قصيدة جديدة للاستاذ ياسر عرمان – بعنوان الماظ كحل على رمش الوطن
لندن مايو – جبال النوبة اغسطس 2012
الماظ كحل على رمش الوطن
الإهداء
إلى خديجة جار النبى عبد الفضيل الماظ عيسى
فجدُك مازال يحلق فوق أجنحة الفراش
إن إيمانى برسوخ ما يجمع الشماليين والجنوبيين مثل إيمانى بالله لا يتزعزع
الحدود سلعة تتبخر تحت أقدام الغزاة
تباع وتشترى بالسيوف وصهوات الجياد
وهمٌ من أوهام المزارات والمزادات القديمة
رسم من التاريخ لوحات للإسكندر الأكبر
سور من أسوار روما
نداء الخيول لتهراقا
بازار لملوك الفرس
عشاء أخير … من غزوات المماليك
ضحكات الصعاليق
ينهبون الأرض والأجساد
أنخاب تتبسم بعد نهاية معركة
قِلاع تعطس فى وجه الرعاة
وثائق للعبور بلا صور
فكرة ونبتة من أطماع السلع
موانيء أوصدت أبوابها فى وجه الغرباء
إحتراق بطاقات السفر
رسالة فى شبكة العنكبوت
تُورق حفلاً للزواج
إنهيار بورصات النقود
خلف أسوار الحدود
من مسافرين لم يسافروا بعد
لم يتركوا حتى آثارهم…
نحن الذين تركنا آثارنا
من مياه النهر نصنع ذاكرة للوطن
برائحة الضفاف وعطر الماظ
صور من مروا عليها
ذكرياتهم ودفق حنينهم
نمد كل أجنحة الفراش للماظ حتى يحلق من جديد
ينهض من رَماد الغياب
يوزعُ الحلوى بطاقات ترحال للرعاة
حلوة أخرى للغزاة والدعاة الظالمين
له أجنحة الفراشات الجميلة
ولنا رسم من المكسيم لخارطة البلاد
وختم أبدى لجوازات المرور بالابيض الغانى
عبث الفضاء بنا صباح الفراشات لنا
كل الشذى الفواح للماظ حتى يصحو ويداه فى المكسيم
كل مياه النهر له حتى يفارقه النعاس
ويعود الى تلودى
يلتقى فى القولد بالصديق
وفى يامبيو بالزمبيرى
تحنُ عليه الفراشات تبارك عوده الميمون
يرتدى بذةٍ من ملابسِ الجند الأنيقة
بألوان الفراش الزاهية
فى مساء من حضور البلاد
والماظ كحل على رمش الوطن
ملح وملاح طعمناهما معاً عند الضفتين
زاد العابرين فى حب البلاد بلاحدود
ونُشيًد للماظ مدينة من فراشات الخريف
نبني له جسرا من ضوء النهار
لموكب عودته الاكيدة
فجر على صبح الحقيقة
والماظ أغانى وأمانى
إلفة وحنين
حمام زاجل
ورسول للمحبة فى جوف المسافات البعيدة
وصل ومكسيم ومستشفى
والماظ غالى و عالى
سحر وتعويذة
حليب ودماء
فضاء وضياء
زهر و ماس
حب وتماس
أحلام ومياه إدخرناها لعام الرماده
إلتقاء نهرين من بعد فراق
حكمتنا للنساء وللشباب
الماظ عود من الأبنوس مازال شاب
وعود من الصندل شاهق من كلمات الإله
جبال الألب يكسوها البياض
غيمة وأمطار فوق نهارات الرُعاه
حديقة من شجن
غابة من وطن
وعدٌ يزهق النسيان
يمطر سوسناً فوق أجنحة الفراش
الماظ قُرنفل الشهداء
عشم للشباب
وألق فى الغياب
طين الوجود
شجر التسامح
سِفر الأمل
جِذر الإنتماء
وإتصال ما إنقطع من حديث
نيلٌ من الحب لا تعيقه الإنحناءات
وضيق أحذية القبائل
الماظ مد ومداد ومدى وإمتداد
هامش:
فى إنتظار عودة الماظ الاكيدة
3/سبتمبر 2012
فى 29 يوليو 2006 ونحن نكمل تحضيراتنا لإحياء الذكرى الاولى لإستشهاد القائد والمفكر والوطنى الكبير الزعيم قرنق مبيور أتيم، وفى ذات يوم شــديد الإزدحام ، ونحن نعد لإحتفاء ضخم كان احد اغراضه بث روح جديدة فى داخل الحركة الشعبية بعد ان اصاب عملها السياسى الركود بعد مقتل الدكتور جون قرنق وكما فى السابق فإن سحر وجاذبية الدكتور جون قرنق كانت كفيلة لجذب اعداد ضخمة غير مسبوقة من الحضور إلى داخل إستاد المريخ ومثلهم خارجه . ونحن نكمل الإستعدادات دلفت إلى مكتبى بالعمارات شارع (33) سيدة فى خريف العمر وكانت مصرة على مقابلتى وكان لدى الكثير فى جدول اعمالى لابد من إنجازه لإنجاح الإحتفال ولكن بمجرد ان سمعت إسمها تركت كل شئ للإستماع لها وذكرت انها جاءت لشكرى لأنه بلغها اننى اتحدث فى الندوات العامة عن جدها واستوقفتنى العديد من الاشياء فى حديثها عن التهميش الذى تركه الزمن والحكومات عليها وعلى اسرتها ، قالت السيدة خديجة انها الابنة الوحيدة لوالدها جار النبى ووالدها هو الابن الوحيد لوالده عبد الفضيل وعبد الفضيل هو الابن الوحيد لوالده الماظ فهى حفيدة عبد الفضيل الماظ وقد دعوتها فوراً لتكون ضيفة الشرف فى ذلك الإحتفال الذى حضره ما يقلرب (150) الف من السودانيين والضيوف وقد تحدثت وسائل الإعلام بالخرطوم كثيراً عن ذلك الإحتفال ، وقدمتها كضيفة شرف وقد صفق لها الالاف فى الإستاد وخارجه وذكرت فى تقديمها ان جون قرنق عمل لإنصاف المهمشين وفى ذكراه هاهو ينصف سيدة كبيرة ومحترمة بعد التهميش الذى لحق بها وبجدها إنها السيدة خديحة عبد الفضيل الماظ وطالبت بتغيير إسم مستشفى العيون ، المستشفى الذى دارت عنده المعركة (مستشفى النهر) وتسميته بإسم عبد الفضيل الماظ وإنصاف اسرته وقد استجاب نائب الرئيس على عثمان محمد طه آنذاك والذى كان حضوراً فى الإحتفال وعلى الرغم من إصداره التوجيهات بالاهتمام بها وباسرتها وتسوية معاشها ومازالت لم تجد الإنصاف كما ابلغتنى حينما كنت بالخرطوم فلا احد ينفذ توجيهات نائب الرئيس ! فجدها لم يكن من اهل السبق حتى تنفذ التوجيهات ! .
اهدى لها هذا النص فهى إحدى بنات الاسر السودانية الكبيرة المناضلة رغم سياسة ( الخيار والفقوس) فى التعامل مع الاسر المناضلة ، ولكن يكفيها ان حياها ذلك الجمهور فى ذاك المساء الجميل لانه ضم السودانيين جميعا من حلفا الى نمولى . ولتعش دوما ذكرى عبد الفضيل الماظ عامرة بمعانى الانسانيه ودفق الحنين ، للتواصل وعبور الجسور والحدود ، فقد خيب الماظ وصحبهِ امانى المستعمرين حينما ظنوا ان خلفيتهم الإثنية وشروخ تجارة الرقيق ستجعلهم يوجهون سلاحهم إلى صدور إخوتهم من السودانيين فوجهوا اسلحتهم إلى حيث ينبغى ان تكون وقد اسدى الاستاذ الراحل الكبير حسن نجيلة خدمة عظيمة بتدوينه معلومات قيمة عن ثورة 1924 .
الآن وبعد مرور (88) عاماً من إستشهاد عبد الفضيل الماظ وهو يقود معركة النهر الثانية فى نهاية شهر نوفمبر 1924 لايزال الماظ ايقونة سودانية ساحرة البريق ومناضل إستثنائى الخيارات ، جسد بحياته القصيرة والمضيئة كامل معانى الوطنية السودانية ، ليس فقط فيما إجترحه من بطولة ولكن الاهم من ذلك تلك الروح الوطنية الوثابة المفعمة بحب السودان من حلفا الى نمولى مجسدةً فى دوزنة الجند الاشداء الذين قادهم وقد مثلوا بصدق كل السودان ويتضح ذلك جليا فى قائمة الاعتقالات والإعدامات والشهداء ممن كانوا تحت قيادته .
الماظ شمالى جنوبى وجنوبى شمالى تنحدر عائلته من ناحيه والده من قبيلة النوير العظيمة التى عرفت بالشجاعة ووالدته تنحدر من قبيلة المورو فى غرب الاستوائية ويتصف اهلها بالذكاء والانضباط ، تزوج والده والدتهِ فى القاهرة حينما كان جندياً فى الاورطة المصرية التى شاركت فى غزو السودان تحت قيادة اللورد كتشنر وكان عبد الفضيل إبن بضع سنوات حملته أًسرته عائدة به إلى السودان مع جيش كتشنر والمفارقة انه قاتل واستشهد ضد نفس الجيش! ، وعمره (28) عاماً فى ملحمة بطولية نادرة .
بعد وفاة والده تم تجنيده بمساعدة زملاء والده وخاله ، مبكرا فى الاورطة المصرية وكان قبلها يدرس فى مدرسة الصناعات ومضى الماظ مثل شعاع النور وكرس حياته القصيرة لتجسيد الوطنية السودانية فى اعلى مراقيها وكان بذره من بذورها المتوهجة على مر الزمن و لايزال .
ومنذ نهايه الدولة المهدية لم تقع مواجهة عسكرية تكبد فيها الانجليز الخسائر الكبيرة فى قلب العاصمة الخرطوم مثلما حدث يوم النهر الثانى والتى انهاها الماظ صريعاً ومتعبداً ومتبتلاً فى محراب الوطنية فوق مدفعه المكسيم مختتماً حياته القصيرة التى امضاها كالبرق متنقلاً بين حاميات الجنوب فى بحر الغزال، ومنقلا بالإستوائية ، وقد تم إختياره من الصفوفيين لدخول الكلية الحربية لتميزه .
و فى حامية تلودى فى جبال النوبة امضى ما يقارب السبع سنوات من 1917 إلى 1923 حيث عاد لحامية الخرطوم.
الماظ المتوقد الذهن كان احد قادة الجناح العسكرى للواء الابيض وفى نفس عام 1923 زار القاهرة وهى مرجل يلغى على صدى سعد زغلول وثورة 1919 ، وتزود من هوائها النقى وإستنشق عطر وعبق الثورة المصرية وعاد إلى حامية الخرطوم .
وفى الاسبوع الاخير من نوفمبر 1924 قاد معركة النهر الثانية وفى معيته جند وضباط شجعان منهم من قضى نحبه ومن اعدم ومن تم سجنه ومن ظل مطارداً كسيد فرح ابن دلقو المحس الذى لجأ إلى خارج السودان بعد المعركة ، وكان على موعد مع موطنه عشية الاستقلال ولم ينسى الموعدَ ، كما أٌعدم فى برى الضباط الشجعان الذين انحدروا من مجموع قبائل وجغرافية السودان وتنوعها منهم ثابت عبد الرحيم وحسن فضل المولى وسليمان محمد وسجن واطلق سراح على البنا ومحمد المهدى الخليفة ، وفى كامل تاريخنا الساحر لو قدر لى ان امضى عبر الزمن كما فعل صديقنا المبدع محمد نعيم سعد فى مسرحيته الرائعة (ابيض واسود) وان أختار صحبة الأخيار على مر ذلك التاريخ لما ترددت لحظه فى ان اختار صحبة عبد الفضيل الماظ وان اكون جندياً تحت قيادته وصحبه الكبار على عبد اللطيف وعبيد حاج الامين وسيد فرح .
أود ان أقول اننى قد ولدت فى شمال السودان ويظل قلبى وعقلى يحملان نفس الحب والمودة للشمال والجنوب ، والشمال والجنوب يحتلان نفس المساحة فى قلبى وعقلى وفى ذلك يرجع الفضل لشعب الشمال ولمعرفتى اللاحقه بشعوب الجنوب ولأصدقائى من مثقفى الجنوب السودانيين ، وللكبار منهم وعلى رأسهم الدكتور جون قرنق دى مبيور وصديقنا الشهيد مشور طون أروك والآخرين وهم كثر .
فى الشمال كانت البدايات حينما إستمعنا وإزدهر وجداننا بالقراءة والإستماع للشعراء والمغنيين المبدعين الذين تغنوا بحب الشمال والجنوب معا… دا ود عمى ولا ضريب دمى وانت شنو طفيلى دخيل … ويكفى النيل ابونا والجنس سودانى… من الاسكلا وحلا … الى تونجة والرجاف… ومن.غابات ورا تركاكا … والبندقية فى بداية عهدها… وهام ذاك النهر… يالفى الشمال حيى الجنوب … ومن دارفور الحُرة نبيلة لكل قبيلة على التاكا … ويقظة شعب … سنرد اليوم كيد الكائدين وحده تقوى على مر السنين … اكتب ذلك من الذاكرة … وحينما خضنا غمار العمل السياسى وفى سنواتنا الاولى واللاحقة لم نبدل تبديلا فما يلائمنا دائما ويليق بنا هو حب الشمال والجنوب معاً وفى ذلك لا نعتذر لاحد.
ولانزال فى كل صباح جديد نزداد إقتناعاً كلما إكتشفنا حقائق جديدة ان طابع ( الحلو مر ) فى علاقات الشمال والجنوب يؤكد مرة بعد أخرى أن شعوب الجنوب و شعوب الشمال هما الأقرب لبعضهما البعض ، تاريخاً ودماءاً ومصالح وجغرافية ويبقى ما ينفع الناس ، ونحن اليوم كما بالامس نعمل لما يجمع لا ما يفرق بين الشماليين والجنوبيين وفى ذلك فإننا نترغب عودة الماظ الأكيدة صبح على فجر الحقيقة . ويا شباب الغد أسمعنى جوابا … فكل ما ضاع يُرتجى قد سلمنا من الزلل .
ياسر عرمان
3/سبتمبر /2012