كمال الجزولي
سواء ثبت أن طلاب دارفور الذين عُثر على جثثهم، نهار الجُّمعة 7 ديسمبر 2012م، طافية في ترعة بالقرب من مباني إدارة جامعة الجَّزيرة بوسط السُّودان، قد ماتوا تحت تعذيب ما، قبل أن يُلقي بجثثهم هناك، حسب رابطة الطلاب، أو أنهم قد أُغرقوا بأثر مطاردتهم، ضرباً ودفعاً، إلى جوف تلك التُّرعة، حسب هيومان رايتس ووتش، فالنَّتيجة، في النِّهاية، واحدة، فحواها أنهم قُتلوا، وذلك مقابل التَّفسير الرَّسمي الذي يوعز بأنهم “غَرقوا” من تلقاء أنفسهم، مما يُستشفُّ من تباطؤ السُّلطات، وجرجرتها لأقدامها، وعدم إبدائها الرَّغبة في تقصِّي الحقائق بالجِّديَّة والسُّرعة المطلوبتين، من جهة، وترويجها الفوري الواسع، مع حجب التَّفاصيل، من جهة أخرى، لموجز تقرير التَّشريح الصَّادر من غير ذي اختصاص بالطب الشَّرعي، لانعدامه في السُّودان، بأن الموت ناجم عن اسفكسيا الغرق .. فقط لا غير!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
الحادثة التي نتج عنها، أيضاً، فقدان طالبين آخرين لا يُعرف إن كانا فارقا الحياة، بذات الأسلوب، أم أنهما أُخفيا قسراً، وقعت على خلفيَّة اتِّهام أولئك الطلاب بتنظيم اعتصام بمباني الجَّامعة، في سياق نزاعهم مع إدارتها المدعومة من اتِّحاد الطلاب الحكومي، بسبب رفضها إعفاءهم من رسوم الدِّراسة، حتف أنف اتِّفاق أبوجا (مايو 2006م)، وتوجيه رئيس الجُّمهورية الصَّادر بموجبه.
ورغم أن كثيرين استبعدوا “العنصريَّة” كباعث على الحادثة، مستندين في ذلك إلى وقوع الاعتداء على طلاب دارفور، عادة، ضمن سلسلة اعتداءات قوى الأمن على طلاب عموم أهل السُّودان دون فرز، الأمر الذي ما انفكت تشهده، طوال العقدين الماضيين، شتَّى الجَّامعات، في مختلف المناسبات، إلا أن وقوع أغلب الضَّحايا، في أغلب المرَّات، من طلاب هذا الإقليم بالذَّات، لمِمَّا يمنح هذه التَّعبيرات منطقها المقبول، لدى آخرين كثر، بنفس القدر، للأسف الشَّديد!
الشَّاهد أن السُّلطات، كما في المرَّات السَّابقة، لم تعر حادثة الجَّزيرة ما تستحق من اهتمام فوري، فبقيت تتباطأ، وتتثاءب، مكتفية باجتماعات داخليَّة، تارة لمجلس عمداء الجَّامعة، وتارة أخرى لمديرها مع والي الولاية ومسئولي الأمن، دون أن يرشح من تلك الاجتماعات شئ ذو أثر، عدا ما تمخَّضت عنه من تعليق للدِّراسة، كالعادة، في كل المستويات، وفي جميع كليَّات الجَّامعة، ومعاهدها، ومراكزها، بينما الغضب يتحشَّد في النُّفوس، ويتكاثف خلف الأضالع، ويسري، ساعة من بعد ساعة، كما النار في الهشيم، إلى شوارع المدن الأخرى، دون أن تسارع الحكومة لإجراء تحقيق نزيه، أو لإصدار بيان يُشفي الصُّدور، ويُسَكِّن البلبال، ويُطمْئِن القلوب إلى أن الحقوق محفوظة، وأن ميزان العدل منصوب، وأن سيادة حكم القانون مرعيَّة، بل دون أن يهبَّ مسئول واحد ولو لإلقاء نظرة على الجَّثامين بالمشرحة، أو لمجرَّد أداء واجب العزاء للأسر المكلومة!
أخيراً، وبعد طول انتظار مضجر، ثقيل على ذوي الضَّحايا وأصدقائهم، وعلى الآلاف من زملائهم، فضلاً عن الملايين من الجَّماهير المصدومة بمصرعهم على هذا النحو، قالت الحكومة إن نتيجة التَّشريح تفيد بأن موتهم الجَّماعي ذاك، في عقابيل مطاردتهم العنيفة من جانب قوى الأمن، قد وقع بمحض “الغرق”!
هكذا أضحى الأمر غاية في الغرابة؛ فإمَّا أن طلاب دارفور هؤلاء قد “انتحروا”، أو أنهم تركوا قضيَّتهم، فجأة، وتوجَّهوا، لممارسة “هواية السِّباحة” في تلك التُّرعة التي لا يتجاوز عمقها متراً واحداً، ولا يزيد طولها عن ثلاثة أمتار، فغرقوا، كونهم أبناء جغرافيا لا تعرف رياضة كهذي!
عند ذاك، وتحت وطأة إحساس ثقيل، ليس بالظلم، فحسب، وإنما بأن العقول قد جرى البصق عليها بمثل هذه التَّفاسير، ضغثاً على إبالة، لم يعُد في قوس الصَّبر منزع، فانفجرت مظاهرات الطلاب، وانضمَّت إليها الجماهير الشَّعبيَّة في مختلف مدن البلاد، تفرغ شحنات غبنها، وتعبِّر عن غضبتها العارمة، حدَّ المطالبة بإسقاط النِّظام! في هذا الإطار، ورغم أن الخرطوم، التي تُولد فيها الأنظمة وتموت، كانت قد شهدت، خلال يونيو ويوليو الماضيين وحدهما، زهاء المئة والثَّمانين مظاهرة، باعتراف وزير الدَّاخليَّة نفسه (سودان تريبيون؛ 17 أكتوبر 2012م)، إلا أن المظاهرات التي انفجرت يومي الحادي عشر والثاني عشر من ديسمبر فاقتها أجمعها كمَّاً وكيفاً. أمَّا إعلان النَّائب العام عن تكوين لجنة للتَّحقيق في الحادثة، في اليوم الثَّالث لوقوعها، فلم يزد نار الغضب إلا لهيباً، إذ لم يحسَّ أحدٌ بأن تكوين هذه اللجنة استثناء من نهج المطل الذي درجت عليه الحكومة في مثل هذه الحالات، أو أن مآلها سيكون أفضل من مآلات سابقاتها اللائي انطمرن تحت رمال التَّجاهل والنسيان!
(2)
تزامن مصرع أولئك الطلاب الدَّارفوريين مع جملة وقائع غير سعيدة بالنِّسبة للحكومة، في كلا المستويين الاقتصادي والسِّياسي. ففي المستوى الأوَّل، جرت الحادثة، مثلاً، بالتَّزامن مع تلقِّي البرلمان، من وزارة الماليَّة، ميزانيَّةً للعام الجَّديد أقلّ ما يمكن أن توصف به هو أنها .. كارثيَّة! إذ على حين كانت الجَّامعة، ومن ورائها وزارة التَّعليم العالي، ومجمل سياسات النِّظام الاقتصاديَّة والخدميَّة الاجتماعيَّة، تفرض، بكلِّ غلظة كبد، مبلغ 1000 جنيه، بالتَّمام والكمال، كرسم قبول على طلاب دارفور الجُّدد، أي، بالعربي الفصيح، على ذويهم الرَّازحين في معسكرات النُّزوح واللجوء، يفترشون الأرض، ويلتحفون السَّماء، وينتظرون المنظمات الأجنبيَّة تغيثهم بالطعام، وتصدُّ عنهم وباء الحمَّى الصَّفراء الذي ما ينفكُّ يفترسهم، وهم لا يملكون من سبل المعيشة أو العلاج شروى نقير، خصَّصت الميزانيَّة الجَّديدة، بكلِّ حُمرة عين، مبلغ 8,593 مليار جنيه للأمن والدِّفاع والدَّاخليَّة، وحوالي مليار ونصف للقطاع السَّيادي، بينما لم تخصِّص سوى نصف مليار تقريباً للصَّحَّة، ومثله للتَّعليم! بعبارة أخرى فإن جملة ميزانية الدِّفاع والأمن والقطاع السَّيادي تبلغ أكثر من 11 مليار جنيه، بينما لا تتجاوز ميزانية الصَّحَّة والتَّعليم ملياراً واحداً! ما يعنى أن الصَّرف على أمن الدَّولة ودفاعها وقطاعها السَّيادي يفوق الصَّرف على صحَّة المواطنين وتعليمهم بنسبة تزيد على 1000% (!) ثم إن وزارة الماليَّة توعَّدت، فوق ذلك، بزيادة الرُّسوم في جميع الوحدات الخدميَّة بحُجَّة تحقيق التَّناسب بين تلك الرُّسوم وبين كلفة الخدمات (حريات؛ 9 ديسمبر 2012م). فإذا أضفنا ما كشف عنه تقرير المراجع العام من بلوغ حجم الاعتداء على المال العام خلال السَّنة الجَّارية 2.19 مليون جنيه، بنسبة زيادة 381% عن السَّنة الماضية (آخر لحظة؛ 22 نوفمبر 2012م)؛ وما أظهرته البيانات الرَّسميَّة من ارتفاع معدَّل التَّضخُّم إلى 46.5% في نوفمبر، مقارنة بـ 45.3% في أكتوبر (سكاي نيوز؛ 9 ديسمبر 2012م)؛ فضلاً عن شيوع الخوف من تعذُّر استئناف صادرات نفط الجَّنوب عبر السُّودان، حسب اتِّفاق الطرفين بأديس أبابا أواخر سبتمبر الماضي، بسبب الخلاف على طريقة التَّنفيذ (رويترز؛ 12 ديسمبر 2012م)، يضحى مبرراً تماماً مواصلة الجُّنيه السُّوداني هبوطه إلى أقلِّ من النِّصف أمام الدُّولار في السُّوق السَّوداء، كأثر لانفصال الجَّنوب، وبلوغه، في الوقت الرَّاهن، أدنى مستوياته على الإطلاق.
(3)
أمَّا على الصَّعيد السِّياسي، فقد تزامنت الحادثة، على سبيل المثال أيضاً، مع أقوى ضربة تلقتها وثيقة الدَّوحة لسلام دارفور، منذ إبرامها، بوساطة أفريقيَّة دوليَّة قطريَّة، في 14 يوليو 2011م؛ وهي اتِّفاق الحكومة مع “حركة العدالة والحريَّة”، بحيث أضحت هذه الحركة هي حليفة الحكومة الوحيدة في دارفور، وأضحى رئيسها التيجاني السِّيسي رئيساً للسُّلطة الانتقاليَّة في الإقليم، خلفاً لمني أركو الذي عاد إلى التَّمرُّد عام 2010م، في ملابسات انهيار اتِّفاق أبوجا الذي سبق أن أبرمه، هو أيضاً، مع الحكومة، في 4 مايو 2006م.
تمثَّلت تلك الضَّربة في اتِّهام السِّيسي لـ “حليفته” الحكومة، ليس فقط بمهاجمة، وقتل، وأسر عناصر من قواته على أبواب الفاشر، مطالع ديسمبر الجَّاري، بل واتِّهامها، أيضاً، بالكذب في شأن ذلك الهجوم، بقولها إنها إنما ضربت قوَّات تتبع للجَّبهة الثَّورية المعارضة! ومن جانبه أضاف بحر أبو قردة، الأمين العام لحركة السِّيسي، مطالبته بالتَّحقيق في الحادث، وتقديم الجُّناة للعدالة، متوعِّداً، في حال عدم الاستجابة، بأن “كلَّ الخيارات مفتوحة!” (آخر لحظة؛ 9 ديسمبر 2012م). هكذا بات اتفاق الدَّوحة في كفِّ عفريت إن لم يتم تدارك الأمر!
بإزاء هذه الأجواء الملغَّمة، لا بُدَّ من تقرير أن السِّيسي، ومن قبله مني أركو، قد ارتكبا خطأ جسيماً، بالتحاقهما بالنِّظام تباعاً، مديرين ظهريهما للحركات الأخرى التي ربما فاقتهما عدداً، وعُدَّة، وعتاداً، وبالتالي نفوذاً على نطاق الإقليم، مما أتاح لهذه الحركات تمريغ سمعتهما في الرغام، خصوصاً وسط النَّازحين المحتشدين بالغبن في معسكرات النُّزوح، وأبنائهم المتوزعين على شتَّى مؤسَّسات البلاد التَّعليميَّة. فالحكومة، مثلاً، كانت قد عبَّرت، علناً، كما لاحظنا ضمن مقالتنا بعنوان “أبْوَجَة الذاكرة” (الحوار المتمدن؛ 31 مايو 2011م)، عن تفضيلها التَّفاوض مع “حركة السِّيسي” بالذَّات، دون “حركة خليل” (الأحداث؛ 27 مايو 2010م)، الأمر الذي يسَّر، دون شك، تشويه صورة “حركة السِّيسي”، مثلما أن التقارب الذي وقع، سابقاً، بين الحكومة و”حركة مني أركو”، قد أساء إلى الأخيرة في ذهنيَّة المجتمعات المحليَّة في الإقليم، بخصائصها البدويَّة الغالبة، وامتداداتها الطبيعيَّة والثَّقافيَّة في أوساط طلاب دارفور!
وفي مقالتنا “عن أبوجا بمناسبة الدَّوحة”، المنشورة بموقع (الجَّزيرة نت؛ أواخر يوليو 2011م)، عُدنا لنلاحظ أن الحكومة التي ترفض تأسيس منبر داخلي لمعالجة الأزمة بمشاركة جميع القوى الوطنيَّة، دون فرز، معوِّلة على مواصلة لعبتها الخطرة في مناهضة القوى الدَّوليَّة في العلن، ومصانعتها في الخفاء، لا تستطيع أن تضمن دعم هذه القوى لمواقفها في كلِّ مرَّة، حيث أن أمريكا، مثلاً، قد انقلبت، بقرون استشعار مشهودة، توارب لنفسها، أمام الشُّعوب، باب مخارجة خلفي، بمطالبتها الحكومة، في نفس يوم توقيع الاتفاق مع حركة السِّيسي، “بتقبُّل مفاوضات إضافيَّة ليتسنَّى التوصُّل لاتِّفاق سلام شامل مع جميع الحركات” (وكالات، 14 يوليو 2011م)؛ ثم ها هي تعود، الآن، مجدَّداً، وبذات قرون الاستشعار، لترمي باللائمة على الحكومة، في ما يتَّصل بفشل الاتِّفاق المبرم مع السِّيسي، كونها “لم تنفِّذ منه شيئا يذكر!” (رويترز؛ 12 ديسمبر 2012م)، وهذا، أيضاً، مما يلقي بظلال سالبة على صورتي الحكومة و”حركة السِّيسي”، معاً، في ذهنيَّة أهل الإقليم، وطلابه بالأخص.
(4)
لئن كان الكثيرون، كما سبق وأشرنا، يستبعدون شبهة “العنصريَّة”، بمعناها الدَّقيق، عن حادثة ترعة جامعة الجَّزيرة، فلن يجرؤ إلا مكابر ذو إحنة وغرض، على إنكار نسبة هذه الحادثة، أولاً، إلى الظلامات الاقتصاديَّة ـ السِّياسيَّة ـ الاجتماعيَّة التي ما تنفكُّ تعصف بدارفور، وأهل دارفور، وطلاب دارفور، تماماً كعصفها بأهل وطلاب جنوب كردفان والنِّيل الأزرق، أضعاف عصفها بغالبيَّة أهل السُّودان، نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً، طلاباً وغيرهم؛ مثلما لن يستطيع إلا مكابر إنكار نسبتها، ثانياً، إلى الأزمة الشَّاملة التي ما تنفكُّ تعصف بجبهة الحكم، والتي تتبدَّى، من جهة، ودونما حاجة إلى فانوس ديوجينس، في انشغال هذه الجَّبهة التَّام بصراعاتها الدَّاخليَّة، وعدم قدرتها على الرُّؤية أبعد من أرنبة أنفها، إلى حدِّ عجزها، نهائيَّاً، عن اجتراح أيِّ حلول لمشكلات البلاد، من جهة، وفي انصراف جماهير المحكومين، بالكامل، من جهة أخرى، عن توقُّع أيِّ حلٍّ يمكن أن يأتي من قِبَل جبهة الحكم هذه، مهما بذلت من وعود! فهلا ارتفعت المعارضة إلى مستوى الإدراك العميق لهذه الحقيقة، ووضعت يدها على آليَّات التَّعاطي معها .. قبل فوات الأوان؟!