محجوب حسين
البورتريه السياسي السوداني الحالي يمكن توصيفه بمجموعة خطوط فيه، نظام الرئيس السوداني عمر البشير ما زال يحكم البلاد وحده بلا منازع وبلا حزب وطني ولا إسلاموي ولا يحزنون، فقط بعسكره وأمنه وميليشاته، في ظل انتفاء كل الشروط السياسية والأخلاقية والدستورية التي تؤهله هو وأعوانه لحكم البلاد، هكذا يحكم الجميع في ظل رفض الجميع ورغم أنف الجميع، ومن أراد الإطاحة بنظامه فليجرب، أتذكرون رايات التجمع الوطني الديمقراطي المعارض 1990 ‘سلم تسلم.. لا تنازل ولا تفاوض، بل تسليم، الذي انتهى باستسلام غالبية مكوناته ليتحولوا اليوم إلى حلفاء. هو ذاته عمد في السنوات الأخيرة الى طرد كل حلفائه الذين صنعوه وصنعوا له السلطة والحكم، إنه الرئيس السوداني الحاكم العسكري الديكتاتوري والإسلاموي البراغماتي، الذي فاز في ست دورات رئاسية. الأمر سيان، يقول شاهد أو شهود عيان إنه دمر وقسم الوطن وأشاع الحرب والقتل في كل الأجزاء، ومتهم بارتكاب جرائم دولية وانتهاكات حقوق الإنسان ونظامه فاسد، هم يردون تلكم المزاعم بالقول ‘قولوا ما تشاؤون، أنا باق’ وها هي ارأة مسنة سودانية تناديه من وسط جمع سوداني وهو خارج من أحد مساجده بعد أدائه صلاة الجمعة وبالعامية السودانية ‘يا عمر دايراك’، فقال لها ‘أنا ما دايرك’ ليضحك حراسه وجوقته في وجه الأم السودانية المسكينة.
اما الوجه الآخر من البورتريه فتمثله مجموعة القوى المجتمعية الجماهيرية، وفي الحقول السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية والحزبية والدينية والثقافية، هؤلاء يمثلون جل الشعب السوداني العريض المناهض والمعارض لحكم ‘الفرعون’ السوداني طوال ربع قرن، هذه القوي تختلف درجة معارضتها حسب مستوى تأثيرها وفاعليتها في حلبة الصراع مع الديكتاتور في المجال السياسي العام، كما لكل منها ميكانيزماتها التي تحسب أنها موضوعية للإطاحة به أو إسقاطه.
أولها بلا شك، جمهور الشعب السوداني في محيطه ‘هامشه’ وتمركزه. وثانيها القوى السياسية الثورية العسكرية والحزبية المدنية، وبحاصل جمع الاثنين نجد اننا أمام معارضة كاملة الدسم مكتملة الشروط، إلا أنها غير منتظمة متراصة، رغم وحدة شكلانية خطابها وهدفها المعلن بإسقاط النظام، في مقابل نظام ما زال يعمل بنصف ماكنة، إلا أنه موجود ولا يعير اهتماما للضغوط التي حوله، سواء كانت دولية أو داخلية وما أكثرها. والأدهى انه، في أحايين كثيرة، يسخر من المعارضة لاسيما المدنية منها، ويقلل من قيمتها ووزنها السياسي والعسكري والجماهيري، بل يرى فيها معارضة سياسية حزبية ‘بائسة’ ولا يمكن لها بموازين قوى السلطة إلا أن تلعب في الغلاف الجوي المنتج لها من السلطة، ولا تستطيع تجاوزها ومع ذلك يجب الحفاظ عليها سياسيا، وبشروط حسب حاجة النظام إليها، لفائدة تسويقه كونه نظاما ديمقراطيا راسخا وراشدا- على حد قولهم- ما دامت هناك قوى معارضة في برلمانها تقوم بمسطرة الشكل الديمقراطي وتزعم بأنها تسعى لتغيير النظام وفق العرف الديمقراطي، أي صندوق الاقتراع، الذي فيه النظام المهندس الكراكتوري لرسم ديكتاتوريته الديمقراطية وبالمرة تكملة المشهد الديمقراطي وتأكيد شرعنة المنافسة والنتائج، حيث الفائز فيها، سواء بصندوقه الانتخابي أو دبابته أو انقلابه، هو نفسه مالك منتجع حي كافوري أو جمهورية كافوري السودانية الواقعة وسط جمهورية السودان، علما بأن ممثل سيادة الجمهوريتين واحد.
إننا أمام بورتريه سياسي خطوطه ومشخصاته واضحة، إلا أنه غير متسق ومنقسم، مما جعل إدارة الأزمة مع النظام فيها ثقوب وتشوه واضحان، مما أضاف عبئا جديدا للورطة السودانية الوطنية التي في خضمها يحتفل الإنقاذيون كل عام من دون كلل أو ملل بثورتهم المزعومة المسماة بـ’الإنقاذ الوطني’.
إذن هي عقدة طابعها التناقض وفرضت معها استفهامها الخاص بها، خصوصا بعدما اكتملت كل جدليات ووقائع إسقاط النظام، بل إن استحقاق الإسقاط نفسه لم يعد فعلا، بل شكل أحد أهم الأجندات الوطنية لكل القوى السودانية المنقسمة ما بين الثورية السياسية العسكرية ‘الجبهة الثورية السوانية’ والمدنية الحزبية ‘أحزاب قوى التحالف’ بالداخل، هنا يمكن صياغة السؤال كالآتي: أين الخلل وكيفية فك طلاسمه حتى لا تحتفل الإنقاذ مرة ثانية بربع قرنها، حكما وظلما وتدميرا، من دون شارات مرور للتوقف أو تغيير الاتجاه.
الخلل يتضح وفي عنوان عريض ليس في قوة وشرعية وشعبية حكام الخرطوم، بقدر ما يتمثل في عدم حدوث توافقات سياسية جادة – مع التشديد- بين قوى المعارضة المدنية الحزبية والعسكرية الثورية، حيث ما زالت هناك فجوات لم تمتلئ، بعد مع الاكتفاء بالتوافق الشكلاني على مستوى الخطاب السياسي. أيضا إن فحص استحقاق جدية إسقاط النظام بين بعض لفيف مكونات القوى المدنية ما زال عند حكم السواد العام مجروحا ويشوبه التأرجح، كما يتبين من دون سرد لحيثيات معينة تكشف فيها أن هناك قوى ذكية في لي الحقيقة وإفراغ المعنى والمضمون للفعل السياسي الثوري، والدخول في جدليات ليس لها قدر من الأهمية، بالنظر إلى حجم المأساة الوطنية وتشعباتها. ومرد هذا يعود إلى عدم قدرة بعض المؤسسات الحزبية على استيعاب تحولات الحراك الاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي جرى في السودان خلال الثلاثة عقود الماضية، وبشكل أكثر عمقا خلال العقدين ونيف الماضيين، مع تداعياتهما التي أصابت كل الصعد، وفيها برزت قوى جديدة تختلف في تقسيمات منهجها الفلسفي والفكري الذي قد يتعارض مع الملاك وقوم النبلاء، وفيها استطاعت انتزاع مشروعيتها وشرعيتها لتصبح قوى سياسية شريكة في تشخيص ورسم معالم المستقبل السوداني الجديد، اسوة بالشركاء الآخرين وفي قطيعة معرفية تامة مع تابوات منظومة الرعايا والوصايا والبطريكية في ثوبها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، المكونة لمنظومة التمركز السياسية السودانية طوال نصف قرن، التي تنظر لأي فعل سياسي أو عسكري قادم من المحيط إما متمردا أو كيانات جهوية مطلبية في حاجة لمعالجة مطالبها، من دون حشر أنفها في ما لا يعنيها، وفي إسقاطات متطرفة تصبغ هذه التيارات غير المولدة في الخرطوم بأنها عنصرية أو عميلة أو انفصالية أو قبلية أو حتى تيار يتبع لبطن ‘فخذ’ قبيلة. تعمد هذه الأدوات الإقصائية لصالح المركزية السلطوية التي تتبادل أدوارها في نمطية مألوفة ليست خجولة، بل احتكرت قيم الوطنية وتوزيعها، وتتحاشى الحديث أو المشاركة الفعلية لتلبية شروط استحقاق الحراك التاريخي الثقافي الذي وقع والذي لا يمكنه البتة الانسحاب أو التراجع إلى الوراء، أي التموقع مجددا في خانة أو حكم المفعول به على الدوام، من دون تأدية دور الفاعل. هذه الفاعلية المطلوبة لا تأتي وفق التراث السياسي السوداني المتعارف عليه إلا بنقد قوي وقاس يؤدي إلى تغيير بنيوي وجذري لمرتكزات بنية السلطة السودانية وشكل علاقاتها مع الآخر، الذي يؤهله رصيده ونضاله الوطني سواء بسواء لإحداث التغيير الذي يعد مرحلة من مراحل التطور الحقيقية في التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية السودانية، وهذا يفيد بتغيير في موازين قوى المجتمع وأسسه، وبالطبع له انعكاساته في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الذي قد يسحب معه ما يعرف بالرصيد ‘التاريخي’ وهو رصيد تمت السيطرة عليه قسرا وبوضع اليد أو قل كل الأيدي والأرجل.
هذا الخلل المشار إليه هو سبب العقدة التي لا تحفز العقل السياسي في التمركز والدفع بقوة الأشياء، الشيء الذي جعله يعيش هواجس من القلق والخوف والهلع من كل القوى الصاعدة، مثل الجبهة الثورية أو الحركات الثورية التي أتت تلبية لواقعها الاجتماعي، باعتباره واقعا اجتماعيا متحركا ومتغيرا أتى جراء تراكمات كمية امتلكت القدرة والأهلية والمسؤولية لتتحول إلى فعل ثوري وطني جماهيري عام يريد أن يقلب الواقع بصورة نوعية، لا يؤمن بالإصلاح ضمن نفس النسق السياسي القائم، وإنما بتغيير بنيوي ومفصلي للشأن الحياتي السوداني ما دام حراك التاريخ ودورته هما المحددين للصعود أو التراجع، وهنا يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ‘ومن لا يفهم إلى أي حد يكون التاريخ شرسا ومجردا من المعنى في دورة تاريخية معينة، لا يستطيع أبدا أن يفهم الدافع الذي يعطي التاريخ معناه’.
في هذا الإطار نعتقد أن الفكر السياسي الديمقراطي المناهض لنظام الحكم بحاجة إلى مراجعات مهمة وصعبة في نفس الوقت، وأن خطوة وثيقة ‘الفجر الجديد’ وعناصرها محل الخلاف والتحفظات حولها، مع إضافة وغربلة وثيقة ‘قوى الإجماع الوطني’ يمكن أن يشكلا معا البديل الوطني الذي يحتاجه السودان والسودانيون لفائدة عقد اجتماعي جديد، ومن ثم تكون الشرعية اكتملت للتحول الديمقراطي في السودان، سواء جاء بالقوة أو بالثورة الشعبية المدنية، وفي حالة عدم وقوع ذلك فلا خيار إلا أن تتقدم وتتوكل الجبهة الثورية السودانية لإحداث التحول الذي يشارك فيه كل الشعب السوداني وإنهاء دورة كانت ثقيلة على التاريخ السوداني، وحتى لا تكون التكلفة ثقيلة، المطلوب وطنيا وسودانيا أن يلتقي الصادق المهدي والترابي والشيوعي وآخرين وأخريات بالثورية في بريد مستعجل لرسم المشروع الوطني وقطع الطريق لأبراج الانتظار التي تستغرق في قواعد الشكل، ولما لا بناء كتلة تاريخية وطنية سودانية تحل اللغز السوداني واستفهامات الدولة السودانية الحديثة.
‘
‘ ‘كاتب سوداني مقيم في لندن