراح فكر جديد يضمن الحفاظ على المعادلات القديمة للنظام مع تعديل شكلي في هياكل الحكم مستحيلة، هنا يأتي دور العامل الزمني الذي ذكرناه في بداية تحليلنا، كلما استمرت الأزمة لزمن أطول كلما اضطر النظام للحفاظ على التماسك صوري لوضعه الداخلي، وسدَّ بنفسه منافذ خروجه، انهم ينتحرون بحبال جدلوها من خطاياهم !.و يجب أن ينظر لـ (منبر السلام العادل ) لا باعتباره مروجاً للعنصرية فقط، ولكن استيعاب دوره الهام بنيوياً للنظام في توفير الغطاء الآيدلوجي لمرحلة توسع رأسمالية النظام بعد انفصال الجنوب، الفاشيةوالعنصرية تملك جذوراً في الاقتصاد السياسي للنظاموفي الأمشاج الجنينية الأولى لحركات الإسلام السياسي في السودان، وهذا ما أحبطه الحراك الثوري
بالتأكيد. بعد الآن لا يمكن للتناقض الثانوي أن يشغل المسرح السياسي، الثورة شاملة !.
بكلام آخر: إن علاقات القوى الإجتماعية والسياسية التي تميز السيرورة الثورية في السودان ستدفع بالبعض للنظر إلى محدداتها الهائلة والمتنوعة باعتبارها غياباً لبنية مهيمنة بديلة وبالتالي هو باب للتخوفات من فوضى آتية، التحليل النظري الشامل يدلنا أن تعدد المحددات السياسية والإقتصادية والفكرية والآيدلوجية لا يقود إلى (اللا تحدد) وغياب المشتركات، بل هو علامة على وصول الصراع بين النقيضين إلى أرفع مستوياته، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتفكيك بنية الهيمنة التي تغذي آلة السلطة بمنظور للعنف وتضمن لها التحكم بعقول المحكومين. لسنا في حالة توهان بل في خضم انشاء هيمنة بديلة ينبغي لقواها أن تضع ( منبر السلام العادل ) في خانة العدو الاستراتيجي.
إن التنازلات التي تستلزمها عملية بناء الهيمنة الجديدة هي مساحة التفاوض بين القوى المضطهدة، في هذه المرحلة ونتيجة لظروف نشوء هيمنة النظام الحالي أصبحت هذه التنازلات ميداناً خالياً تماماً إلا من الفكر التحرري للمضطهدين، لا مكان للتنازلات الجزئية !. هذا لا يقلق النظام فحسب بل إنه مصدر رعبه الأساسي.
من الممكن أن ينساق بعض معارضي النظام إلى الأخذ بفرضيته : حل الأزمة الاقتصادية من خلال توقيع اتفاق مع دولة الجنوب يعني انحسار فرص الثورة، هذا ليس تحليلاً علمياً للثورة !
من الممكن أن تدفع الأزمة الإقتصادية بالمزيد من الجماهير للإحتجاج، ولكن التغير النوعي السريع لشكل ومطالب ووعي الجماهير هو مفتاح بناء الهيمنة البديلة الي أشرنا إليها سابقاً، من مصلحة النظام تحوير وعينا نحو الأزمة بأنها مجرد اضطراب اقتصادي بسيط الأثر، هذه أزمة بنيوية شاملة لها أبعاد سياسية واقتصادية وفكرو- آيدلوجية وعسكرية وإقليمية، وليست الأزمة المعيشية إلا انعكاساً لكل هذه العواملوالمحددات، لايمكن الرجوع بعقارب الساعة إلى الخلف، في ظل موازنات النظام الداخلية وتصاعد الطور الثاني من الثورة السودانية وتزايد ثقة الجماهير بقدراتها يصبح الحديث عن عودة الأمور لما قبل 16 يونيو خبالاً ليس إلا!.
حالياً ليس للنظام من آيديولوجية تحميه ! إنه الآن مكشوف تماماً أمام الجماهير، لذلك سيواجه كل تحرك قادم بأقصى درجات العنف الممكنة، لا يملكون خياراً آخر!، إن بقاءهم الآن فقط رهين باستعمالهم للعنف العاري فهو ما يبقي قبضتهم على زمام الأمور. عندما يترافق ذلك مع تآكل صاروخي للدعم الإجتماعي السياسي- حتى وسط الحاكمين- للسياسات المطبقة، وفقدان القدرة على تصدير التناقضات الداخلية بالحرب والتحريض، نعلم تماماً أننا قطعناً مساراً يستحق الإعتبار. انتهى زمن مزيج الإكراه والموافقة الذي تعاطوا به مع الجماهير لفترة وجيزة، سنشاهد وجهاً جديداً- قديماً : القمع المفرط مع أقصى درجات الرعب وأدنى المعنويات من جهة وهذا قديم اعتدناه، والثقة المتصاعدة للجماهير بعد كل معركة من جانبنا. هذا جديدنا.
ما هو المتوقع ؟
فيما يخص العلاقة مع الجنوب من المتوقع أن يعمل النظام على :
• واحد : ستكون الدعاية سلاحهم الأول، إن تصوير النظام بأنه كان يبحث عن السلام هو كذب صريح. سيحاولون تصوير التنازلات التي أجبروا على القيام بها على أنها تمت بطيب خاطر ومن أجل مصالح المواطنين !، لن يستطيعوا إلا أن يبرروا ماقاموا به أمام الفصيل المهيمن وسطهم ( منبر السلام العادل ). وسيبقى الصراع داخل التناقض الثانوي غير مؤثر على حراكنا في المدى القصير على الأقل.
• اثنان : القيام بتخفيض شكلي في أسعار بعض السلع الاستهلاكية، وإرفاق ذلك بحملة كبيرة لربط السلام بما يسمى ( تحسناً قادماً ) في الأوضاع الاقتصادية. ومرة أخرى هي الدعاية !. لن يوقف ذلك تفتت النظام الإجتماعي والاقتصادي الجاري حالياً، فقد تم كسر هذه التسوية الاجتماعية بفعل الحراك الجماهيري. النظام فقد هيمنته تماماً !.
• ثلاثة : سيبدأ النظام من جديد دورة الدعاية والتلميع لنفسه في المجتمع الدولي، إنهم يعلمون أن الحراك الثوري قد كشف ضعفهم وعرى كذبهم، لايمكن للنظام أن يستمر إلا بوجود معادلة دولية تحفظ بقاءه بسبب انعدام قدرته على خلق التوافق القومي الداخلي، بالتالي سيحاول ربط نفسه بأي شعار دولي قائم من أجل توفير الغطاء الخارجي لإبقائه، أليس ذلك هو الإرتهان الحقيقي للخارج ؟.
التعتيم على ما جرى من انتهاكات ضد الناشطين، سواء في مناطق النزاعات أو في مناطق الاحتجاجات هو حجر الزاوية في أي تحرك جديد للنظام، هي خطة دفاعية بالتأكيد ولكن لن يجعلنا ذلك نقلل من أثرها. معركة كسب العقول والقلوب تسير في مصلحة قوى الثورة حتى الآن، فليتواصل الكشف عن أفعالهم.
بالتلخيص لما هو متوقع :
النظام في حالة أفول وانحدار، العامل الذاتي لقوى الثورة هو العامل ذو الأولوية القصوى، وأساسه هو الدعاية والكشف والتنظيم والإعلام الواعي، لا تغييرات موضوعية مرتقبة، إنما أكاذيب مكررة، إن مهمة الإعلام والتعبئة ذات هدف واحد فقط في المرحلة القادمة :
– خلق الصلات الثورية بالمزيد من الجماهير.
– التوعية من خلال الممارسة والتجربة متكاملة هذه المرة مع الإعلام الثوري الواعي.
– يجب ألا ننشغل بنقطة الإنطلاق، فالوضع الحالي هو ما يجعل الممارسة درباً للنظرية والعكس بالعكس.
اصدارة دورية
الجبهة الديمقراطية للطلاب السودانيين
20 يوليو 2012
[email protected]