وفي الخرطوم.. طوابير لاستخراج جوازات السفر
موظفة وأم لأربعة أولاد: نغادر المنزل وكأننا لن نلتقي مجددا
كانت تسمع صوت الطائرة الحربية( الانتوف) تحوما قريبا من سقف بيتها يقع في قرية ” مارلا” جنوب نيالا. وبينما تقلب عزيزة آدم الطبخة علي النار ترسل نظرها باتجاه قرية “الحجير” القريبة حيث تري أعمدة الدخان تتصاعد إثر سقوط القذائف التي كان دويها يهز القرية, وهي تدمدم ” سترك يا رب لطفك يا رب”. وتقول عزيزة ” اعتدت علي الأصوات. في البداية كنت أخاف وأفقد القدرة علي عمل أي شئ, لكن مع مرور الوقت اعتدت علي ذلك, كما اعتدت حالة القلق الدائم”.
عزيزة ( 40) موظفة وأم لأربعة أولاد, شابين في مرحلة الثانوية وفتي وفتاة في مرحلة الأساس, وزوجها موظف في مؤسسة حكومية, تقول ” كل يوم صباحا عندما أستيقظ أشكر الله أنني ما زلت واسرتي بخير.. نغادر المنزل وكأننا لن نلتقي مجددا, وبات من العادي أن نختم كلامنا بجملة ( إذا بقينا أحياء) بدلا من الدعاء ( إن شاء الله).
الخطر يتربص بالدارفوريين أينما التفتوا, لكنه ” في مدينة نيالا يلبس قبعة الإخفاء ولا ندري متي وأين يظهر” بحسب تعبير عزيزة التي تفكر ليل نهار في تأمين سفر ولديها الشابين في مدرسة الثانوية خشية تعرضهما لمكروه أو للسحب الي خدمة الإلزامية حيث قاربا علي إنهاء دراستهما الثانوية. والسحب الي خدمة الإلزامية أحد أكثر المخاوف التي يعاني منها السودانيون, ويضاف الي هاجس الهروب من البلد أو تأمين جواز سفر.
ويقول محي الدين, الذي يصطف في طابور طويل في حين الهجرة والجوازات وسط العاصمة الخرطوم ” علي من يريد الحصول علي جواز سفر من دون وساطة أن يحضر فجرا الي مكتب الجوازات كي يتمكن من الدخول والحصول علي استمارة لتقديم الطلب, وكي يتمكن من الدخول عليه ارتداء ملابس قوية وأنت يهيئ نفسه لخوض عراك في الازدحام, صديقي انكسر ضلعه في التدافع أمام كدة توزيع الاستمارات, وصديقه, وصديقة أخري كادت تموت خنقا في الزحمة”.
تزايد الطلب علي جوازات السفر وتجديدها يوما بعد آخر, بالإضافة الي تعطل العمل الحكومي أو الماكينة وحيدة للجوازات المغنطعة في الخرطوم, ركز الضغط علي العاصمة, حيث يفد إليها السودانيون من كل الولايات للحصول علي جواز سفر, مما جعل الوصول الي باب مبني الهجرة والجوازات رحلة شاقة تستغرق عدة ساعات لا تخلو من اشتباكات وليس بالضرورة أن تكلل بالنجاح. و يحكي السودانيون عن مغامراتهم أمام مبني الهجرة والجوازات و هم يتذكرون أيام كان الحصول فيها علي الجواز السفر العادي لا يستغرق أكثر من ثلاثة أيام, وفي حال دفع رشوة يمكن الحصول عليه خلال يوم واحد, خصوصا للسيدات, كونهن لا يحتجن لورقة من خدمة الإلزامية. لكن بعد اندلاع الثورة بدارفور زادت التعقيدات حيث بات حصول الشباب علي جواز سفر يتطلب بالإضافة لإذن من خدمة الإلزامية موافقة أمنية, يفضل الكثيرون عدم الحصول عليها خشية الاعتقال, لذلك كثير من الشباب يفضلون الهروب بشكل غير نظامي الي الدول المجاور, رغم المخاطر الكبيرة التي تكتنف عملية التهريب عبر الحدود.
عثمان مهندس(45 عاما) الذي قام بتوصيل قريبه الي مدينة الضعين كي تتمكن جماعة تمتهن تهريب السودانيين الي حدود دولة جنوب السودان من تهريبه يقول” كي أصل لتلك الجماعة سلكتُ طرقا زراعية ورعوية وعرة, وكان هناك من يرشدني عبر الهاتف, ولكن في طريق عودتي أضعت الطريق, كما أن الشخص الذي كان يرشدني في طريق الذهاب أغلق هاتفه, وبعد ساعتين من الضياع في الأراضي الزراعية فرغت بطارية هاتفي وفقدت الاتصال, وبعد بحث ويسر وصلت الي الطريق العام, وكان علي العبور من الحواجز أي نقاط او بوابات التفتيش, وهذا في حد ذاته مغامرة, ومع أنني نجحت في اجتيازها تقريبا عبر استدرار عطف مليشيات النظام فقد فشلت فشلا ذريعا عند الحاجز الرئيسي والذي قال الجنود الواقفون عليه بعد تحقيق ساعة إن الطريق الي نيالا مقطوع! وعدت أدراجي, ونصحني أحد الجنود بالمحاولة عبر الطرق الزراعية. عدت الي التجريب لكن الوقود كان قد نفد, والليل قد هبط, وفقدت الأمل في النجاة, حتي عثرت علي مجموعة مسلحين كانوا من قوات الحركات المسلحة وهم بدورهم حققوا معي, وبعد أن اطمأنوا ساعدوني مع طلوع الشمس وزودوني بالبنزين وأرشدوني الي الطريق”. ويتابع عثمان أنه عندما وصل الي مشارف نيالا ” لم أصدق أنني نجوت”, بعدها مكث في منزله عدة أيام متقطعا عن العالم ولم يرد علي هاتفه, حتي جاءه هاتف أعلمه أن قريبه الذي هرب الي دولة جنوب السودان أصيب في ساعده بطلق ناري وهو يعبر الحدود. وهو بدوره نجا بأعجوبة.
عزيزة الغلقة من كل شئ تقول” علي الدارفوريين أن يستمروا في حياتهم وكأنها طبيعية, مع أنه لم يعد أي شئ في حياتهم طبيعي, حتي شراء الخبز بات مخاطرة”, فالمخبز القريب من منزلها يوجد بالقرب منه حاجز مليشيات النظام, وكل حاجز هو هدف للمليشيات- ولهذا تتهم عزيزة النظام باستخدام المدنيين دروعا بشرية وتؤكد أن ” أغلب الحواجز داحل المدينة لا مبرر لوجودها, بل إن بعضها يضيق الشارع بحيث يخلق ازدحاما كبيرا, وتوجد أعداد كبيرة من السيارات والبشر, كلها تكون معرضة للخطر في حال استهداف الحاجز, لا سيما تلك الموجودة في شوارع قريبة من مقرات الأمنية”.
عثمان الذي رأي الموت في الضعين حسب تعبيره يقول” بعد تلك التجربة باتت لدي قناعة بأن أغلب الدارفوريين لم يعد لديهم أي خوف من الموت. ربما هم يخشون من طريقة الموت بإطلاق النار العشوائي من مليشيات النظام. الموت في حد ذاته لم يعد يرعبهم”. ومع أن عثمان كان قد جهز أوراقه لمغادرة البلاد بشكل نظامي فقد عدل عن الفكرة بعدما أوصل قريبه الي الضعين ومنها الي دولة جنوب السودان” لا أحد يموت ناقص عمر- إذا مت في بلدي بين أهلي أفضل من الموت في الغربة”. إلا أن عزيزة لا تتفق مع هذا الكلام رغم ايمانها بقضاء الله, وتصر علي تسفير عائلتها. أما هي فتقول” أفضل البقاء مع زوجي هنا”. وعن موعد تتوقعه لنهاية ما يحصل تقول” بعدما وقع كل هذا الدمار والقتل والتشريد.. لم يعد مهما كثيرا لنا التفكير في موعد انتهاء كل ذلك.. أنا أشاء وأنت تشاء والله يفعل ما يشاء. صديقتي مريضة بمرض صدري في مراحله النهائية. كانت في الطريق الي المشفي لأخذ جرعة علاج برفقة زوجها عندما حصل إطلاق النار من الجنجويد فقتل زوجها ونجت هي”.
احمد قارديا خميس
[email protected]