صلاح شعيب
أمر طبيعي أن تعجز الحركة الإسلامية الحاكمة عن ممارسة سنة التغيير في قادتها الرئاسيين حتى تقدم نموذجا من الإيثار السياسي، إن لم يكن الديني. ولا يحق لمنظري، وكتاب، الحركة أن “يتفاخروا” بأنهم استطاعوا أن يخلفوا تنويرا لقاعدتهم كي تدرك أهمية التداول الخلاق للسلطة القيادية داخل التنظيم، وتدرك أيضا حاجة البلاد إلى دماء جديدة من الرؤساء الذين هم حقا رجال دولة، إن لم يكونوا رجال عصر. والرجال النبلاء مفقودون في مشهد الاسلام السياسي.
وإذ جددت الجماعة الآن للبشير الذي حكم البلاد لربع قرن، لأربع سنين عجاف أخرى، فإن أزمة الإسلاميين الحاكمين ستظل كل يوم متجوهرة في قصر بعد النظرية أكثر من العجز في أدوات التطبيق. والدليل أن الغرس الطيب، دائماً، سينتج ثمارا طيبة، والمقدمات المتعقلة تقود حتما إلى نتائج إيجابية، ولكن العكس تمثل في هذا الحضيض الذي انتجته بذرة الإسلام السياسي السوداني في معظم المجالات التي سيطر عليها.
بكثير من الموضوعية يمكن القول إننا غالبا نحمل مسؤولية خطايا سياسة الحركة الإسلامية، والأحزاب الأخرى، للزعامات، والقادة، أكثر من ردها لأسباب موضوعية “تاريخانية”، على لغة الاكاديميين المدققين. ففكر الحركة الإسلامية الذي يحكمها لنصف قرن، ويحكمنا بالاستبداد لربع قرن، إنما هو نتاج للسياق الثقافي في المحيط الإقليمي الذي يرفض التجديد الديني الذي يتوائم مع حكم الوقت. والترابي الذي غرس شجرة الإسلام السياسي في جانبها الوصولي الانتهازي بمقاييس الإضافة والتجديد هو رجل موت، وليس رجل حياة، ذلك الذي يرزق معرفيا بالحكمة، والبصارة، والخلق القويم.
إنه برغم بعده من السلطة ما يزال يحكمنا من المقابر عبر تلاميذه، إذ امتلأت ذهنيتهم آنذاك بتفاسير قديمة للدين تتناقض مع الواقع، ومصالح الناس، واستقرار، وسلام، وتقدم، وطنهم. لقد نهض الشيخ لتسنم مواقع السياسة، والعمل الديني، دون أن يكون مقداما في الاستفادة من أكاديمياته في السوربون، ومن أجوائها، ومن أجواء التنوير في أوروبا. كان ينبغي أن يفعل ذلك من أجل تخصيب القانون، والفكر الديني، في محيطنا بالتحديث العلمي الذي حصل عليه، وإلا ما فائدة ذهابه إلى هناك أصلا؟. ولكن يبدو أنه دخل التاريخ كميكافيلي مجدد. فهو تجاوز مشقة التحديث الفكري الخلاق، واستمرأ الوصول بأقصر الطرق ميكافيلية للقبض على جسد، وروح، السلطة. فعل هذا دون أن يدرك أهمية تثقفه بالحاجيات المحلية الملحة لبلاده المعقدة إثنيا، وتاريخيا، ومذهبيا، ولغويا، ودينيا، واجتماعيا. ولعلنا ندرك فوق هذا أن هذه البلاد المتعددة في معطياتها تلك محاطة بجوار يؤثر سلبا، وإيجابا، من الزوايا الثقافية، والأمنية، والجيوبوليتيكية. كل الامكانيات للاستلهام من هذه المعطيات تركها خريج السوربون جانبا، وأهمه السعي إلى السيطرة علي السلطة بأي ثمن. ولذلك كان لا بد للحواريين أن يكونوا غرسا مضرا. والبشير ليس استثناء.
إن اختياره – او بالأحرى اختيار نفسه – مرشحا للحزب الحاكم في انتخاباته الرئاسية سبقته إجراءات شكلانية توحي للعامة بوجود ديموقراطية داخل التنظيم الإسلاموي. ولكن المشكلة أن الإسلام السياسي عموما لا يأخذ من الديموقراطية إلا شكلها. ولا يبحث عنها إلا حين يفتقدها، وحين يجد السلطة بواسطة الشمولية، أو الديموقراطية، يسيئ استخدامها ضد خصومه. وأحيانا يتجاوز التنظيم في فرعه السوداني الشكل التخريجي الديموقراطي ليؤكد ثيوقراطيته، وديكتاتوريته نحو نفسه. والمثال الحي لذلك هو حل ذاك البرلمان الذي أعقبته المفاصلة. وكان ذلك القرار ضرورة ضمن ضرورات اكتمال نمو التجربة الاسلاموية القبيحة في البلاد ليتضح للناس انقلابها هي نفسها على ما عدته ديموقراطية لممارستها. وليتضح للناس أيضاً أن الدين عند الإسلاميين هو المال، والقمع، والفساد، والتزوير، والاستمتاع بالزيجات، وسفك الدماء لا غير.
والذين يتجادلون الآن حول دستورية انتخاب البشير من عدمها إنما ينسون أن الموضوع الأساس لا ينبغي أن يسوق، ويسوغ لنا هكذا، وكأن هناك التزامات دستورية بادية للعيان داخل منظومة العمل الإسلاموي، من جهة، ومن الجهة الأخرى داخل سلطتهم المتسيدة بقمع المواطنين الضعفاء، والمساكين الذين تمنى رسول الإسلام أن يحشر معهم. فتجربة الإسلام السياسي في شمولها لا تقوم على هدى أخلاقي في المقام الأول برغم شكلانية ارتباطها بالدين. ولكنها تجربة متجذرة في الأصولية الفقيرة بطبيعتها إلى التطور، والاستنفاع من جماع الأفكار الإنسانية التي لا تتناقض أصلا مع الدين. فليس هناك مأثرة للأصوليات الإسلامية المتطرفة في اتخاذ أشكال مبدعة للتناوب في ممارسة السلطة. وهذا الغياب في الفصل بين المؤسسات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وسلطة الرأي العام، هو نتيجة للاعتماد على الفكر السلفي بشكل عام، والذي خدم زمانه، ولكنه يتمدد في نسخته الإخوانية الان إرهابيا، واستبداديا، ونازيا.
فالمؤسس للمذهبية الدينية السلفية المعاصرة، مثلا، هو الذي يملك الكلمة الأخيرة. ودوننا التاريخ الإسلامي، والتجارب الحية من حولنا، ومضافا لهذا توطن العشائرية في تفكير النخب القائدة، والمنقادة، سلفيا. ولهذا السبب يبقى التداول السلمي للسلطة داخل الأوطان المسلمة فقيرا الي التقعيد المنهجي المستلهم من تجارب المجتمعات المتقدمة، وفقيرا إلى رضا المجتمع، وفقيرا أيضا الي المراجعة الصارمة، والحرة، والعميقة. بل يغدو المجتمع في واقع كهذا محكوما بالأصوليات المتنوعة المشارب، وتابعا إلى سلطة أهل الحل، والعقد. وهؤلاء هم الذين يجتمعون في أركان قصية، كما يحصل في مؤتمرات الحركة الإسلامية ليفرضوا على قاعدتها بهيكليات ديموقراطية مغشوشة القرارات العليا. فمن أين، إذن، لهذه المجتمعات الطاقات المعرفية، والسلطوية، والأخلاقية، في فرض أنظمة قادرة على تجديد قياداتها، أو ضبط المسارات الهوج للزعماء، أو حتى التجرؤ على محاسبتهم.
إن علي المنتمين للحركة الاسلامية الحاكمة أن يخجلوا من أنفسهم إن لم يدسوها في الرمال، ضعفا في الحيلة، ولو صدق الواحد منهم لمرة لرأى في رئاسة البشير بضعفه، وجهله، وعنصريته، وكذبه، وجرائمه، نموذجا للنفاق السياسي المتدين شكليا في انصع صوره.
بكل ما اقترفته رئاسات البشير من قتل، وفساد، وتهجير الملايين من مواطنيه، وتشريدهم داخليا، وفصل الجنوب، وغياب العدالة، وتدمير الروابط الاجتماعية، وغيرها، فإن اسلاميي الحكم بما فيهم من علماء سلطان، وجامعات، لم يروا فيه شيئا مهينا سوى دعم فكرته في الحكم علي أنقاض بلد ظل واقعه مهددا بسوء المآل.
السؤال هو كيف لمتعقلن، إن وجد، من الإسلاميين بمختلف مشاربهم أن يقبل تزوير البشير، وغشه الواضح لرعيته في إجراءات انتخاباته المقبلة، والتي هي مزورا سلفا، وهل ما يضخه من كذب عيانا بيانا يجافي ما تواثق عليه الإسلاميون قبلا لتثبيت ما سموه دعائم الحكم الرشيد عبر تلك المقدمات النظرية؟. الحقيقة أنه ما كان للحركة الإسلامية إلا أن تنتج أمثال البشير، وأعوانه الذين يفتقدون الاستقامة الروحية، والأخلاقية، ورجاحة التفكير السياسي. والسؤال الثاني لماذا يصمت الإصلاحيون الإسلاميون – كما قدموا أنفسهم ـ دون نقد فكرة الإسلام السياسي من جذورها عوضا عن نقد شخوص التجربة؟. الإجابة ببساطة هي أنهم لا يرون عيبا في الفكرة، ويتصورون أن ما يصدر من البشير لا علاقة له بمضمون المشروع الإسلاموي الذي يمكن أن يطبق بشكل آخر إذا لاحت أمامهم الفرصة.
التاريخ وحده هو الذي سيقنع الإسلامويين الحاكمين أن نموذج البشير سيكون مطابقا لتجارب الطغاة الآفلين ان عاجلا أم آجلا. وما هذه المسرحيات التي نشهدها حتى يؤكدوا لنا أنهم يديرون دولة وفق ما اتفقوا عليها من دساتير، وقوانين، ليست سوى غطاء من تحته ينهبون البلد بعد أن أحالوها إلى غنيمة حرب. ولذلك حق للبشير أن يختار الذين يشرعون له قوانين الانتخاب، ويجمعون له المال، ثم يصنع من الرجال من يخرج له حبكاته الديموقراطية عبر الحركة الإسلامية، وعبر الدولة.