كتيب الأمام الصادق المهدي بلاغ الثورة الناعمة

بسم الله الرحمن الرحيم
بلاغ الثورة الناعمة
الإمام الصادق المهدي
1/3/2011م

ثورة تونس التي أشعلها استقتال محمد البوعزيزي في سيدي أبوزيد وثورة مصر التي مهد لها اغتيال خالد سعيد في الإسكندرية فجرتها طلائع شبابية استغلت ثغرة في جدار الاستبداد واستخدمت وسائل الهواتف النقالة، والبريد الإلكتروني والمنتديات الاجتماعية في الإنترنت كالفيس بوك والتويتر ومنابر النقاش، والمحطات الفضائية، للتنسيق والتضامن والتعبئة بصورة شدت إليها قواعد شعبية ضخمة، فأفلحت بوسائل القوة الناعمة في الإطاحة بالطغيان، وبالعزم والإقدام حققت فتحاً من شأنه أن يسحب بلديهما من نظام حكم استبدادي متخلف جعل بلديهما وأغلبية البلدان العربية في حالة غيبوبة تاريخية؛ إلى زخم التاريخ والمشاركة في مسيرته الصاعدة. كانتا فتح تحرير لشعبيهما ومصدر إشعاع لري شجرة الحرية في كل مكان.

بعض الناس من باب الإعجاب بما حدث يركزون على تفرده وفجائيته، وآخرون يوافقونهم لا إعجاباً ولكن تقليلا من شأنه واستعدادا لمحو آثاره. ولكن الحقيقة أن لما حدث جذوراً تؤصل له. كما أنه دليل على أن العرب ليسوا استثناءً من سنن التاريخ الاجتماعية التي كان ابن خلدون من أوائل الذين اكتشفوها في مقدمته الشهيرة.

1.     الاحتقان السابق للانفجار:

في عام 2002م صدر تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن التنمية البشرية في العالم العربي. جاء فيه أن البلدان العربية قد حققت نمواً اقتصادياً بمعنى زيادة كبيرة في الدخل القومي ونمواً في التعليم. ولكن بمقياس التنمية البشرية التي تشترط الحوكمة الرشيدة فإن العالم العربي متخلف بصورة ملحوظة عن بقية أنحاء العالم.

هذا العجز في مجال الحوكمة الرشيدة التي تقوم على أساس: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون حرك كثيراً من المفكرين والقوى السياسية والمدنية في العالم العربي لعقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات لبحث الظاهرة والتخطيط للتعامل معها.

وفي عام 2004م عقد مؤتمر هام في الموضوع في الإسكندرية صدر عنه نداء الاستقلال الثاني باعتبار أن البلدان العربية إنما تعاني من احتلال داخلي لخصته عبارة محمود درويش: “كل الأرض العربية محتلة. إلا الأرض المحتلة”. نداء الاستقلال الثاني هذا عبر عن التطلع للحرية والتحول الديمقراطي المطلوب في العالم العربي.

وفي عام 2006م قرر نادي مدريد وهو منبر يضم سبعين من رؤساء الدول والحكومات السابقين دراسة حالة الحريات في عدد من الدول العربية هي: مصر، تونس، الأردن، اليمن، المغرب والبحرين. وبعد زيارة هذه البلدان والاجتماع بقوى تمثل الحكام والمعارضين استمرت حتى عام 2008م أصدر نادي مدريد نداء البحر الميت في الأردن. ذكر النداء نقص الحريات في تلك البلدان، وأشار للفجوة الواسعة بين الحكومات ومعارضيها، ما يوجب إجراء حوار جامع وجاد بين الأطراف لتحقيق إصلاح سياسي يكفل الحريات الأساسية ويحقق الحكم الراشد تنفيساً للاحتقان المشاهد وتجنباً للانفجار. ولكن هذا النداء مثل سابقاته لم يغير شيئا من الواقع بل في كثير من البلدان العربية تراجعت هوامش الحرية المحدودة بذريعة التصدي “للإرهاب”.

الفن وهو بجميع فروعه من تشكيلي، وروائي، وشعري، ومسرحي، وسينمائي، وغيرها؛ أسهب في التعبير عن حالة الاحتقان الاجتماعي.. فعمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني رسمت صورة مجتمع مصر متفسخ يستظل بفساد حكومي شامل. وصنع الله إبراهيم في رواية “ذات” صور  أزمة الطبقة الوسطى. والشعر صور وجها كالحا لهذه الاحتقانات والتعطش للحرية. جاء في شعر أمل دنقل:

تحدث عن الطقس إن شئت فأنت آمن

أو عن حبوب الحمل إن شئت فأنت آمن

هذا هو القانون في مزرعة الدواجن

وتناولوا اتساع الفجوة الاجتماعية على نحو ما قال مظفر النواب:

لا تلم الجوع الكافر

في هذا الزمن الكافر

أنا في صف الجوع الكافر

ما دام الطرف الآخر

يسجد من ثقل الأوزار

ورميت النظم بأنها أهدرت الكرامة فلا تدافع عن حقوق الوطن بل تسخر الإمكانات العسكرية للقمع على نحو مقولة أمل دنقل:

إن الرصاصة التي ندفع فيها

ثمن الكسرة والدواء

لا تقتل الأعداء

لكنها تقتلنا إذا

رفعنا صوتنا جهارا

تقتلنا وتقتل الصغارا

بل يكاد الشعراء يوجهون هجاءً مركزاً للأنظمة الحاكمة ويسلبونها من الشرعية –مثلا- قصيدة أحمد مطر أنا السبب:

أنا السبب

في كل ما جرى لكم

 يا أيها العرب

أطل كالعثبان من جحري عليكم

إن غاب رأسي لحظة ظل الذنب

فلتشعلوا النيران حولي واملئوها بالحطب

إذا أردتم أن أولي الفرار والهرب

وحينها ستعرفون ربما

من الذي – في كل ما جرى لكم-

كان السبب؟

هل عرفتم من أنا؟

أنا رئيس دولة من العرب!!

وفي السينما اتجه البعض لكشف مساوئ القهر والفقر والمعاناة في المجتمعات العربية، مثلا فيلم “هي فوضى” ليوسف شاهين الذي اتخذه كمرآه عاكسة لبعض الإسقاطات السياسية في المجتمع مثل استغلال السلطة، والتعذيب داخل أقسام الشرطة، فضلا عن الرشاوى والفساد، وفي المسرح كذلك كما في مسرحيات محمد صبحي ولينين الرملي الناقدة للمجتمع والكاشفة لمكامن الفساد والجور.

الاحتقان يولد الانفجار هذا قانون صحيح في الفيزياء وهو كذلك في السوسيولوجيا.

في إيران في السبعينيات استطاع الشاه مدعوما بالأجهزة الأمريكية والإسرائيلية استئصال كافة قنوات المعارضة الحزبية والنقابية فأدى الاحتقان إلى انفجار قادته المؤسسة الشيعية.

وفي كثير من البلدان العربية استطاعت الأجهزة الأمنية استئصال أو إضعاف قوى المعارضة الحزبية، والنقابية فأدى الاحتقان إلى تمدد المعارضة في المساجد وفي القوى الإسلامية كما أدى لظهور قوى شبابية جديدة عبرت عن مواقفها في مصر بصورة محدودة مثل:

·   في عام 2004م شهدت الساحة السياسية المصرية ميلاد أول ائتلاف يجاهر بمطلب إنهاء حكم الرئيس المصري السابق: حركة كفاية.

·   انتخابات 2005م أظهرت وجود تيار -أخواني منظم ومعارض للسلطة- فأطبقت عليه الآلية الحاكمة لتجريده من ثمار نجاحه في الانتخابات. كما أظهر حزب الغد حيوية في المعارضة فأطبقت عليه الآلية الحاكمة كذلك لإبطال نشاطه.

·        وتكون التجمع الوطني للتحول الديمقراطي.

·        والحركة الشعبية من أجل التغيير.

·        وتكونت حركات فئوية من أجل التغيير:

–         شباب من أجل التغيير.

–         محامون من أجل التغيير.

–         صحفيون من أجل التغيير.

–         أطباء من أجل التغيير.

–         أدباء وكتاب من أجل التغيير.

–         مهندسون من أجل التغيير.

·        ونشطت حركات عمالية مطالبة بحقوق نقابية ورافضة للخصخصة نظمت احتجاجات واعتصامات وإضرابات.

·        حركة فلاحية نشطت للمطالبة بإصلاحات ومعارضة السياسة الزراعية للنظام.

·   وفي 6 أبريل 2008م نظم عمال شركة الغزل بالمحلة مظاهرة انضمت إليها جماعة وسعت المطالب تحت عنوان شباب 6 أبريل.

·   على طول الفترة منذ 2008م حتى ثورة يناير 2011م توالت الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات العمالية في محافظات مصر المختلفة مطالبة بتحسين ظروفهم.

·        ومنذ عام 2009م قامت حملة واسعة ضد فكرة توريث الحكم لابن رئيس الجمهورية على النمط السوري.

·   وفي عام 2010م كونت الجمعية الوطنية للتغيير الملتفة حول د. محمد البرادعي، هؤلاء كتبوا مذكرة وقّع عليها مليون شخص مطالبة بإنهاء حالة الطوارئ، وبتمكين القضاء من الإشراف الكامل على الانتخابات، وبتعديل الدستور.. إلخ.

·        وبعد اغتيال المواطن خالد سعيد على يد الشرطة اندلعت مظاهرات غاضبة في الإسكندرية في يونيو 2010م

·        وشهد مطلع عام 2011م حركة احتجاج قبطية واسعة احتجاجا على استهداف الكنائس.

·        ونظم شباب أذكر منهم خالد منصور ووائل غنيم حركة بعنوان كلنا خالد سعيد تضامنا مع هذا الشهيد المغتال غدرا.

هؤلاء هم الذين دعوا للاعتصام في ميدان التحرير في يوم 25 يناير 2011م وهو يوم عيد الشرطة.

هذا النشاط المعارض الاحتجاجي الداوي الممتد على الأقل خمس سنوات أوحى للروائي محمد سلاوي بروايته: “أجنحة الفراشة” التي نشرت قبل ثورة 25 يناير 2011م. رواية رسمت في الخيال أحداثا طبق الأصل لما قد حدث فعلا في تلك الثورة.

كما قال أبو الطيب:

ذكي تظنيه طليعة رأيه            يريك في يومه ما ترى غدا!

إذن الثورة الديمقراطية العربية في مصر عميقة الجذور ويمكن التوثيق لذلك في البلدان العربية المختلفة.

2.      المشهد العربي خامس موجات الديمقراطية

مرتان في تاريخ الإنسانية قامت فيهما الحوكمة على أساس المشاركة: في أثينا قرونا قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وفي المدينة قرونا بعد ميلاده. ولكن في أغلب فترات التاريخ تحكم في رقاب البشر القياصرة، و الأكاسرة، والسلاطين بصورة مخففة أو مغلظة على نحو مقولة فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[1]. ولكن منذ ثلاثة قرون ولدت ثورتان في الغرب: الأمريكية، والفرنسية، أعلنتا مواثيق لحقوق الإنسان. حقوقا ترتب عليها قيام النظام الديمقراطي، الذي عم فيما بعد الولايات المتحدة وأوربا الغربية. وفي موجة ثانية تمددت الديمقراطية في أقاليم الدول الفاشستية سابقا بعد الحرب الأطلسية الثانية (1939- 1945م). وفي موجة ثالثة تمددت الديمقراطية في جنوب أوربا وفي بعض أنحاء أمريكا الجنوبية وبعض نواحي أفريقيا وآسيا. ولدى سقوط حائط برلين في (1989م) انتشرت الديمقراطية في أقاليم المعسكر الشرقي سابقاً ما عدا الصين الشعبية (الموجة الرابعة).

في وجه هذه الموجات استعصى العالم العربي تتحكم في شعوبه ملة الاستبداد الموروثة من مقولة ابن حجر العسقلاني: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والقتال معه)، المدعومة بأساليب وأجهزة الستالينية والفاشستية الحديثة.

ملة الاستبداد هذه قوامها:

·        سلطان الحزب الحاكم أو البيت الحاكم.

·        النظام الأمني الذي لا يراعي إلا حق حماية النظام.

·        الإعلام الكاذب، والحجر على حرية التعبير وحرية الوصول للمعلومات.

·        تسخير الاقتصاد لخدمة الحكام ومحاسيبهم، وتفشي الفساد.

·        استخدام الأجهزة الشرطية والدفاع في حماية السلطة، وانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة.

·        تأليه الحكام، وتزوير الانتخابات.

خضوع العالم العربي غالباً لهذه الملة الاستبدادية جعل كثيرين يتحدثون عن (الخصوصية العربية) كأن الاستبداد وجه آخر من وجوه العروبة.

ولكن العرب ليسوا استثناءً من قوانين حركة التاريخ. وفي استطلاع أجرته شركة علاقات عامة في عام 2010م في تسع دول عربية ثبت أن الشباب العربي يضع الديمقراطية في قمة تطلعاتهم. هذه الظاهرة تمثل تحولا في أولويات النخب العربية على نحو ما قال جورج طرابيشي، إذ قال: (نحن ننتمي لجيل وقع ضحية خدعة ماكرة فحواها أن الديمقراطية كانت بحاجة لتقويم وتصحيح.  بعد أن أصبحت الثورات، ومنها ما شهدته بعض الدول العربية، أنظمة دكتاتورية دموية؛ وبعد سقوط الجسم النظري للماركسية نفسها؛ اكتشفنا أن الديمقراطية إقرار بنيوي متقدم لمجتمعات متقدمة. وأنها دون أن تكون كاملة هي النظام الأرقى والأكثر عقلنة بين الأنظمة التي اخترعتها البشرية).

إن الثورة الديمقراطية الحالية هي صحوة فكرية وسياسية عربية تنطلق من خمسة أصول لحقوق الإنسان هي: الكرامة الإنسانية، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام؛ وتؤذن بالتحاق العرب بالصحوة الإنسانية التي تتفق أصولها تماماً مع حقائق الوحي الإسلامي والقدوة المحمدية ولكن غيبها الطغاة للتحكم في رقاب الشعوب.

إذن الثورة الديمقراطية العربية حلقة من حلقات الصعود نحو عالم إنساني أعدل وأفضل.

3.     ماذا بعد إسقاط الطغاة؟

نجاح الثورات العربية في المرحلة الأولى أي إسقاط الطغاة لا سيما مع وجود حضانة عسكرية لا يمكن التكهن بتصرفاتها، ومع غياب قيادة متفق عليها للثورة، ومع غياب برامج واضحة لمواجهة مشاكل الانتقال من الأوتوقراطية للديمقراطية؛ لا يضمن نجاح الثورة في تحقيق مقاصدها.

وفي كثير من التجارب الماضية نجح الثوار في المرحلة الأولى في إسقاط الطاغية وأخفقوا فيما بعد – مثلا:

·        الثورة الشبابية في أكرانيا أطاحت بالدكتاتور ولكنها لم تنجح في تحقيق أهدافها. بل عاد حزب السلطة المطرود للسلطة في انتخابات 2010م.

·        ونجحت ثورة جورجيا في مرحلتها الأولى ولكنها أخفقت في تحقيق مقاصدها.

·        والقوى الشبابية التي أحدثت التغيير أخفقت في تكوين قوى سياسية جديدة فانضمت حركة كمارا (كفى) للحزب الحاكم في جورجيا. وحركة بورا (حان الوقت) في أكرانيا خاضت انتخابات عامة في 2006م ولم تحقق نجاحاً!!.

الثورة الديمقراطية العربية قد تواجه إخفاقاً من أربعة جهات:

·        الردة التي يمكن أن يقودها سدنة النظام المباد.

·        الفوضى التي يمكن أن تحدثها الحركات المطلبية المندفعة.

·        الاختطاف الذي يمكن أن يجري على يد أي قوى سياسية منظمة تتخذ نهجاً إقصائياً. وتستغل الحريات لوأد الديمقراطية على نحو ما حدث في السودان.

·        مع وجود حرب باردة محيطة بالمنطقة العربية حالياً يمكن لهذا الصراع اقتحام الساحات الوطنية وجر القوى السياسية لنزاعات بالوكالة.

كان أول خطأين وقعت فيهما الثورتان في تونس ومصر هما:

الأول: إسناد إدارة الفترة الانتقالية لشخصيات من رموز النظام المباد.

الثاني: تحديد زمن قصير للفترة الانتقالية لتقوم انتخابات عامة بسرعة. انتخابات لن تحقق أهداف الثورة الديمقراطية بل سوف تمنح الحرس القديم فرصة ذهبية للردة كما حدث في أكرانيا.

في هذا الصدد كانت التجربة السودانية بعد إسقاط دكتاتورية جعفر محمد نميري في 6 إبريل 1985م أفضل إذ مارس المجلس العسكري الأعلى سلطات إشرافية. وقام بالسلطة التنفيذية مجلس وزراء مكون من عناصر نقابية. وتولى المجلسان مهمة التشريع. كان إسناد السلطة التنفيذية لنقابيين خطأ جسمياً لأنهم تصرفوا في السلطة كممثلين لنقابات مما ساهم في انفجار الحركة المطلبية والأفضل أن يكون مجلس الوزراء الانتقالي من عناصر تكنوقراطية محايدة. كذلك كان طول الفترة الانتقالية أي عام من الزمان أفضل.

المهم في الفترة الانتقالية ليس طولها ولكن أهمية المهام التي ينبغي القيام بها أثناءها وهي:

أ‌.        أسس واضحة لدور القوات المسلحة في الفترة الانتقالية وفيما بعدها أي في ظل النظام الديمقراطي.

ب‌.   برنامج متفق عليه لتصفية النظام الأوتوقراطي لا سيما روافده الإدارية، والأمنية، والإعلامية، والاقتصادية.

ت‌.    آلية حقانية لمساءلة تجاوزات العهد المباد واسترداد ما سرق للشعب.

ث‌.   تكوين هيئة وطنية لمكافحة الفساد والوقاية منه على نحو ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة.

ج‌.    تكوين آلية للحقيقة وإنصاف الضحايا.

ح‌.    إجراء حوار جاد وشامل للاتفاق على مشروع نهضوي متفق عليه يجسد ميثاقاً وطنياً يتناول:

o       الملف الإسلامي: فالإسلام اليوم يمثل في العالم القوة الثقافية الكبرى وقد ساعدت على ذلك مظلة الحريات وحقوق الإنسان كما يمثل الإسلام الحائز على القسط الأكبر من الرأسمال الاجتماعي في البلدان الإسلامية. والتحدي هو هل تتخذ القوى الإسلامية نهجاً إقصائياً يضع الإسلام في تناقض مع الوحدة الوطنية ومع المواثيق الدولية على نحو ما حدث في السودان وأفغانستان؟ أم تتخذ نهجاً ينطلق من قطعيات الوحي ويوفق بين النهج الإسلامي وحقوق المواطنة والتعددية بفقه يراعي المقاصد، والواقع، والتعايش الملي، والأولويات. هذا النهج يستهدي بالقرآن إذ قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)؟[2]. وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)[3]. وبالسنة إذ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) راعى الواقع في مكة والتزم: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)[4]. والتزم نهجاً آخر في المدينة: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[5]. ونهجاً آخر أثناء اتفاقية الحديبية أي كان يلم بالواجب وبالواقع ويزاوج بينهما على نحو ما قال ابن القيم.

نهج يجتهد في الفقه على أساس يتجاوز المنطق الصوري القائم على إجماع الماضي الذي لم يعد ملزماً في مجال المعاملات، والقياس، وإنما يقوم الاجتهاد على منطق يراعي المقاصد- والعقل- والمصلحة- والسياسة الشرعية.

o        الملف القومي العربي الذي ينطلق من:

أ‌.         الوحدة الوجدانية الماثلة.

ب‌.      الوحدة الثقافية القائمة على اللغة.

ت‌.     التكامل الاقتصادي.

ث‌.     حقوق المجموعات الوطنية غير العربية.

ج‌.      خريطة طريق لوحدة عربية تؤسس على إرادة الشعوب الحرة.

ح‌.       إقامة علاقات خاصة بالجوار الآسيوي- الأفريقي- الأوربي.

o        الملف اللبرالي: الذي يقوم على:

أ‌.         الالتزام بحقوق الإنسان.

ب‌.     حماية الحريات الشخصية في حدود مكارم الأخلاق.

ت‌.     تكوين هيئة مستقلة حقاً لمراقبة ومتابعة الالتزام بحقوق الإنسان.

o       الملف الاشتراكي الذي يقوم على:

‌أ.        آلية السوق الحر كأساس للإنتاج والاستثمار مع التزام القطاع العام بالبنية التحتية وبالمسئولية عن سياسات الاقتصاد الكلية.

‌ب.  الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي يوفق بين مصلحة الاقتصاد الوطني والمطالب النقابية.

‌ج.    برنامج للرعاية الاجتماعية.

‌د.       التعامل الانتقائي مع العولمة دعماً لإيجابياتها وحماية من السلبيات.

o       مراجعة ملف السلام التزاماً بالسلام وتأسيساً له على العدالة، إذا كانت إسرائيل مستعدة لسلام عادل يعطي كل ذي حق حقه ويمسك عن سياسات الفصل العنصري تجاه العربي فليس لها ما تخشاه من تحرر الشعوب العربية، أما إذا كانت تطمح في سلام بلا عدالة فهذا استسلام صناعه إلى زوال.

o       مراجعة العلاقات الدولية لتأسيسها على الندية ومراجعة النظام الدولي ليكون أعدل وأفضل، إذا كانت الدول الأخرى لا سيما الولايات المتحدة مستعدة لعلاقات تقوم على المصالح المشتركة فليس لها ما تخشاه من شعوب عربية حرة، ولكن إذا كانت تريد أن تتخذ من حكام المنطقة حراسا لمصالحها هي لا لمصالح شعوبهم فلتعلم إن هذه المخلوقات إلى انقراض.

يرجى أن تشكل هذه الملفات الستة أساساً لحوار وطني يثمر ميثاقاً وطنياً.

4.      المستقبل الديمقراطي

تاريخ البناء الديمقراطي في العالم يؤكد أنه بناء شاق ومحفوف بالمخاطر ولكنه أمر لا بد منه إذا أردنا استقراراً يقوم على الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة والسلام.

تتكون مهام البناء الديمقراطي من:

أ‌.         دراسة حالة القوى السياسية القديمة والجديدة والاتفاق على برنامج إصلاح سياسي اختياري يؤهلها لدورها في البناء الديمقراطي.

ب‌.     الدعوة لمؤتمر للاتفاق على برنامج لحركة نقابية ديمقراطية ومستقلة.

ت‌.      كذلك برنامج لمنظمات المجتمع المدني.

ث‌.      الدعوة لمؤتمر اقتصادي قومي تحشد فيه كل الكفاءات للاتفاق على تشخيص الحالة الاقتصادية والإصلاح المطلوب.

ج‌.      الدعوة لمؤتمر إعلامي لدراسة ضوابط حرية الإعلام.

ح‌.      الدعوة لمؤتمر دستوري للاتفاق على معالم الدستور الذي سوف تدرسه وتجيزه هيئة تأسيسية.

هذه المهام لا يمكن تحقيقها إلا إذا جرى تكوين منبر يعمل بمثابة العقل السياسي للمجتمع وتتكامل فيه خبرة القوى السياسية القديمة مع تطلعات القوى الشبابية الثورية.

المطلوب تكامل جيلي لا يسمح بفتنة جيلية حدثت لنا في السودان مرتين في 1969م وفي 1989م حصدت البلاد عبرهما الدمار.

5.      القدوة المصرية

 إن ما فعل شباب مصر في يوم 25 يناير 2011م والتف حوله الشعب المصري قدم خدمة لا تقدر بثمن للشعوب  الأسيرة: إنه كسر حاجز الخوف ما توافرت العزيمة الصادقة، وكشف هشاشة أجهزة القمع في وجه الإقدام الشعبي، واثبت التزام القوات المسلحة المصرية بشرف الجندية الذي يمنع إطلاق النار على مواطنيه.

انجازات أعادت الروح للشعب المصري التي سلبها الطغيان بل أعلت قيمة الشخصية المصرية ونفت عنها ما الصقه بها د. جمال حمدان إذ قال: مصر بطبيعتها بيئة صانعة للفراعنة، مقولة أنست كثيرين نضالات الشعب المصري وميلاد عقيدة التوحيد على يد اختاتون.

دور مصر التاريخي، وموقعها الجغرافي، وعطاء شعبها جعل لها أثراً معنوياً ومادياً هائلا في كافة الفضاءات الإسلامية، والعربية، والأفريقية، والدولية.

ولا شك أن حركة 1952م التي أسست نظام الحزب الواحد القابض قد كان لها أثرها في انتشار هذا النمط من الحكم. فنظام 25 مايو 1969م كان يستمد كثيراً من أفكاره ونظمه من النظام المصري.

النظام المصري لم يكن راضياً عن التجارب الديمقراطية في السودان:

·        لم يكن مرحباً بالثورة التي أطاحت بدكتاتورية الفريق إبراهيم عبود في أكتوبر 1964م.

·        ولم يكن مرحباً بالثورة التي أطاحت بنظام جعفر محمد نميري في أبريل 1985م.

·        وكانت كل برامج التقارب مع النظم السودانية في عهد النظم الدكتاتورية.

·         وكان النظام المصري الذي أسقطته ثورة يناير 2011م مرتاباً للغاية من النظام الديمقراطي الذي حكم السودان في الفترة 1986- 1989م.

·        وعندما وقع انقلاب يونيو 1989م رحب به النظام المصري دون أدنى تحرٍ لهويته المهم أنه كان انقلاباً على نظام ديمقراطي ليؤسس نظاماً أوتوقراطياً.

وحتى عندما اكتشف النظام المصري طبيعة النظام السوداني المعادية له فإنه استمر يتعامل معه في غاية التسامح مهما ارتكب ضده من أخطاء لسبب واحد هو أن البديل له نظام ديمقراطي.

وكان الديمقراطيون السودانيون يخشون للغاية أن أية نقلة ديمقراطية في السودان لن تجد دعماً بل معاكسة مصرية.

لذلك كان استبشار الشعب السوداني عظيماً بالثورة الديمقراطية في مصر لأن في ذلك بوليصة تأمين للديمقراطية السودانية القادمة بمشيئة الله. وستكون فاتحة لتطوير العلاقات السودانية المصرية على أسس وحدوية.

الجفوة التي قامت بين بلدينا كانت أسبابها سياسات خاطئة:

–         فالحكم الملكي في مصر وأعوانه من الساسة الباشوات أخطأوا في طرح العلاقة بالسودان على أساس السيادة المصرية على السودان في تنافس على السيادة السودانية مع بريطانيا مما برر دعوة: السودان للسودانيين والحرص على استقلال السودان.

–         وحتى الحركة الاتحادية بقيادة الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري تحولت من الدعوة للاتحاد لأن الحكم العسكري في مصر لم يراعِ حقوق الحكم الديمقراطي في السودان فاتجه الأزهري وزملاؤه للاستقلال.

–         وفي عهد جعفر محمد نميري أقام نظامه مع النظام المصري علاقة تكامل كانت في حقيقتها مظلة لدعم نظام نميري ضد المعارضة الديمقراطية. لذلك كانت الثورة الديمقراطية في السودان بإجماع عناصرها رافضة لتأسيس العلاقة بين البلدين على أساس تلك المظلة.

–         وحتى اتفاقية الدفاع المشترك لم تكن إلا تأسيسا للعلاقات الدفاعية تحت مظلة حلف ناتو ولحماية النظم الغاصبة. لذلك نفر السودانيون منها.

تباً للقدوة المصرية التي كرست للاستبداد والتبعية. ومرحباً بالقدوة المصرية على طريق الديمقراطية.

6.      مصر والسودان في ظل المظلة الديمقراطية

‌أ.         هنالك مصالح مشتركة بين السودان ومصر في مجالات الأمن المائي وحوض النيل، والأمن القومي، والأمن الغذائي، وهي عوامل توجب أقصى درجة من درجات التعاون.

‌ب.      إن للسودان ومصر مصلحة كبرى في علاقات تضامن أفريقية تحول دون الاستقطاب بين شقي القارة شمال وجنوب الصحراء كما تأمل قوى الهيمنة الدولية. بل العمل على علاقات تضامن وتكامل بين شقي القارة.

‌ج.      جنوب السودان سوف يقيم دولة مستقلة سوف تقرر الاتجاه جنوباً أو شمالاً. هنالك مصالح كثيرة تشد دولة الجنوب شمالاً ولكن توجهها نحو الشمال يتوقف على وجود سياسة شمالية جاذبة لا توجد في سياسات الحزب الحاكم في الشمال اليوم بل توجد في رؤى المعارضة الديمقراطية في السودان.

هنالك حاجة ماسة لتعاون بين مصر الديمقراطية والسودان الديمقراطي للاتفاق على سياسات جاذبة لدولة الجنوب لتحقق مصلحتها في التوجه شمالاً لأن انصراف دولة الجنوب عن ذلك سوف يضر بالجنوب وبالشمال وبهما معاً وسوف يدفع دولة الجنوب للتحالف مع أعداء الشمال الاستراتيجيين. نهج إذا وقع فسوف ندفع ثمنه في شمال السودان وفي مصر.

‌د.         إن سياسة الحزب الحاكم اليوم في السودان ما لم تتغير بصورة جذرية تشكل خطراً استراتيجياً على كل وادي النيل لأنها:

·        بنهجها الإسلاموي الإقصائي سوف تهدد الوحدة الوطنية في شمال السودان وفي مصر وفي ودية العلاقة بين الجنوب والشمال.

·        وبنهجها الأوتوقراطي تشكل خطراً على التحول الديمقراطي في السودان وفي مصر كذلك.

·        بسياساتها الطاردة لدولة الجنوب سوف تعطي نافذة كبيرة لإقصاء دولة الجنوب وتحالفها مع الأعداء، خاصة إسرائيل.

·        بنهجها المعادي للعدالة الدولية سوف تجر لنا في السودان وبالتالي مصر مشاكل مع أجهزة العدالة الدولية في وقت نحن فيه أحوج ما نكون للتعامل الإيجابي مع العدالة الدولية الممثلة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائية الدولية لأن مؤسسات العدالة الدولية مهمة لنا في هذه المرحلة التي تخوض فيها الشعوب نضالاً ضد الطغاة. ومؤسسات العدالة الدولية تمثل رادعاً فعالا لتجاوزات الطغاة وعدوانهم على شعوبهم المطالبة بحقوقها في الحرية والعدالة.

‌ه.         التجارب الدولية أكدت أن المجتمعات الديمقراطية قادرة على تحقيق الوحدة بينها مع ضمان مصالحها الوطنية كما هو الحال في الاتحاد الأوربي، ولكن الدول الأوتوقراطية لا تستطيع تحقيق ذلك لأنها لا تستطيع تحقيق الوحدة الوطنية داخل أوطانها من فرط حرصها على إرادة الفرد ومن باب أولى لا تستطيع تحقيق الوحدة فوق القطرية.

‌و.       السودان الديمقراطي وجنوب السودان الديمقراطي ومصر الديمقراطية يمكنهم أن يتطلعوا لعلاقة كنفدرالية تحقق مصالح مشتركة بل وتكون مفتوحة لعلاقة مماثلة مع دول أخرى في أفريقيا شمال الصحراء مثل ليبيا، وجنوب الصحراء حيثما توافر نظام ديمقراطي لأن الديمقراطية مثلما تحمي حقوق الأفراد مقابل الحكومات تحمي حقوق الجماعات إذا كونوا وحدات أوسع تحكمها مبادئ وأجهزة الديمقراطية.

‌ز.       مصر الديمقراطية تستطيع مراجعة ملف مياه النيل وإستراتيجية حوض النيل بشكل منفتح قابل للحوار والتعاون مع دول الحوض بشكل أكبر، فقد كان الموقف المصري المتصلب يمدد المنطق الشمولي الداخلي في التعامل مع دول الإقليم بشكل كان سيؤدي حتما لصدام مرير، وكان السودان الشمولي يتبع الموقف المصري بلا بصيرة وليضمن موقفها معه في ملف المحكمة الجنائية الدولية فقاطعا سويا اتفاقية حوض النيل (عنتبي 2010م)، وهي فرصة للاتفاق في إطار حوض النيل تفتح بابا واسعا للتعاون بين دول الحوض يجر المكاسب للجميع، فرصة ما زالت قائمة وسوف تصنع مصر الديمقراطية خيرا لنفسها وللجميع إن هي اغتنمتها.

إن التحول الديمقراطي في مصر وفي ليبيا أحسن خبر يطرق أسماع أهل السودان لأنه يفتح باب الإتحاد تحت مظلة الحرية والعدالة.

كانت الدول في الماضي تحقق وحدتها الوطنية عن طريق القوة الخشنة بالقهر العسكري. هذا لم يعد ممكناً الآن. كذلك كانت الدول تحقق اتحادها مع غيرها عن طريق الفتح وهو كذلك لم يعد ممكناً. إن أية علاقات تقوم على القهر غير مستقرة فضلا عن أنها غير أخلاقية.

القوة الناعمة هي اليوم مفتاح الوحدة الوطنية مثلما هي كذلك مفتاح الاتحاد بين الدول.

كثير من كتاب السيرة المحمدية فات عليهم درس في القدوة المحمدية وهي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حقق أهم إنجازات رسالته بالقوة الناعمة: فتح المدينة بالقرآن. واستمال الجزيرة العربية في عامي الحديبية. وفتح مكة في موكب سلمي.

كثيرون يفهمون الجهاد قتالا. أغلب الجهاد غير قتالي: جهاد النفس لحملها على الفضيلة، وبذل الجهد بالكلمة وبالمال. ولا يكون قتالا إلا دفاعا عن النفس ومنعاً لإجبارها على الفتنة في الدين.

قال أبو فراس:

ملكت بحلمي خطـة لـم يستـرقها          من الدهر مفتول الذراعين أغلب

بشرى لشعوبنا بزحفها الديمقراطي وليسقط الطغيان فمع كل سقوط نشاهد كشفاً لحقائق يندى لها الجبين:

ظلموا الرعيـة واستباحوا كـدها           وعدوا مصالحها وهم أجراؤها!

[1]  سورة النازعات الآية 24.

[2]  سورة محمد الآية 24

[3]  سورة الفرقان الآية 73,

[4]  سورة النساء الآية 77.

[5]  سورة الحج الآية 39
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *