ما اشبه لهاي اليوم ، ببلدة العدل (عشيء. ) في زمانها .
بقلم منى اركو مناوى
من قصص الحكماء التي كنا نسمع من ابائنا وأجدادنا وهي من الحِكم المقتبسة من واقع الحال كان في قديم الزمان هناك عشيرة من عشائر الزغاوة تسمي (اشيراء ) أو (عشيراء) نسبة إلى أصولها التاريخية التي تعود للبلدة (اشي ) أو (عشي) وهي حاكورة و مسقط رأس هذه العشيرة المتفرعة من قبيلة الزغاوة، وهى ممتدة ومتشعبة فى كل من السودان وتشاد. .
رجال هذه العشيرة، مشهورون بالحكمة و القول الفصل على مر التاريخ ، لذا كان الناس يترددون إليها من كل فج عميق بحثا للعدل حينما ينعدم عندهم وبحثا للصلح حينما يشتد و يحتدم الخلاف فيما بينهم .
فأصبحت هذه العشيرة و المنطقة التي تقطن فيها مضرب للامثال مثل الصدق ، الأمانة ، الفصل ، الحسم والعدل فكانت بمثابة ( لاهاى اليوم ).
من بين القصص التي شاعت بين الناس في إبراز العدل و الفصل ،هى قصة وقعت بين رجلٍ غنىٍ ومتجبرٍ وطفلٍ فقيرٍ وذكىٍ .
فى ذات يومٍ أفتري الرجل بكثرة ما يملك من المال متحديا ومهددا أهل القرية التى يقطن فيها، فعرض لهم مائة بقرة، تعهد بدفعها لمن يخرج من بيته عاريا دون غطاء الي بركة بجوار القرية ويقضى فيها ليلة كاملة وهو غاطس فى ماء البركة دون أن يلحقه الاذى نتيجة البرد.و كان الفصل شتاء و البرد قارص و البركة واسعة في نقعة لم يكن فيها غطاء نباتي، ورياح الشتاء القارص تهب بشدة من كل صوب وحدب.
تحاشي جميع أهل القرية ذلك العرض السخى، خوفا من البرد الذي لا يمكن احتماله و ترهبوا من هذا العرض المتجبر. وكان في القرية طفل لم يتجاوز عمره عشر سنوات و كان يسكن مع جدته المسنة الفقيرة فتحدى وقبل العرض بالرغم من أن الجدة ترفض الأمر ، إلا أن الصبي مع صغر سنه كان فطناً فتمكن من إقناع الحبوبة بالعرض و طمأنتها فقبلت بذلك.
والسر من وراء قبول الحبوبة و طمأنتها ، هو أن الماء دائماً يظل دافئاً فى أعماقه مهما كساه البرد على سطحه فالغاطس لا يشعر بالبرد إلا إذا خرج منه .فهذا السر يجهله الغني المفتري .
عند المغرب خلع الصبي ثيابه في مشهد طغى عليه دهشة أهل القرية ونزل في عمق البركة و كانت جدته تجلس علي مسافة من البركة وهي توقد نارا للتدفئة فى تلك الليلة الشاتية وتراقب حفيدها طوال الليل خوفا من الوحوش المفترسة.
في الصباح خرج الطفل من البركة سالما ومعافى دون أن يصاب بشيء، ففرح أهل القرية بهذا النجاح الذي أحرزه ليجتاز الفقر ويتحول الى أحد أغنياء القرية بمال الذي تعهد به الرجل المخادع.
لكن سرعان ما تحول الفرح إلى حيرة بعد أن نكث المخادع وعده متعللا بأن جدته كانت تجلس علي النار بجوار البركة ، فهذه النار هي من أنقذته وبهذا الصبي غير مستوف للشروط التي وضعها فبالتالي غير مؤهل أن يأخذ البقر .
كل سبل الرجاء و جوديات المنطقة قد باءت بالفشل فى إقناع الرجل بسداد ما تعهد به من الأبقار، مما اضطر الناس تحويل القضية إلى لاهاي أي (عشي). وبالتحديد الى الشخص الذي يؤدي دور القاضي العام آنذاك .
تحركت القافلة تضم المظلوم ، الظالم ، الشيوخ والشهود الي ان وصلت المقصد ولم يجدوا الرجل الحكيم (القاضي)الذي كان في سفر خارج البلدة .و كان في البيت ابنه الذى لم يتجاوز عمره خمسة عشر سنة فرحب بهم و خصص لهم مكان للنزول ووضع أمتعتهم فى المكان المخصص للضيوف وأخبرهم بغياب والده .
عندما علم الضيوف بغياب الرجل الذي قصدوا إليه قرروا العودة فورا إلى ديارهم ليعودوا إليه في وقت لاحق بعد عودته ولكن سرعان ما سألهم الشاب عن سبب زيارتهم فأخبروه بتفاصيلها وعندما علم الشاب بحيثيات القضية ، فأكرمهم بخروف وطلب منهم مهلة حتى يُطبخ الحروف.
قام الشاب بوضع اللحم على رأس أطول شجرة فيها لا يقل طولها عن خمسة عشر إلى عشرين قدم وأوقد نارا تحت الشجرة فجلس يؤانسهم من الصباح الى المساء و لم يأت باللحم وطال الانتظار .
فمل الضيوف وهاج بعضهم من بينهم الرجل المخادع بدأوا يقذفونه بأسئلة مترادفة ، لماذا تسبب في تأخيرنا هكذا و نحن نقصد ديارا بعيدة ؟ و أين اللحم الذي وعدتنا بها ؟
فأشار الشاب الى رأس الشجرة وقال تلك هى اللحم المخصصة لكم و أشار الي النار وقال فهذه النار تحت الشجرة اوقدتها لاشوي لكم فأرجو الصبر .
بادر الرجل الغني المخادع بسؤال أحمق ، يا ولد يا ابله كيف ينضج اللحم على رأس الشجرة والنار تبعد مسافة أمتار تحت الشجرة ؟
فأجاب الشاب ، يا عمي اذا كانت النار التي أوقدت على مسافة من النهر أنقذت الصبي في داخل البركة فكيف لا تشوي النار التي لا تفصل بينها و اللحم سوى بضع أمتار ؟ هنا تراجع الرجل المخادع متسائلا كيف أقابل والد هذا الشاب إن كان هذا ابنه الصغير يفكر هكذا و انا افتقر إلى الحجة ؟
فأدرك أنه محاصر بسيوف العدالة من كل جهة فأذعن الرجل وقام بتسليم مال الصبي وحُسم الأمر بهكذا بتحرير عقل الرجل من سياج الجهل و الطمع الذى كان يحيط به .
ما أشبه اليوم بالامس؟
كل من يتابع تصريحات البشير التي يتوعد بها المدنيين الذين لا يتعاونون مع القوة المسلحة فى اعتقاده، وهي أحزاب لها دورها وقانونيتها و مجال ممارسة نشاطها السياسي فى الخرطوم و السودان كله ،ومن بينها المجتمع المدني و لم يسلم حتى الأطفال والطلاب الذين ولدوا في ظل حكمه البائس من التهديد .
السؤال الذي يوجه لسيادة المشير، هو كم قطعة ذخيرة يمتلكها هؤلاء المدنيين العزل باحزابهم ومنظماتهم المدنية ، ولا نستثنى الطلاب والأطفال فقد شملهم التهديد ايضاً؟
وفى المقابل سؤال آخر يطرح نفسه، كم نوع من المليشيات يمتلكها حزب البشير هل سأل نفسه يوماً؟
يا الراجل ، انت لا تقود حزباً سياسياً مؤهلاً و لا دولة القانون إنما مجرد مسؤول لحزب عسكري مسلح تحت امرته أكثر من عشرين نوع من المليشيات بإقرارك انت في أم روابة عندما لفظت بجملة واحدة بعضم لسانك ( انا عندي رجال )
لم تقل السودان عنده رجال ولم تقل مؤسسة القوات المسلحة عندها رجال و لكنك عندك رجال!!!!! يا لها من عقلية ! عقلية عشعشت فيها لغة الإقطاعيين والسادة والسخرة.
الكل علي يقين أن المؤتمر الوطني هو أكبر حزب مسلح فى أفريقيا أن لم يكن عالميا فكيف يتهم الأحزاب المدنية و المنظمات الطلابية بحيازة السلاح وهو يدرك تماماً كلما يقوله كذب وهراء ؟
حتي لا نهدر وقتنا في الجدال و نضيع معه البلاد ونحن قد وصلنا حد المرونة التي لا تقبل الشد أكثر مما يجب بعد أن غاب عنا العدل و الحكمة، وصدق المثل الشعبى ، (الاستحالة بمكان أن يفلح السكين بنظافة مقبضه دون الاستعانة بأخيه )، الواضح هذا هو حالنا اليوم و معركتنا تتدحرج سياسية تارة و قانونية تارة أخرى.
و الآن غبار معركة البلاغات علي أعضاء نداء السودان المدنيين وهم ايضا يحملون في ذاكرتهم القرارات الأممية وأوامر القبض الدولية .
فتعقدت الحلول بهذه الجنايات بعد أن اوصد النظام كل منافذ التهوية ولم تبق سوى بوابة لاهاى التي تشكل أكثر حيادية في القضية ويمكن اللجوء إليها على غرار بلدة (اشى) التي تميزت بالحكمة ، العدل و الفيصل بين الحق و الباطل ذلك بعد الإقرار بالعجز والفشل وإغلاق فرص الأمل بخطاب البشير أمام برلمانه.
منى اركو مناوى
4 أبريل 2018