بسم الله الرحمن الرحيم
أكاديمية الفكر الجماهيري
محاضرة بعنوان:
مستقبل السودان والصراع على السلطة فيه
تقديم: الإمام الصادق المهدي
8 نوفمبر 2010م
مقدمة
أشكر أكاديمية الفكر الجماهيري على دعوتي لمخاطبتكم وفي هذا الموضوع الهام:
كل دولة أو امبراطورية توافرت لها أسباب القوة الإستراتيجية في التاريخ عملت على تشكيل بقية العالم على صورتها. بل والمغلوبون كذلك على نحو ما قال ابن خلدون مولعون بتقليد الغالب.
هذه السنن السياسية السوسيولوجية كانت ولا زالت مطردة لذا فإن الهيمنة الأمريكية ليست بدعا في سنن الهيمنة. لذلك فإن منطقتنا العربية، الأفريقية، الإسلامية مستهدفة. ولتحقيق تلك الهيمنة تُطرح أنواع ٌمن الخطط. فخطة الشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير هي خطط التعامل مع المنطقة المستهدفة باعتبارها فراغا حضاريا تملؤه الرؤى الوافدة.
هذه المساعي سوف تستمر فقاعدة الهيمنة دائما كما قال بشار:
إذا ما غضبنا غضبةً مُضَرِيَّة هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ذرى منبر صلى علينا وسلما
ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما جاورها أكثر استهدافا لموقعها الجيوسياسي الاستراتيجي، وللبترول وقود الحياة الحديثة، ولإسرائيل بوليصة التأمين ضد التغيير في المنطقة بصرف النظر عما يحيط بها من أشواق توراتية وإنجيلية.
السودان في موقع هام من هذا الاستهداف. ولكن الخطط المعادية لا تصنع الأهداف بل تجدها في عيوب الممارسات الداخلية: “يا سادتي لم يدخل الأعداء من حدودنا.. لكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا”.
السودان قطر ذو خصائص متنوعة:
تنوع ديني: مسلمون، مسيحيون، وأتباع أديان أفريقية.
تنوع إثني: خمسة قوميات ينقسم عليها سكانه: عرب، زنوج، نوبة، نوباويون، بجة. يصحبه تنوع لغوي : أكثر من مائة لغة تتبع لعوائل لغوية مختلفة كأن السودان مصغر لأفريقيا.
كانت ولا زالت مشكلة السودان الكبرى هي إدارة هذا التنوع وكان أكثرها حدة إدارة التنوع الشمالي الجنوبي. إدارة فشلت ما أدى اليوم إلى استفتاء لتقرير مصير الجنوب من الراجح أن يؤدي لانفصاله. وتوجد إرهاصات تجعل ذلك الانفصال إذا لم تجد معالجات معينة انفصالا عدائيا يفتح أبواب جهنم لطائفة من الحروب.
إلى حضراتكم إفادتي عبر سبع نقاط:
الأولى: تحرير المصطلحات:
· عبارة ديمقراطية مع اختلاف نماذجها تعني نظاما ملتزما بأربعة مبادئ هي: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون.
· عبارة حقوق الإنسان تشير إلى حقوق كلية لا تسمح بالمماحكة حول خصوصيات فهي كلها تتفرع من خمسة مبادئ هي: كرامة الإنسان، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام، أصول بينتها حقائق الوحي وأكدتها التجربة الإنسانية الخيرة.
· الديمقراطية التعددية تحقق تلك المبادئ عبر الأحزاب والمجالس النيابية. وعلتها الأهم هي التردي في ظاهرة العصبية التي تقيم تناقضا بين المصلحة الحزبية والمصلحة العامة.
· الديمقراطية المباشرة تحقق المشاركة عبر المؤتمرات الشعبية. وعيبها الأهم أنها تفترض انسجاما فكريا فلا تسمح بالتباين الفكري، ما يناقض الحرية.
· الدكتاتورية هي الاستبداد:
o إذا فرضته قيادة مدنية فهو استبداد مدني كما في بعض النظم الوراثية.
o وإذا فرضته قيادة عسكرية فهي دكتاتورية عسكرية.
o وإذا فرضه حزب يساري فهو ستالينية.
o وإذا فرضه حزب يميني فهو فاشستية.
النقطة الثانية: السودان استقل قبل 54 عاما قضى 80% منها أي 44 عاما تحت نظم استبدادية أهم معالمها: إلغاء الآخر، والتحكم في الرقاب، ولا مشاركة، ولا مساءلة، ولا شفافية، ولا سيادة حكم القانون.
وفي الـ 44 عاما جرب السودان ثلاثة أنواع من الاستبداد: الدكتاتورية العسكرية، والتحكم باسم الاشتراكية، والتحكم باسم الإسلام.
النقطة الثالثة: النظم الدكتاتورية جرت للبلاد الحروب الأهلية، والمآسي الإنسانية، والتدويل، وبيان ذلك:
· ما حدث في أغسطس 1955م كان عصيانا عسكريا وانتهى بإجراءات حازمة ومحاكمة ومعاقبة الجناة. وأقبلت البلاد بعد ذلك لممارسات نظام ديمقراطي تعددي شارك فيه الجنوبيون بأحزابهم السياسية وبممثليهم في رئاسة الدولة، وفي مجلس الوزراء، وفي البرلمان وكان مطلبهم العام أنه عندما يكتب دستور البلاد يقوم على نظام فدرالي. ولكن لأسباب تتعلق بالخلافات السياسية سلم رئيس الوزراء الحكم لقيادة القوات المسلحة السودانية فأقاموا نظام حكم دكتاتوري عسكري حل الأحزاب وأجهزة الحكم وشرد القوى السياسية وكان وقع ذلك بصفة خاصة كبيرا على القوى السياسية الجنوبية إذ لم تكن للوزراء والنواب وظائف مدنية بديلة ولجأوا للخارج هم وقادة الأحزاب الجنوبية وهناك في الكنغو الديمقراطية كونوا حزبا للمقاومة انتقل إلى كمبالا باسم حزب سانو، وكان النظام العسكري قد طبق سياسات تعريب في التعليم وأسلمة بموجبها غير العطلة الأسبوعية من الأحد للجمعة، وبما أن الأحد عند المسيحيين يوم مقدس عارضت الإرساليات ذلك الإجراء. والإرساليات المسيحية في مناطق أفريقيا جنوب الصحراء منذ عهد الاستعمار توغلت في النسيج الاجتماعي والخدمي بين السكان. واعتبر النظام معارضتها تدخلا في الشئون السياسية فطردوهم جميعا وصاروا بعد ذلك سندا مكشوفا للاحتجاج والمقاومة الجنوبية. المقاومة التي كونها الساسة المشردون لا سيما النواب السابقون أمثال: جوزيف أودوهو – ساترنينو لاهور- فرديناند أدينانق- ناتانيال أويت- جيمس دول اشيانق- أقري جادين وهلم جرا من النواب السابقين. هؤلاء بحثوا عن مصادر تسليح وجدوها من مصادر إسرائيلية وكنسية.
وجندوا الجنود المسرحين من القوات المسلحة لا سيما بعد خروج عدد كبير منهم بعد العفو عنهم من السجن في عام 1963م. لقد كون السياسيون حزب سانو كآلية للمقاومة وكونوا حركة أنانيا “سم الأفعى” كجناح للمقاومة المسلحة.
النظام العسكري اتخذ ما اتخذ من إجراءات تشريدٍ للسياسيين والنواب، وتعريبٍ وأسلمة فوقية، وطردٍ لقساوسة الإرساليات، وإطلاق سراحٍ للجنود المحبوسين دون أن تكون هذه الإجراءات خاضعة لبرنامج يدرك ما تسبب من سلبيات وتحتويه فأدت لتراكم اندلعت بموجبه الحرب الأهلية الأولى التي استمرت من 1963م إلى 1972م.
· بعد إسقاط النظام العسكري الأول في أكتوبر 1964م اتجهت العزيمة السياسية عبر محطات محددة: المائدة المستديرة 1965م- ولجنة الاثنى عشر 1966م – ومؤتمر الأحزاب السياسية 1967م لتحقيق حل سياسي لحرب الأنانيا وقبل أن تحقق ذلك وقع انقلاب مايو 1969م.
· انقسم الانقلابيون على أنفسهم في يوليو 1971م وبطش رئيس النظام جعفر نميري بالحزب الشيوعي. هذه التطورات نقلت نظامه من الانحياز للمعسكر الشرقي للمعسكر الغربي فوجد منه تعاطفا مكنه من إبرام اتفاقية سلام يوليو 1972م. ولكن نظام نميري خرق اتفاقية سلام أديس أبابا التي أبرمها بتدخله في الشئون المفوضة للجنوبيين. وبتقسيم الجنوب إلى ثلاث وحدات خرقا للدستور في 1980م. هذه الإجراءات ضمن عوامل أخرى متعلقة باستيعاب القوات الجنوبية في القوات المسلحة أدت في مايو 1983م لاندلاع حرب بقيادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان أخطر أضعاف المرات من الحرب الأولى. وكان نظام نميري قد انحاز تماما للمعسكر الغربي وأبرم مع مصر اتفاقية الدفاع المشترك تحت مظلة حلف الناتو. هذا التحالف الغربي تكون ضده حلف عدن من ليبيا واليمن الجنوبي “الماركسي” وأثيوبيا “الماركسية” حلف عدن احتضن الحركة الشعبية والجيش الشعبي بصورة كبيرة وزودها بالمال، والتدريب، والتسليح، المعسكرات، والدعم الدبلوماسي. هكذا اندلعت حرب ذات أبعاد إقليمية واسعة زاد من دوافعها التطبيق التهريجي لقوانين سبتمبر 1983م المسماة إسلامية.
إذن: الانقلاب الأول صنع الحرب الأهلية الأولى، والانقلاب الثاني بعد فترة سلام تحققت بموجب تحضيرات الديمقراطية الثانية ومساعدة الغرب للنظام مكافأة له على البطش بالحزب الشيوعي.. بعد فترة سلام اتبع سياسات أدت لانفجار حرب أهلية أخطر من الأولى.
· كان النظم الديمقراطي الثالث في السودان قد استعد لعقد مؤتمر قومي دستوري في 18 سبتمبر 1989م واتفق على أجندة المؤتمر وكان مطلب الحركة الشعبية محصورا في مسائل محددة: النصيب العادل في السلطة- والنصيب العادل في الثروة – والتخلص من أية أحلاف تمس السيادة (اتفاقية الدفاع المشترك) – واستثناء غير المسلمين من الأحكام الإسلامية- واللامركزية. ولم يكن للأجانب أي دور في عملية السلام بل كانت سودانية خالصة.
انقلاب يونيو 1989م اعتبر البند الخاص بالأحكام الإسلامية إلغاء “للشريعة” وصرف النظر عن مشروع السلام الوشيك.
ودخل النظام في مفاوضات سلام عقيمة وصعد الحرب الأهلية تحت عنوان الجهاد فأكسب ذلك الحركة الشعبية تعاطفا في دول الجوار وتعاطفا كنسيا عالميا.
وفي عام 1992م اتخذ النظام الانقلابي سياسة دولية هجومية بتكوين المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي. كرد فعل مباشر لهذا النهج دعا السناتور الأمريكي هاري جونستون كافة الفصائل السياسية الجنوبية المسلحة والمدنية لاجتماع في واشنطن في أكتوبر 1993م. في ذلك الاجتماع قررت الفصائل الجنوبية بالإجماع لأول مرة في تاريخ القضية المطالبة بحق تقرير المصير على أساس أن السودان بالنهج الجديد قد قرر هوية إسلامية عربية وهم ليسوا عربا ولا مسلمين ولا خيار لهم إلا تقرير المصير تجنبا لفرض هوية عليهم.
النظام الانقلابي قوض مشروع سلام 1989م، وصعد الحرب إلى جهاد، واتخذ نهجا أفرز مطلب تقرير المصير. وكان بالإمكان أن تنتهي الحرب في 1989م. لولا تقويضه لمشروع السلام واستمرت الحرب 16 سنة أخرى دون مبرر إلى أن أبرم النظام اتفاقية يناير 2005م للسلام.
الاتفاقية حققت إيجابيات في وقف الحرب ومعادلة اقتسام السلطة والثروة وأجندة التحول الديمقراطي. ولكننا في مايو نشرنا كتابا بعنوان اتفاقية السلام والدستور الانتقالي في الميزان. حددنا ما بها من عيوب وقلنا إنها لن تحقق مقاصدها.
الاتفاقية في نهاية الفترة الانتقالية أخفقت في ثلاثة من أهم أهدافها: لم تتمكن من تكوين حكومة انتقالية جامعة- لم تتمكن من تحقيق التحول الديمقراطي- ولم تجعل الوحدة جاذبة للناخب الجنوبي الذي يرجح أن يصوت للانفصال في الاستفتاء المزمع.
· والنظام أشعل حرب دارفور. في دارفور مشاكل موروثة معلومة هي: فجوة التنمية والخدمات- نزاعات بين الرعاة والفلاحين حول الموارد- نزاعات قبلية وثارات- ونهب مسلح. وهي مشاكل محلية وحسمها في نطاق محلي كان ممكنا.
ولكن السياسات التي اتبعها النظم الانقلابي أدت إلى ظهور أربع مشاكل جديدة تماما:
– سياساته مزقت النسيج الاجتماعي وأدت إلى لظاهرة الإثنية المسيسة باعتبار أن النظام انحاز لإثنية ضد الأخرى.
– سياساته ضمن عوامل أخرى أدت لتكوين أحزاب سياسية مسلحة لمقاومة الحكومة المركزية ابتداءً من عام 2002م: حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة.
– الاقتتال الذي اندلع منذ عام 2002م وإجراءات حفظ الأمن والنظام المتبعة أدت لتجنيد قوات غير نظامية وأدى الاقتتال لخلق مأساة إنسانية هائلة تكونت نتيجة لها معسكرات نازحين تقدر الأمم المتحدة حجمها بمليونين ونصف.
– متابعة مجلس الأمن الدولي لمأساة دارفور أدت لإصدار 29 قرار يعامل جلها النظام السوداني باعتباره خطرا على الأمن والسلم الدوليين، فجرى تدويل للقضية ووجود 20 ألف جندي أجنبي من قوات اليوناميد، وملاحقة رأس الدولة جنائيا.
استمرت حرب دارفور منذ 2002م مشتعلة أي لمدة ثمانية أعوام حتى الآن وكلفت ما كلفت من سفك دماء وإتلاف أموال ومنذ أبريل 2010م تراكمت في المشهد الدارفوي المستجدات الآتية:
– اشتعل الاقتتال الذي كان قد هدأ قبل ذلك وامتد لكردفان.
– اتخذت حركات دارفور المسلحة مواقع في جنوب السودان ما يعني تدخلا عسكريا بين الجنوب والغرب.
– انهيار سلام أبوجا.
– اشتعال جبهة اقتتال في المحيط العربي الدرافوري.
النقطة الرابعة: نحن في حزب الأمة ندرك عيوب الديمقراطية التعددية وندرك كذلك طبيعة الثقافة السياسية السودانية وما فيها من تجذر للحزبية وما يجب عمله لترشيدها في سبيل احتواء التعصب والتوافق مع المصلحة الوطنية وآية ذلك:
– لدى إسقاطنا لنظام الفريق إبراهيم عبود في أكتوبر 1964م وفي اجتماع تأسيسي لإعادة بناء كياننا السياسي الذي حله الانقلاب خاطبت المجتمعين قائلا: حزب الأمة مرحلة انطوت وحققت استقلال البلاد وإسقاط النظام العسكري ونحن نستشرف مرحلة جديدة. لذلك اقترح أن نسمي حركتنا السياسية: الحركة الشعبية السودانية. وجد الاقتراح معارضة شديدة ورفضا تمسكا باسم حزب الأمة ولكن اثنين من شيوخ الحزب هما السيدان: أمين التوم، وزين العابدين حسين شريف كتبا لي مذكرة مفادها رفض إلغاء الاسم القديم والتجاوب مع التجديد بتسمية الحزب: حزب الأمة القومي الجديد. هذا الاقتراح قبله المجتمعون. ولكن الواضح أن التقاليد السياسية المتجذرة تستعصي على التغيير. أنتم في ليبيا لا تعرفون هذه المشكلة لأنه ما كان عندكم من أحزاب قبل الثورة مجرد لافتات سطحية لا تمثل قوى اجتماعية حقيقية ولذلك سهل عليكم نفي الحزبية لأنها أصلا غير موجودة في الحقيقة.
وسعيا وراء احتواء التعصب من أجل المصالح العليا كنا وما زلنا نحاول ترشيد التنوع بمواثيق مثل:
· ميثاق وطني لالتزام الأحزاب السياسية بالاتفاق على المصالح الوطنية العليا وتجاوز الحزبية في أمرها.
· ميثاق ديني لتحقيق أعلى درجة من التعاون بالقيم المشتركة والتعايش.
· ميثاق ثقافي يقوم على الاعتراف بالتنوع الثقافي والاتفاق على المصالح الثقافية المشتركة.
· عقد اجتماعي يوفق بين برنامج التنمية والحركة المطلبية.
هذه مجهودات للتوفيق بين المصلحة الشعبية العامة والتنوع الذي تفرضه الثقافة السياسية في مجتمعنا.
النقطة الخامسة: هذا النهج هو الذي جعلنا في الظروف الراهنة نسعى لإيجاد القواسم الوطنية لتجاوز الاستقطاب بين قوى الحكم وقوى المعارضة من أجل المصلحة العليا:
· ففي مايو 2008م سعينا إلى تحقيق برنامج التراضي الوطني الذي كان يهدف لالتفاف الكافة حول الأجندة الوطنية ولكن هذا البرنامج أجهض.
· وبالتعاون مع الحركة الشعبية تنادينا لمؤتمر جوبا في سبتمبر 2009م وحاولنا أن نجعل من ذلك المؤتمر بوابة جنوبية للتراضي في الوطن. دون جدوى.
· وعندما أوفد الاتحاد الأفريقي السيد ثابو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق عام 2009م على رأس حكماء أفريقيا وحضروا للسودان وعقدوا اجتماعات موسعة مع كافة القوى السياسية السودانية رحبنا بهذه المبادرة واقترحنا عليهم صيغة معدلة من التراضي الوطني لتجتمع الكلمة الوطنية حولها. وتجاوبوا مع المقترحات وكتب أمبيكي مذكرة تصلح كأساس لاتفاق القوى السياسية على القضايا الوطنية. ولكن هذه المبادرة ذهبت أدراج الرياح. ولا ندري لماذا؟
· ومنذ أبريل 2010م ونتيجة للانتخابات العامة المختلف عليها تلوث المشهد السياسي السوداني. وتباينت الرؤى في وقت تقبل البلاد على تطورات توجب أكثر من أي وقت مضى توحيد الإرادة لإنقاذ المصير الوطني.
النقطة السادسة: والمؤسف حقا هو أن مواقف صناع القرار الآن ممعنة في الخطأ.
أ. المؤتمر الوطني الحزب الحاكم يدعو للوحدة على أساس اتفاقية السلام التي تتطلب إذا أيد الجنوبيون الوحدة استمرار النظم والتدابير المنصوص عليها في اتفاقية السلام، ولكن استمرار هذه النظم يجعل الوحدة طاردة بل يعتبر كثير من الجنوبيين أن ما يخصم منهم من بترول الجنوب أي 50% “خراج” يدفع للشمال. ويقول هؤلاء إن المؤتمر الوطني حريص على الوحدة مع موارد الجنوب لا مع إنسان الجنوب! الدعوة للوحدة على أساس استمرار النظام المنصوص عليه في اتفاقية السلام يجعلها طاردة. لذلك ميزنا نحن موقفنا في تأييد خيار الوحدة على أسس جديدة أكثر إقناعا للناخب الجنوبي.
ب. الحركة الشعبية لم تقرر رسميا بعد تأييد خيار الانفصال. ولكن كثيرا من قادتها أعلنوا ذلك. الانفصال بصورته الحالية قفزة في الظلام. ليس فيه تطمين للجنوبيين في الشمال، ولا للشماليين في الجنوب، وليس فيه بيان لمصالح القبائل الرعوية، وليس فيه التزام بالتعاون في المجالات المختلفة كما ينبغي ليعرف الجنوبي ما هي حقوقه وواجباته إن هو اختار الانفصال ويلتزم الشماليون بواجباتهم نحو الجنوب المنفصل وحقوقهم المؤمنة. التصويت لانفصال مبهم يفتح الباب لكل أنواع التصرفات العفوية الانفعالية الضارة.
ج. الأسرة الدولية بقيادة الولايات المتحدة تتخذ موقفا من الاستفتاء أقرب إلى الدروشة السياسية. إنه موقف مدفوع باللوبيات المنحازة للجنوب والمنحازة ضد المؤتمر الوطني.
من هذا المنطلق العاطفي يقولون: نحن مع إجراء الاستفتاء وقبول نتائجه دون أن يتحدثوا عن نزاهته ولا عن حل المشاكل المعلقة.
نحن نميز موقفنا من هذا الثلاثي المعطون في الخطأ ونرى لتجنب الاقتتال ضرورة الإجراءات الآتية:
– الاتفاق على ضوابط تجعل الاستفتاء نزيها ومقبول النتائج ولدينا اقتراح محدد بذلك لتتولاه إدارة محايدة وقادرة.
– هنالك بؤر ملتهبة – مثلا- تبعية الجبلين- وجبل المقينص- وكاكا التجارية- وكفياكنجي (حفرة النحاس) – وبحر العرب- وأبيي – وهجليج- وكيفية المشورة الشعبية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق… إلخ.
القرار الرسمي الأمريكي في السياسية الخارجية تحكمه إلى حد كبير لوبيات داخلية تركز على التعاطف مع الحركة الشعبية ومعاقبة المؤتمر الوطني. لوبيات تكونت عبر السنين هي: اللوبي المسيحي لحماية المسيحيين – اللوبي الصهيوني- ولوبي حقوق الإنسان- ولوبي محاربة الرق- ومحاربة الإرهاب- والأمريكان من أصل أفريقي- ولحقت بها الآن لوبيات تزيد من أبلسة المؤتمر الوطني مثل كفاية – وإنقاذ دارفور.
ولكن الباحثين والدارسين الغربيين يرون خطأ سياسة الولايات المتحدة:
· يقولون كما أثبتت دراسة حقلية أجراها جوك مادوت جوك وشارون هتسنون (1999م) أن الاقتتال ليس شماليا جنوبيا فحسب فمن بين المئات من آلاف الضحايا فالذين لقوا حتفهم نتيجة اقتتال جنوبي جنوبي أكبر من عدد الذين لقوا حتفهم نتيجة اقتتال شمالي جنوبي، ونشر الباحثان ماريك شومارسوس وأتيم ألن هذا العام كتابا بعنوان “جنوب السودان ضد نفسه” أجريا دراسة واسعة في الجنوب بإذن من حكومته قالا في الكتاب: إن هناك مشاكل حدود داخل الجنوب، وفي ما بين القبائل، وأن هناك تظلم في تقسيم الثروة بين الجنوبيين، وتظلم في تقسيم المناصب ويرجحون أن هذه المشاكل سببت وسوف تسبب اقتتالا داخليا ما لم تحسم قبل الاستفتاء.
· ومجلات الغرب الجادة تناولت الأمر بالأخبار والتحليل مثلا قالت نيوزويك: في مقال كيفن برينو بتاريخ 24/9/2010م أن دعم الغرب لتنمية الجنوب غير مجدية وأن الجنوب غير قادر على إقامة دولة مستقلة. ومقالة مجلة الحروب الصغيرة بتاريخ 22/10/2010م بقلم توماس تالي قدم فيها مآلات الاستفتاء خاصة إذا أدى للانفصال. وقال بعد دراسته موجها نصحا لأوباما الرئيس الأمريكي: لا تواصل السياسة الحالية بشأن الاستفتاء في السودان لأنها سوف تمضي نحو الدمار والحرب. ولذلك يجب البحث عن بدائل مجدية.
النقطة السابعة: الحرب القادمة قد بدأت فعلا بمناوشات وبالوكالة وإذا حدث استفتاء مختلف على نتائجه فالأمر ينذر بحروب أوسع داخل الجنوب. وداخل الشمال وفيما بينهما تعبر الحدود حتما لبعض دول الجوار. هذه طامة ينبغي عمل كل الممكن بسرعة وجدية لتجنبها منعا للحروب وصنعا للسلام.
هذا يوجب عقد لقاء حاسم يبحث ويحسم الأجندة الوطنية الآتية:
أ. كيفية إجراء استفتاء حر ونزيه فأي استفتاء يختلف على نتائجه إجراء هدام.
ب. تحديد أسس جديدة لوحدة ندية تشد الناخب الجنوبي.
ج. تفصيل مبادي محددة لماهية خيار الانفصال فلا يكون قفزة في الظلام.
د. تسوية أزمة دارفور بالاستجابة لمطالب أهل دارفور المشروعة وتجسيد ذلك في إعلان مبادئ وتعميم ما فيها من حقوق لكافة الأقاليم المتظلمة.
ه. كفالة الحريات العامة ما يحقق نزاهة الاستفتاء في الشمال والجنوب.
و. الاتفاق على آلية منصفة لحل المسائل المختلف عليها لكي لا تلقي بظلالها على الاستفتاء ولكيلا تجعل اقتتالا يقع.
ز. الاتفاق على آلية قومية: حكومة لتنفيذ قرارات هذا الملتقى.
إن عقد هذا اللقاء بأجندته الوطنية المقترحة هو طوق نجاة الوطن من حرب لا تبقي وتذر فتقع بلادنا في تصاعد هندسي للحرب أولها 1963م أخفها، وثانيتها 1983م أوسطها، وثالثتها المقبلة أكثر تخريبا وتدميرا.. هذا هو النداء الوطني الذي ينبغي أن يتجاوب معه كافة أهل السودان وجيرانه وأشقاؤه ومحبو الأمن والسلام في العالم . (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)[1].
[1] سورة الأنعام الآية (236)