د.عمر القراي
[email protected]
(يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) صدق الله العظيم
لماذا يجري هذا التقتيل لأبناء دارفور ؟! ولماذا يزج بهم دائماً في حرب ليسوا طرفاً فيها ؟! ولماذا حين تقاتل السلطة فصائل مسلحة منهم، تترك ميدان المعركة، وتنصرف الى قرى المدنيين العزل الآمنة، فتقصفها، وتقتل الشيوخ، والاطفال، وتغتصب النساء، وليس لكل هؤلاء جريرة غير أنهم من اهالي دارفور ؟!
حين دخلت حركة العدل والمساواة، أمدرمان، بقيادة خليل ابراهيم رحمه الله في مايو 2008م، ففزعت حكومة المؤتمر الوطني، وحاول بعض كبار مسؤوليها الفرار بالسفر للخارج !! ولكن ما ان ضمنت الحكومة نجاتها، حتى انقلب فزعها حقداً وبطشاً، ليس بقوات حركة العدل والمساواة، وإنما بأبناء دارفور في العاصمة. لقد نزعت محلاتهم في سوق ليبيا، وكافة الاسواق الشعبية، وصودرت بضائعهم، وأموالهم، وسجنوا، وعذبوا في ” بيوت الاشباح”، لا لشئ إلا لأنهم من القبائل التي عرفت ب”الزرقة”، والتي تقاتل حركة العدل والمساواة، لتنتصر لها، لما لحق بها من هلاك ودمار، بسبب الحروب التي شنتها عليهم حكومة المؤتمر الوطني، مدعومة بقبائل عربية في دارفور، جندتها، وألحقتها بقوات الدفاع الشعبي، وسلحتها من خزينة الدولة، وكلفتها بالقضاء التام على قبائل ” الزرقة” في دارفور، فكان ان ظهرت مليشيات ” الجنجويد” سيئة السمعة، والتي قتلت حوالي 250 ألف مواطن سوداني، من ابناء دارفور، وشردت بين معسكرات اللجوء والنزوح حوالي 2 مليون !!
هؤلاء التجار، الذين صودرت اموالهم، ونزعت محلاتهم، من كل الاسواق الشعبية، في العاصمة، حين خرجوا من السجون، لم يستطيعوا العودة الى دارفور، لأنها لا زالت مشتعلة بالحروب، فذهب كثير منهم ليتاجر في الجنوب، قبل الإنفصال، وظلوا هنالك بعده . ومع أنهم لا علاقة لهم بالسياسة في الجنوب، كما لم يكن لهم علاقة بها في الشمال، إلا انهم قتلوا بصورة بشعة، وبنفس الدوافع العنصرية الكريهة، وفاق عدد القتلى في مجزرة بانتيو ال 400 قتيل، معظمهم من ابناء دارفور.. وعن هذه المأساه جاء (تباينت توصيفات الحدث وروايات الأطراف في مجزرة الدرافوريين ببانتيو، ففي الوقت الذي نفى فيه المتحدث باسم اللواء الرابع التابع لقوات مشار، قاي دانق قلواك قتلهم لتجار سودانيين أو دارفوريين في بانتيو، مشيراً إلى أن التجار موجودين بمقر اليوناميد؛ إلا أنه عاد وقال أثناء حديثه لإذاعة “راديو دبنقا” أمس، إن من قتلوا هم توربورا وليسوا تجاراً، والتورابورا هو الاسم الذي أطلق على المتمردين في دارفور إبان اندلاع الصراع المسلح في الإقليم في 2003م. وبالتمعن في إجابة قلواك يتضح أن قواته قتلت وعاقبت الدارفوريين بجريرة وقوف الحركات مع سلفاكير، رغم براءة الكثير منهم، في وقت يقدم فيه مستشار الأمن بولاية الوحدة من قبل طرف حكومة الجنوب جون مالوك راية أخرى تختلف عن ما أدلى به قاي، فجون في حديثه لذات المحطة الإذاعية يؤكد أن المتمردين قتلوا التجار السوادنيين، بالإضافة إلى الموظفين الحكوميين التابعين لحكومة جنوب السودان. وفي اتصال هاتفي يروي تاجر ببعثة الأمم المتحدة من بانتيو، أن الأوضاع سيّئة وبعض التجار فقدوا كل شيء، وليس لديهم نقود للحصول على الأكل والشرب، إلا أن حالة الجرحى بينهم حرجة على حد قوله، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة نصبت خياماً وجلبت أطباء لمحاولة معالجة الجرحى مع غياب كامل للممرضين. ويضيف التاجر -الذي فضل حجب اسمه- أن الموجودين بمقر البعثة الآن أكثر من 200 شخص، وأن حوالي 40 فروا إلى جوبا، و18 فروا إلى فاريا، وغرق 3 أثناء محاولتهم عبور البحر من بانتيو إلى ربكونا حيث مقر الأمم المتحدة، هذا غير تلك الجثث التي توجد على الطرق، تلك هي أبرز تداعيات حدث مأساوي وقع في جنوب السودان راح ضحيته السودانيون دون أن تحرك الدبلوماسية السودانية شيئاً، ولا زال السؤال يطرح نفسه عن مصير هؤلاء التجار المحاصرين الآن بمقر الأمم المتحدة، وكيفية علاج الجرحى في وقت فقدوا فيه كل شيء في متاجرهم المكدسة بالسلع من مختلف الأصناف، التي جلبوها من الخرطوم عبر المناطق الحدودية وكمبالا، فلسان حالهم يقول: إلى أين المفر وما العمل ؟!) (سودانيزاونلاين 23/4/2014م). إن المسؤولية المباشرة عن قتل هؤلاء المدنيين المسالمين، تقع على عاتق حركة ريك مشار، التي تصارع الآن في حكومة جنوب السودان.. وهذه خطيئة قاتلة، لحركة وليدة، تزعم انها تقاوم في نظام دكتاتوري، من اجل استعادة الحرية والديمقراطية، والمبادئ التي قامت عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان. ولئن تم استنكار دولي لهذه الجريمة، ومطالبة بمحاسبة الجناة، فإن الإدانة داخل السودان، قد كانت ضعيفة.. فلم تصرح الحكومة بأي موقف، ولم تطالب حكومة الجنوب بأي تفسير لما حدث، كما ان الاحزاب السودانية الشمالية، لم تتجاوب مع الحدث في مستواه، ولم نر إلا بيانات من ابناء دارفور أنفسهم، وكأن هؤلاء القتلى، لا يمثلون مجموعة من المواطنين السودانيين. على أن من المهم هنا أيضاً أن نتساءل: هل حكومة الاخوان المسلمين، في الخرطوم، برئية من هذه الجريمة النكراء ؟!
قبل أيام، صرح السيد الرئيس عمر البشير، بأن دولاً كانت تؤيد انفصال الجنوب، طلبت منه ان ترجع الوحدة مرة ثانية !! فقال (الآن هناك جهات من الدول الكبرى التى كانت واقفة ومساندة لانفصال الجنوب الان يتصلوا علينا ويقولون لنا انحنا كنا مخطئين من المفترض ان نقف معكم ونساعدكم على الوحدة ويواصل البشير حديثه فيقول اذا اراد الجنوبيون العودة الى الوحدة هذه المرة فعلينا ان نستفتي اهل السودان الشمالي هل هم يريدون الوحدة مع الجنوبيون لانهم اي الجنوبيين هم الذين اختاروا الانفصال )( التغيير 21/4/2014م). ولهذا التصريح هدفان : الهدف الأول هو تأكيد ما ظل الأخوان المسلمون يرددونه، من قبل قيام الإستفتاء، وهو أن الاخوة الجنوبيين، غير مؤهلين لحكم انفسهم .. وأنهم إذا حصلوا على الحكم المستقل، سيتقاتلوا فيما بينهم على السلطة، ويعجزوا عن الإستمرار، وسيضطروا للرجوع للوحدة مرة اخرى. والأخوان المسلمون يؤمنون بهذا الأمر، ليس لعلمهم بعجز الجنوبيين عن حكم انفسهم بصورة مستقرة، وإنما بظنهم انهم قادرون على إزكاء نار الفتنة، وتصعيد الصراع بين الجنوبيين، مستقلين التنافس القبلي، والضعف الطبيعي في نفوس بعض السياسيين. فهم يثقون في قدرتهم على الكيد، أكثر من ثقتهم في فشل الجنوبيين من تلقاء انفسهم. وهذا الإعتقاد بقدرتهم على احاكة المؤامرات، التي تفتت الجنوب، هو الذي جعلهم يوافقون بل ويسعون الى تحقيق الإنفصال. وذلك لأن وجود الجنوبيين كشركاء في السلطة، سيجعلهم شركاء في البترول، ولكن إذا انفصلوا، ونجحت حكومة الاخوان في ان تجعلهم يقتتلوا حتى تتحطم دولتهم، فسيضطرون للعودة الطوعية للوحدة، خاضعين.. وبذلك تحصل حكومة الأخوان المسلمين على كل البترول، بلا مقابل، وبصورة دائمة. اما الهدف الثاني لتصريح السيد الرئيس، فهو ارسال رسالة للمجتمع الدولي، مفادها أن حكومة الجنوب عاجزة عن حماية مواطنيها.. وان حكومة السودان وهي اقرب جيرانها إليها، واكثرهم روابط معها، لا مانع لديها من الإسهام مع القوى الدولية، في بسط الأمن في الجنوب، وقبول اللاجئين والنازحين جراء الحرب. وما دامت حكومة السودان يمكن ان تقدم كل العون، وما دام الجنوب قد كان خالياً من الصراعات القبلية القاتلة حين كان جزءاً من السودان، فمن البديهي ان يقترح العالم الوحدة من جديد، وهو ما تريده حكومة الأخوان المسلمين.
لكل هذا، فإن حكومة المؤتمر الوطني، قد كانت وراء تصعيد الصراع الدائر في الجنوب .. فمنذ ايام الإنفصال الاولى، بدأت تروج لأن حكومة الجنوب تدخلت في أبيي، وساعدت الحركة الشعبية-شمال، وشاركت في ضرب جيش حكومة السودان، على الحدود. خاصة وان سلفاكير قال في كلمته، في خطاب اعلان دولة جنوب السودان في عام 2011م، ” نحن لدينا اصدقاء هناك خلف النهر في جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق وشرق السودان” ، وكانت هذه العبارة مرعبة لحكومة الاخوان المسلمين، فقد ظنوا انه يتحدث عن تخطيط مستقبلي لاحتلال الشمال، بالتعاون مع قوى الهامش، التي ذكرها باعتبار وقوفها معهم، في الماضي. ولقد نفت حكومة الجنوب، كل الإتهامات، المتعلقة بتدخلها في أي شأن شمالي، مراراً، ووصفتها بانها ذريعة من حكومة السودان، لتبدأ حرباً سببها الطمع في البترول. ولأن حكومة المؤتمر الوطني، وجدت شجباً دولياً تراجعت .. ولكنها حين هزمت من الحركات المسلحة في دارفور، عادت تتهم حكومة الجنوب، بمساعدة الحركات المسلحة في دارفور، والحركة الشعبية-شمال، في جبال النوبة وفي النيل الازرق. ولقد رد الامين العام للحركة الشعبية شمال السيد/ ياسر عرمان بتاريخ 3/8/2013 على إتهامات الحكومة، حيث قال أن الحرب في جبال النوبة والنيل الازرق منذ 28 عام قبل انفصال جنوب السودان وفي دارفور منذ ثمانية أعوام أذن كيف كان شكل الدعم في ذاك الوقت ومن أين ومن هم المقاتلون في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق في ذاك الوقت ! ومع ذلك ظلت حكومة الاخوان المسلمين، تروج في صحفها الالكترونية، التي يديرها جهاز الأمن، معلومات كاذبة، عن تحالف بين الحركة الثورية وحكومة جنوب السودان .. وكيف أن حركة العدل والمساواة، تساند حكومة سلفاكير، وتحارب معها المتمردين عليها. وكان كبار المسؤولين في المؤتمر الوطني، يضربون كثيراً على هذا الوتر.. جاء عن ذلك (جددت حركة العدل والمساواة السودانية إتهامها لوزير خارجية المؤتمر الوطني مسؤول الدفاع الشعبي السابق القيادي الامني في حكومة الابادة الجماعية المدعو / علي كرتي بأنه يلعب دور المحرض الاول والاساسي على قتل المدنيين السودانيبن في دولة جنوب السودان بدلا من الدفاع عنهم، وقال جبريل آدم بلال الناطق الرسمي للحركة ان المدعو علي كرتي يتعمد توزيع الاتهامات الجزافية مع سبق الاصرار على إلحاق الضرر بالمدنيين، وانه يعلم تداعياتها على السودانيين في جنوب السودان وانه يريد ان يلحق بهم الاذى، وقال هذا سلوك معهود ومعقود في اذهان عصابة المؤتمر الوطني، واضاف لم تكن هذه هي التصريحات الاولى لهذا الوزير الارعن، فهو من اتهم ظلما وكيدا حركة العدل والمساواة بالقتال في ليبيا مما اسفر عن ذلك قتل المئآت من السودانيين في بصورة خاصة في ليبيا وآلاف الافارقة على البشرة)(الراكوبة 25/4/2014م).
وحين ظهر الخلاف بين سلفاكير رئيس حكومة جنوب السودان، وريك مشار قائد الحركة الشعبية، وتحول الى صراع، سعت حكومة الخرطوم لتصعيد الخلاف، وذلك بمساعدة الطرفين المتنازعين كل على حدة، حتى تنهك الحكومة الفتية، وتصل الى المرحلة التي يريدها له الاخوان المسلمون، منذ ان وافقوا على الاستفتاء. وحين اشتكي سلفاكير من اعتداء حكومة الشمال، على ولاية غرب الاستوائية، ومساعدتها للمتمردين عليه، نفت حكومة الخرطوم ذلك، ولوحت بأن غضبها سببه ايقاف ترحيل النفط عبر اراضيها، وفقدانها رسوم الترحيل !! فتراجع سلفاكير، ووافق على قبول ترحيل البترول عبر الشمال، في مقابل ان توقف حكومة الخرطوم مساعدة الثوار، وكان ذلك بمثابة انقاذ لحكومة الإنقاذ، التي كانت تخنقها الأزمة الاقتصادية، ويصم آذانها هتاف آلاف المتظاهرين.
ولكن حكومة الاخوان المسلمين، صورت مهادنة سلفاكير، وتعاونه معها، على إنه إعتراف، و اعتذار، عن قبول مساعدة حركة العدل والمساواة !! ونشرت ذلك على أوسع نطاق في صحفها الالكترونية .. فقد جاء: (سلّم السودان أدلة إضافية الى حكومة الجنوب تحتوي تسجيلات صوتية تؤكد تورط قيادات بارزة من الجيش الشعبي والقيادة السياسية في دعم الجبهة الثورية وتوفير الدعم اللوجستي والعسكري بصورة نشطة وتوجيه الحرب لصالح الجبهة الثورية. ووصف مصدر مطلع بحكومة الجنوب الأدلة الجديدة بأنها “قوية ودامغة” ، وقال إن سلفاكير لم يقل شيئاً سوى الاعتراف بها متعهداً بعدم تكرارها، وأضاف أن أدلة مبعوثي عمر البشير رئيس الجمهورية الخاصين علي كرتي ومحمد عطا لسلفاكير ميارديت رئيس دولة الجنوب مؤخراً الى جوبا، حددت أسماء المتورطين، بينهم شخصيات مقربة من سلفاكير. وأضاف المصدر أنه وفي حوادث مشابهة سابقة أن محمد عطا عرض من قبل تسجيلات صوتية على سلفاكير مما اضطر الأخير الى الإعتذار سراً ، وأشار إلى أن الأدلة الدامغة أحدثت شرخاً وسط القيادة العسكرية للحركة مما دفع سلفاكير الى التفكير جدياً في إيجاد بدائل لتصدير خام النفط عن طريق ميناء ممبسا الكيني بعد أن تأكد له أن السودان يملك أدلة ومعلومات توضح حجم التورط الرسمي لحكومة الجنوب في دعم الجبهة. وقال مصدر مطلع بالخرطوم إن مواصلة حكومة الجنوب للبحث عن بديل لتصدير النفط عبر موانئ أفريقية أخرى يؤكد رغبتها في مواصلة دعم الجبهة الثورية، وأضاف أن إنشاء خط بديل خيار ليست له أي جدوى اقتصادية ويكلف دولة الجنوب مبالغ طائلة)(سودان.نت 3/6/ 2013م).
ومع أن هذا الحديث لم يصدق من المعارضة، والمواطنين في الشمال، إلا أنه وجد أذناً صاغية لدى حركة ريك مشار، وظنت بالفعل ان حركة العدل والمساواة، بل وربما الحركة الثورية كلها، تعمل مع سلفاكير، للقضاء عليهم. ولهذا حين دخلوا بانتيو منتصرين، لاحظو وجود لتجار من دارفور من قبائل الفور، والزغاوة، والتنجر، وغيرهم .. وما علموا أنهم جاءوا بسبب التضييق عليهم في الشمال، بل ظنوا انهم فصائل متخفية، من الحركات المسلحة، جاءت لتدافع عن حكومة سلفاكير !!
وهكذا نجحت خطة حكومة الاخوان المسلمين، وآتى كيدهم ثماره، في اضعاف حكومة الجنوب، ووضعها على أعتاب التدخل الدولي لحماية المواطنين .. ولهذا جاء تصريح السيد الرئيس عن عودة الوحدة، تكتنفه انتهازية طامعة في بترول الجنوب، بعد تمزيق أهله. وحين يحسب الاخوان المسلمون كافة حساباتهم، يهملون العامل الاكثر حسماً للامور، وهو تدخل الله الذي يجعل كيدهم في تضليل. فهم يدبرون الآن للجنوب وللقضاء على أبناء دارفور، وقد وقعوا فيما نصبوا من شرك الحوار!! فإن هم تراجعوا عنه، فقدوا مصداقيتهم حتى لدى اخوانهم الشعبيين، وإن ساروا فيه، وغرسوا أنفسهم في أرض الحوار، ما توا موتاً طبيعياً.