حفلت ثلاث مقالات هذا الأسبوع بمحاذير من مغبة تسارع وتيرة انهيار البلاد. فالدكتور الشفيع خضر يقول إن “أسوأ الظنون على الإطلاق هو اندلاع حرب شاملة في البلاد أشبه بحرب الهوتو والتوتسي العنصرية، مع الأخذ في الاعتبار أن السودان تتوفر فيه الحاضنة الملائمة لهذه الحرب من ارتفاع وتيرة الخطاب العنصري المؤجج للنعرات العرقية والإثنية، وارتفاع معدلات القتل والثأر بين القبائل، وذلك في بلد انهار فيه التعليم ويستوطنه الفقر والتجهيل ومحاولات إلغاء العقل..”. ويقول د. خالد التيجاني النور إن “حال السودان في ظرفه الراهن، ليس بضربة لازب بل بنتاج تجربة معاشة متعثرة باتت تهدد أصل وجوده..”. أما د. زهير السراج فقد حذر من نشوب حرب طاحنة في دارفور لتشمل القطر كله، ويقول إنه “
يستطيع أي شخص بناءً على الظروف التي تعيشها المنطقة أن يتنبأ بأن السودان على شفا حرب قبلية لا تبقى ولا تذر، ما لم يتعامل الجميع مع ما يجرى الآن بكل جدية وحكمة وشفافية..”.
الحقيقة أن الحلول الحكومية للأوضاع الجارية الآن في السودان محكومة بالفشل الذريع لا محالة. ليس بسبب أنها فقط قاصرة على الإحاطة بالمشاكل في كل محفل للمواطنين، وإنما بسبب أنها تركز على معالجة الأعراض، وليس الأمراض نفسها. فكل ما تفعله هذه الحلول الحكومية المؤدلجة حيال شؤون الحرب والسلم هو أنها تخاطب ما يتبدى على سطح البنية الفوقية، ولكنها لا تغوص في البنية التحتية التي تمور، وتفور، والتي تجعل مشاكلنا العامة متجذرة في البيئة المجتمعية لعقود، إن لم تكن لقرون.
أما الأزمات الاجتماعية التي تكاد تفطر القلوب فإن الدولة ليست لديها غير الحلول المبتسرة التي تصب في إبقاء نظرية التسلط بالدين والسياسة. فحروب القبائل، وتنامي الإجرام، واختطاف البشر، وتصاعد معدلات الإصابة بالأمراض العضوية، والنفسية، وموات ضمير الموظف العام، كلها مؤشرات لغياب سلطة الدولة كما قال الأستاذ ياسر عرمان في معرض تعليقه على اقتتال أهلنا الحمر والكبابيش. أما على المستويات الأخرى فإن مظاهر الأزمات الاجتماعية المزمنة، والجديدة في نوعها، فهي تكشف عن خواء فكرة ربط الدين بالدولة. فالذين يضعون حلول الأزمات العامة، وإحلال بدائل لما كان عليه واقع الناس، ضعفت قدراتهم الإدارية في التعامل مع الأزمات المستعصية، والطارئة، التي تعايشها منظومة الدولة من جهة، وتباعدوا كذلك عن الالتزام بأسس التدين المتعلقة بالعدل والمساواة، ونصرة الضعفاء، وغيرها من المستحقات العقدية. ومن غير المدهش أن ينتهي الكادر المتظاهر بالتدين في دولاب الدولة إلى قامع لهؤلاء المساكين القاطنين في أطراف المدن. فهؤلاء الضعفاء لم تسعفهم الصناديق الخيرية، ودواوين الزكاة، وغيرها من الواجهات الحكومية التي خصصت لهم، وطالها الفساد على ما هي عليه من عجز بنيوي في تغطية احتياجات المساكين، والطلاب، والمعسرين.
وببساطة مهما طور الاقتصاديون الإسلاميون مناظير حلولهم للأزمة، وفق موجهات المرحلة، فإنهم لن يسهموا في علاجها إذا كانت بنية نظامهم السياسي لا تسمح بتنفيذ هذه الخطط، وهي قبل ذلك كسيحة. وقد عاصرنا محاولات قنيف، وبعده زكي، ثم حمدي، وعوض الجاز، وعلي محمود، وبدر الدين، ولكن يتضح لهم في كل مرة أن الاقتصاد هو السياسة في جوهره، وأنه مهما تدفقت أموال البترول، والاستثمارات، والمعونات الأجنبية المتمثلة في القروض الربوية، ووضعت الخطط العشرية والخمسينية، فإن التنمية البشرية سابقة كشرط لنجاح هذه العوامل في نماء اقتصاد البلاد.
بالنسبة للحلول السياسية لأزمة الحكم التي جربتها الحكومة حرباً، ثم حواراً، فاتفاقاً، فإنها كذلك أكدت أن حلولها تكمن خارج هذه السياقات الإجرائية التي ظلت الإنقاذ تعتمدها لحيازة الشرعية، واستيعاب المكونات في جوفها، وتحقيق الاستقرار لخطتها في قيادة البلاد بانفراد. أما الحلول الميكافيلية في التعامل مع المحيط الإقليمي والدولي، على حساب تشديد القبضة الحديدية في الداخل، فإنها أثبتت في غير ما مرة أنها فقط تسعى إلى تحقيق نجاحات مرحلية، ولكنها لم تضع البلاد في الطريق السليم نحو استقرار علاقاتها مع الجوار القريب، والبعيد.
وإذا كان التقارب السابق مع إيران قد خدم النظام فإنه قد شكل عبئا ثقيلا له في علاقته مع الدول العربية حتى إذا استعر العراك المذهبي في المنطقة انعزل النظام وكادت البلاد أن تنهار اقتصاديا. ولكن إستراتيجيي المكر السياسي استخدموا ميكافيليتهم الناجحة للحاق بحلف الراغبين لمواجهة إيران نفسها في اليمن وسوريا. وعلى المستوى الدولي فما تزال الحلول تعتمد على التعاون الاستخباراتي كوسيلة لكسب أطراف في أوروبا، والولايات المتحدة، لصالح الهروب من المصيدة الغربية التي ظلت منصوبة طوال الثلاثة عقود لابتزاز النظام، وحمله على تغيير سياساته، ومخططاته ضد الغرب، وضد مواطني السودان.
الملاحظ أن هذه الإجراءات الداخلية الخادعة، والمعتمدة على إرهاب السلطات الأمنية، والاستقواء بالمحيطين الإقليمي والدولي، لم تحقق شيئا سوى تأكل السلطة ما أوجد تلك المحاذير التي أشار إليها أولئك الكتاب بأن البلاد تسير إلى حتفها.
كثيرون يشيرون إلى ضعف المعارضة وعدم قدرتها على إنقاذ البلاد بأن تسقط النظام وتقيم دولة المواطنة البديلة، ولكن هناك القليل من النابهين الذي سعى إلى فهم هذا الضعف، ومسبباته التي جعلت النظام مستمرا حتى هذه اللحظة دون أن تمس أجهزته القمعية التي تحميه من الفناء. وفي ظننا أن المعارضة ليست فقط تنظيمات سياسية تقليدية تعاني ما تعاني من مشاكل تنظيمية عضوية، وإنما هي بمنظور آخر مجموع كل السودانيين الراشدين الذين تحملهم روحهم الوطنية للمساهمة في إنقاذ بلادهم. وبهذا المستوى من التقدير لن يكون السؤال عما قدمه الميرغني، أو الصادق، أو الخطيب، أو إبراهيم الشيخ، ورؤساء الحركات المسلحة لتفعيل عمل المعارضة.
إن السؤال ينبغي أن يكون عن دور الفرد الراشد، وعلى رأسهم الذين حصلوا على قدر عالٍ من التعليم في إسقاط النظام حتى لا تضيع بلادهم في الفوضى ثم الانهيار العظيم الذي لا يبقي ولا يذر. فزعماء الأحزاب، وكوادرها القيادية، لا يتحملون مسؤولية تقصير المعارضة وحدهم إذا كان أكثر النخبة، والمثقفين، ينتظرونهم اليوم لإنقاذ البلاد من شبح التلاشي بينما الوفاء للوطن يمثل فرض عين.
إننا في الغالب نشجب ما يقترفه النظام من جرائم في البلاد، ونحمله مسؤولية تفتيت القوى المعارضة، في محاولة لتبرير ذلك الضعف في آليات العمل السياسي للتنظيمات التاريخية والحديثة. ورغم موضوعية هذه الأحكام، وفهم سياقها ضمن الحراك السياسي المعني بتعرية وفضح المشروع الحضاري، ولكن لم يبق أمام أي شخص راشد في البلاد وخارجها من لم يعلم بالدور الذي يقوم به الإسلاميون في المحافظة على صنيعهم السلطوي الاستبدادي. ولهذا وحده صار النظام يأخذ بزمام الفعل بينما تأتي المعارضة لاحقا لتخلص حرجها بالشجب، والاستنكار، وأحيانا الشتائم. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن بيانات الشجب المعارض تشكل مجموع عمل التنظيمات السلمية والمسلحة، ولا يوجد هناك شئ سواه. بل أحيانا لا تجد هذه البيانات نسبة مقروئية بالقياس إلى مساهمات كتاب شباب مستقلين. وربما تضج الأسافير بهذا النوع من الشجب، والتعرية، للنظام بصورة أبلغ من عمل المعارضة الرسمية.
ومع ذلك هناك أمل بأن ترتقي تنظيماتنا السياسية إلى مسؤولية تفعيل دورها المفترض لإنقاذ البلاد، وأن تتسامى فوق خلافاتها الشخصية، وأن تعالج إشكالاتها التنظيمية بكثير من الحرص على التماسك الداخلي، فضلا عن إقامة الجسور وسطها لتوحيد العمل المعارض. ولا بد لكل قطاعات المعارضة الناشطة من التمسك بالأمل في أن الأنظمة الديكتاتورية تحمل جرثومة فنائها مهما بذلت من سياسات إجرامية لتوطيد أركانها عبر زراعة الإحباط في نفوس الثائرين ضد الاستبداد.
[email protected]