كنت قد بدأت في الحلقة الماضية تقديم بعض الأمثلة من حياتنا، التي تعكس سيطرة بنية العقل الرعوي على مسلكنا. وسأمضي في هذه الحلقة لتقديم المزيد منها. والغرض من الأمثلة هو تسليط الضوء على بعض العلل المُقْعِدة، على مستوى المسلك الشخصي، التي، حين يجري تجميعها، يتكون منها نمط عام. وتصبح لهذا النمط العام تأثيراته السلبية على مختلف أوجه حياتنا. وحين تتحكم علل الثقافة الرعوية التي تعمل بطبيعتها في وجهة التحلل من الالتزامات تجاه الدولة، ومن الالتزام بقواعد المؤسسية، يصبح بناء الدولة، والاحتفاظ بفعاليتها، واستقامتها، أمورًا متعثرةً، إن لم نقل مستحيلة.
فطن حكامنا الديكتاتوريون، ومن يعملون تحت إمرتهم، أننا نحصر فكرة التغيير، في تبديل الحكومات
، فأخذوا يغيرون الوزراء، وغيرهم من المسؤولين، متى ما أحسوا بدنو انفجارٍ شعبي. ففي عهد الرئيس السابق جعفر نميري، وفي عهد الرئيس الحالي عمر البشير، جرى تغيير الوزراء، وغيرهم من الدستوريين، ومن القيادات السياسية، مرات كثيرة. وليراجع منا من يشاء، عدد المرات التي غيَّر فيها نميري والبشير الوزراء، ورؤساء البرلمان، والقيادات السياسية، وبقيت الأمور على ما هي عليه.
إهمال علل ثقافة الشعب، والتركيز على علل الحكومة، نهجٌ مضلل، لا ينتج منه سوى الاستمرار في الأزمة، وإعادة انتاجها، مراتٍ، ومراتٍ، في مسارٍ دائريٍّ، يلف حول نفسه. وبطبيعة الحال، لا تفعل الحكومات الفاسدة سوى نشر الفساد، ولو تُركت مكانها، تفاقم الفساد واستشرى. ولا أحب أن يُفهم أنني أقول إن علينا أن نترك الحكومة الحالية وحالها، وننصرف لمعالجة العلل الكلية، فما أعنيه هو العمل على الجبهتين، في آن معًا. فالعمل على تتغير الحكومة طرفٌ واحدٌ في معادلة التغيير. فغض الطرف عن عيوب الجماهير، يلغي، وبالضرورة، مكوِّنًا رئيسًا في معادلة التغيير. فهناك سياقاتٌ ومنعطفات تاريخية بعينها، لا يؤتي فيها التغيير أُكله، إلا إذ رُوعي وزن طرفي هذه المعادلة.
من تلك السياقات والمنعطفات، التي تقتضي النظر في الجهتين، ما نمر به حاليًا، في السودان. ففي الوضع المعقد المستفحل القائم الآن في السودان، ينبغي، منذ البداية، اصطحابٌ طرف قصور الحكومة، من جهة، وطرف قصور ثقافة الجمهور، من الجهة الأخرى. وبطبيعة الحال، هناك يرون أن الوصول السلطة، ضروري لامتلاك الأداة التي تغير وعي الجماهير، وتعدل مسلكها. ولكن، أليس هذا هو ما فعلته الانقاذ؟ فأين وصلت به؟ فلا الشعب تغيّر في الوجهة التي تريد، ولا النخب التي سطت بها على الحكم بليل استطاعت أن تعض على جمر الاستقامة، ففشا الفساد في البر والبحر، وانقسم القطر، وانهار الاقتصاد، وعم خراب مادي ومعنوي، لا مثيل له.
ما ظلت تهدف إليه هذه المقالات، هو محاولة ربط إشكالات حياتنا الراهنة بجذورها، في التواريخ التي وفدت منها، حتى تُفهم على نحوٍ أفضل، ويجري التصدي لها وفق فهمٍ عميقٍ لمسبباتها، حتى لا يضيع الوقت في جهود التغيير القاصرة، التي تعيد إنتاج الأزمة، وتجعل الأوضاع الجديدة أسوأ من سابقتها. وكما سلفت الإشارة، مراتٍ عديدةً في هذه المقالات، فإن هدم بنية الدولة الحديثة الناشئة، في السودان، بدأ مع خروج البريطانيين. فكل تجارب الحكم الوطنية، التي وقفت وراءها بنية العقل الرعوي الدخيلة، ابتداء بسلطنة الفونج، ومرورًا بالحكم المهدوي، وانتهاء بأنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، لا تحكي عن بناء للدولة، بقدر ما تحكي عن صراعٍ مرير معها، ظل يستهدف بنيتها. وهو استهداف جرى من الحكام، ومن المحكومين، سواء، بسواء، لأن العقلية لدى الحاكم والمحكوم، هي نفسها.
سوف أواصل، فيما يلي من فقرات، كما فعلت في الحلقة الماضية، في تقديم بعض النماذج التي تبين كيف الثقافة الرعوية، لدى الأفراد، ضد العمل المؤسسي، أي؛ ضد الدولة، وضد المصلحة العامة. فعمل النخب الحاكمة في هدم الدولة، معروف لدينا، وها هي نتائجه ماثلة في واقعنا المعاش. لكن هناك خراب يصنعه الجمهور المحكوم، وهو لا يملك ألا أن يصنعه، بحكم ثقافته. يتساءل خلدون النقيب: لماذا لا تقوم دولة المؤسسات عندنا؟ ويجيب بأن هناك موانع موضوعية، ولكن هناك موانع ذاتية لا تُحظى باهتمام المراقبين والمحللين للأوضاع العربية. ومن هذه الموانع بعض السمات المشتركة للشخصية الوطنية، وهي الصفات السلبية التي تتشابه وتشيع في السكان بدرجة كبيرة، بحيث تمنع القبول بتقديم مصلحة المؤسسة، أو المصلحة العامة، على مصلحة الأفراد.(راجع: خلدون حسن النقيب، آراء في فقه التخلف، (ط2)، دار الساقي، لندن، 2008، ص 64).
من يرى أحوال السودان الآن، بعينٍ مبصرة، لابد أن يحتار في الكيفية التي يمكن أن تعاد بها الأمور فيه، إلى نصابها، بعد كل هذا الخراب المروِّع، الذي طال كل شيء. فهذه الفوضى، وهذه الجلافة المتزايدة، وهذا القبح، والكلاح، الذي يكسو وجه مدننا وقرانا، وهذه الغوغائية التي تطالعنا، أنّى اتجهنا، وهذا الاتساخ المتزايد، ليست كلها من صنع الحكومات. فبقدر ما لدى من تولوا أمورنا، من قابليةٍ لكي يصبحوا فاسدين، ومفسدين، ومخربين، فنحن، أيضًا، كذلك. دعونا، على سبيل المثال، نتأمل اللامبالاة، بل، و”القطامة”، التي يتعامل بها كثيرٌ من الموظفين، الذين، يجلسون وراء النوافذ التي تقدم الخدمات الحكومية، مع الجمهور. دعونا نتأمل نظرات الاستعلاء، والازدراء، التي ينظرون بها إلى طالبي المعاملات، ولامبالاتهم بمعاناتهم، وقلة حساسيتهم تجاههم، بل وكلفهم العجيب بتعذيبهم. هذا إن غضضنا الطرف عن قلة الكياسة، والجبين المقطب بلا سبب، وتعذُّر القدرة على الابتسام، وعلى الترحيب بصاحب المعاملة، وطمأنته أن أموره مقضية، وحقوقه محفوظة ومصانة، وكرامته موفورة.
يعمد كثيرٌ من الجالسين خلف هذه النوافذ إلى تمريغ كرامة طالبي المعاملات. ويبدو أنهم يجدون في هذا الصلف الأجوف، والغفلة عن جانب الله، وجانب الحق، مدعاةً للانتشاء، ولإرضاء الغرور الزائف، وربما، لملءِ فجواتِ مركباتِ النقص في نفوسهم، ونفخ مزيدٍ من الهواء في قربة “الإيقو الشخصي، المنتفخة أصلا. وربما هذا كله “تكنيك” للاسترزاق من الوظيفة العامة. فقد نشأت لدينا، مؤخرًا، ظاهرة ميسِّري، أو مُسهِّلي المعاملات، الذين يتولون عن الناس انجاز معاملاتهم. ويبدو أن هذه الظاهرة التي لا يعترض عليها أحد، تخفي وراءها خيط خفي يربط هؤلاء المُيسِّرين بالموظفين. ولربما يكون هذا هو السبب وراء تصعيب المعاملات، وقلة الحساسية تجاه طالبي الخدمات، وتعريضهم للوقوف الطويل، وللانتظار الممل والمرهق، ولمطوّلات “تعال بكرة”، و”الشبكة طاشة”، و”ورقك عند فلان، وفلان غائب”. في هذا المثلث الشيطاني يصبح الموظف، والمُيسَّر، والمواطن، طالب الخدمة، جميعهم، أدواتٍ لهدم بنية الدولة، وتحويلها إلى مسخرة.
من ناحية أخرى، يتصرف صغار الموظفين مثلما يتصرف المستبدون الكبار. فهم يستنكرون أسئلة الجمهور، ويضيقون، أشد الضيق، بأي تعبير عن عدم الرضا، بل، ويعتبرون ذلك هجومًا شخصيًا، وليس مجرد أبداء لملاحظاتٍ موضوعية، حول طريقة أداء عمل عام. فبمجرد أن تستفسر الموظف، عن خدمة طال انتظارها، أو تبدي ملاحظة ناقدة لطريقة العمل، أو تعلق على التأخير، يجيئك رد الفعل الهجومي، الغاضب، المباغت، على هذا النحو: “انت عاوز توريني عملي يعني”؟ وربما تتبعها: “تعال بالله أقعد محلي”. وهكذا يتحول الأمر من مجرد استفسار، أو ملاحظة حول اجراءات مكتبية، ينبغي أن تحكمها قواعد إجرائية، ومدى زمني، وغير ذلك مما يضبط سلوك الموظف العام تجاه الجمهور، إلى مواجهة شخصية.
هذا “الإيقو”، وهذه الأنا المتضخمة، لم تهبط علينا من السماء، وإنما هي متجذرة في بنية هذا العقل الرعوي، التي نحن بصددها. فالعقل الرعوي لا يستطيع أن ينظر إلى الأمور، ولا يستطيع معالجتها، من زاوية موضوعية. ولذلك، فإن من يتجرأ من الجمهور، فيبدي ملاحظة ناقدة، مهما كانت موضوعيتها، ومهما كان اعتدال اللغة التي قيلت بها، أو الأدب الذي قيلت به، يعرض نفسه لردة فعل ثأرية من جانب الموظف، تتمثل في الرد العنيف، وربما يصل الرد الثأري حدَّ تعمُّد تعطيل معاملة من أبدى الملاحظة. وهكذا يتخلق جو من الارهاب مانع للنقد. ولو قارنا هذا الوضع بما يجري في الدول المتقدمة، تتبينت لنا علل العقل الرعوي. ففي الدول المتقدمة يرحبون ترحيبًا حارًا بالملاحظات، وبالنقد، ويشجعونه لأنهم يعرفون أن النقص من طبيعة كل عام، وأن رأي الجمهور مهم، لأنه هو الزبون. أما نحن، لكوننا نعيش في مناخات الاستبداد، فإن إبداء أي ملاحظة يُعد من الكبائر. فالاستبداد ليس حصرًا على من يجلسون في أجهزة الدولة العليا، وإنما هو موجود في ثقافة الأفراد، مهما تدني وضعهم في هرم السلطة. فهناك أنفة، وصلف، وتعال، ونزوع للاستبداد لإرضاء غرور زائف، ملأتنا به تربية خاطئة، لم تعمل سوى لتثبيت العقد النفسية، وترسيخها. كما أن هناك كلفًا بنهب المال العام، بأي سبيل ممكن. هذه الأمور، وكثير غيرها، هي الرعوية التي أعني، وهي، هي التي ما جاء الإسلام، إلا لكي يستأصلها من جذورها، ويلقي بشجرتها الخبيثة، في النار. جاء الاسلام ليقضي على قيم القبيلة، ويقيم مكانها قيم الحق والعدل.
لحظة أن يتسنم الموظف الصغير، لدينا، وظيفته، ولحظة أن يحس بأنه قادرٌ على أن يُعطي، أو يمنع، يتصرف مع الناس من منصة امتلاك السلطة المطلقة. يتصرف الموظف بهذه الروح العدوانية النزاعة إلى التجاوز، حتى لو كان من يقف أمامه شيخٌ في عمر أبيه، وله من التجربة والخبرة، والتعليم، والحكمة، ما لا يحلم به هذا الموظف الصغير حتى لو أُعطي خمسة أضعاف عمره الذي هو عليه. هذا المسلك الرعوي المتسم بالجفاء وبالعدوانية الذي يطبع تصرفات كثير من الموظفين العموميين، يجعل طالب الخدمة يشعر بأنه متسول، وأن الموظف يتفضل بها عليه تفضلا، مع أنه صاحب حق، بل هو من يدفع لهذا الموظف راتبه.
أتوقع أن يتصدى لي البعض قائلين، إن في ما أقول تعميمًا، وربما تعديًا بغير حق على قطاع عريض برئ من هذه الأدواء، وأن خدمة الزبون لدينا بخير، وأن هناك أقلية، قليلة، تقوم بمثل هذه الممارسات، ولا يصح أن نطلق بناءً عليها حكمًا عامًا. وتلك شنشنة قديمة من أخزم، نعرفها. فقد عملنا في حكومة السودان ووقفنا مئات المرات أمام الموظفين العموميين، ورأينا كيف بدأت هذه الظاهرة، منذ الستينات، وكيف تفاقمت، لتصل في عهد الانقاذ الحالي إلى ما وصلت إليه.
رأينا في المطار، كيف يأتي فرد من القوات النظامية يحمل “دقشة” من الجوازات، أو من أوراق المعاملات، فيتخطى الواقفين في الصف، ويصل إلى الموظف المسؤول، وينجز معاملة الأسرة التي تخصه، أو الأصدقاء والمعارف. وكم شاهدنا معاملاتٍ يتم ادخالها من طرق جانبية، تتسبب في تعطيل من يقفون في الصف. فهناك نافذة للجمهور، وهناك “نفاج” خلفي “لأولاد المصارين البيض”. هذا وباءٌ عام لا قيام لدولة معه، وهو لا يمثل سوى طرف من أزمة عامة بالغة الضخامة، بالغة التعقيد. فكل شخص منا يعتقد أنه ذا خصوصية، وأنه أهم من غيره، ولا ينبغي، من ثم، أن تسير أموره في ذات المسار الذي تسير فيه أمور عامة الناس. بل إن الخرق لقواعد المؤسسية، يصبح لدينا مدعاة للتباهي. وما أكثر ما سمعت من يقولون، وهم يثنون على شخص بعينه: “الزول ده نجيض بعرف يقضّى أمورو”؛ أي أنه يعرف الطرق الخلفية و”النفاجات”، التي ينجز من خلاله معاملاته.
يعود الإحساس بالعظمة، لدى أكثريتنا، إلى قيم القبيلة التي سبق أن تربَّى عليها أسلافنا، حين كانوا رعاة. فالبيئة الرعوية تشحن أبناءها بالشعور بالعظمة وبالأهمية، وبالاستحقاق المطلق، والأفضلية على الغير. وهذا واضح في أشعارنا الشعبية، التي تنضح بالفخر، بالأصل والفصل، وبالرفعة والعلو على الآخرين. ولقد ارتبطت تلك التربية بالطبيعة الحربية للقبيلة، المهمومة، أساسًا، بالدفاع عن ممتلكاتها وعرضها. ومثل هذا النوع من الشحن المعنوي الذي كانت تمارسه القبيلة في ما مضى، تمارسه اليوم الجيوش مع جنودها، في كل بلدان الدنيا، وهو مفهوم ومقبول في سياقه. وكذلك أخلاق الرعاة وقيمهم، فهي الأخرى مفهومة ومحترمة في سياقها التاريخي. كل ما في الأمر، أنها تصبح مشكلة حقيقية، حين تتسرب إلى داخل بنية الدولة الحديثة، وتحكم فبضتها عليها.
أيضًا، من الأمثلة الصارخة للشعور بالأهمية، ظاهرة تجاوز قائد المركبة، لمن يقفون أمامه في الطريق، بخلق مسار جانبي، يصل به إلى الإشارة الضوئية، فيعبرها قبل من سبقوه. ولا شك، أن من يسلك مثل هذا المسلك، شخصٌ ممتلئٌ بالشعور بالعظمة، وبأنه أهم من الآخرين، وأن وقته أغلى من وقتهم. وكل ما ذكرته هنا ليس سوى نذر يسير من سيطرة القيم الرعوية على مجريات حياتنا. وهي قيم تناقض أساسيات الحياة المدينية، وأساسيات التحضر، وضوابط المؤسسية، وكل النظم واللوائح والقوانين، التي تنسق علائق الناس، وتحفظ حقوقهم وكرامتهم. فالمدنية تعني النظام ومعرفة الحدود وحفظ حقوق الجميع، على قدم المساواة.
سبق أن أشرت في المقالات السابقة، إلى كيف تطوع القبيلة الفرد، وتجعله مجرد ترسٍ في ماكينتها، لكونها قائمة على الجماعية، وعلى الانصياع التام للمنظومة. ولذلك، فإن الفردية واستقلالية الرأي، ممقوتة لديها، أشد المقت، لكونها تهدد الطريقة التي تحمي بها أمنها. فمخالفة الجماعة، في القبيلة، جريرةٌ كبيرةٌ، تعرض صاحبها للتقريع واللوم والاستهجان، وربما أدت إلى عزله عن المجموعة. وحين تنتقل القيم الرعوية إلى داخل بنية الدولة الحديثة، يتحول المجتمع إلى حابسٍ لطاقات الأفراد، ماحقًا لملكاتهم، ومواهبهم. فالقبيلة تريد من فردها أن يكون محاربًا، مطيعًا، كما في الجيش. هذا في حين تحتاج الدولة الحديثة، العقول الحرة الخلاقة، والملكات الإبداعية. فكل الاختراقات الكبيرة في التاريخ، التي أسهمت في رفعة كثير من الأمم، قام بها من كانوا يفكرون خارج الصندوق. فالإبداع، كما هو معلوم، شأنٌ فردي. وكلما كبرت مساحات الفردية، وكلما كان الوسط العام، والرأي العام يسمحان بحرية التفكير، وحرية النقد، وحرية التجريب، كلما تفجرت طاقات الأفراد، وكلما كانت فرص المجتمع في التطور أكبر. فإبداعات الأفراد هي التي تفتح الطريق للجماعات لترتقي. والعكس بالعكس؛ فكلما كانت المجتمعات خانقة، ومقيِّدة، ونمطية، وعابدة للسائد، ولا تعرف غير الطرق المطروقة، ومتحفزة، على الدوام، للدفاع عن ما هو قائم، رغم عقمه، كلما جمدت، وتوقف فيها الزمان، فتآكلت، بمرور الزمن، واهترأت.
دعونا نتأمل كيف كانت أمهاتنا وجداتنا منشغلات بـ: “فلانة ما جات عزتني في موت فلان، أو فلانة”. وكيف أن سيف اللوم المجتمعي، المسلط على الرقاب، قد جعل الجميع مصابين بـ “رهاب اللوم”، وخشية المقاطعة، والعزل، وردود الفعل الثأرية، وتشويه السمعة. فميزان القيم ظل يتحول من الفضائل الرفيعة والمعاني، وأضحى عالقًا بالشكليات، والمجاملات الاجتماعية. غابت الأساسيات، وارتبك وضع الأولويات، وضاعت قيمة ما يقدمه الفرد من خدمات علمية، أو عملية لمجتمعه. أصبحت الطقوس والشعائر الاجتماعية هي كل شيء في حياتنا، في حين أن حياتنا نفسها تنفلت من بين أصابعنا كل يوم، وتهبط من حضيض إلى حضيض أدنى من سابقه.
ننشغل بالمجاملات الاجتماعية، ونضيع فيها من الوقت أكثر مما ننفق في البحث العلمي، وفي الانجازات العملية، التي ترتفع بحياتنا، أو على الأقل، تحول بينها وبين التردي الذي يزداد إمساكه بخناقها كل صبح جديد. يتحمس الفرد منا للمناسبات الاجتماعية، ويحرص عليها أشد الحرص، لكنه لا يحرص على نظافة الشارع أمام منزله، أو نظافة الحي، أو حتى الامتناع عن إلقاء المخلفات والأوساخ كيفما اتفق! أيضًا، نلتزم بالوقت لحضور “الدافنة”، ولكنا لا نلتزم به في أي أمر آخر! لكن، لا غرابة، فالقيمة والسمعة الحسنة، جرى ربطها بأداء هذه الطقوس المجردة. في حين جرى نزع القيمة عن الأعمال الحقيقية المؤثرة على حياتنا، التي يمكن أن تدفع بها نحو الأفضل. والسر وراء هذا كله هو عقل القبيلة الذي يريد أن يضع الفرد في الدور المحدد سلفًا، الذي يريده له. فكل شيء ينتهي في عز القبيلة، أو العشيرة، أو الأسرة الممتدة، الذي هو قيمة مجردة متوهمة. فمن لم يأت لحضور دفن قريبي، أو عقد قرانه، لم يكرمني ولم يهتم بإعزازي، ومهما كان عذره، فهو لا يستحق اكرامي واعزازي. فالأمور كلها ملفوفة في “الإيقو”. هذا التطويع للفرد، ومحق ذاتيته، ومصادرة فرديته، أت من ماضي القبيلة، حيث ينبغي أن يسير الفرد على العجين دون أن “يلخبطو”. وتمثل هذه الظاهرة تمددًا في الحاضر، أقلُّ غلظةً، للأزمنة التي كان يُضحى فيها بالفرد في معابد الجماعة.
لقد وصلت لدينا، الممارسات المدمرة لبنية الدولة، ولتقاليد العمل البيروقراطي، بمرور الزمن، درجة أصبحنا معها نخلي المكاتب، وسائر أماكن العمل، لحضور دفن جنازة، أو عيادة مريض في المستشفى، بل والسفر المتكرر إلى جهات بعيدة لتأدية هذا النوع من الواجبات الاجتماعية. وكل الهدف هو أن نبقى بمنأى من دائرة اللوم المدمرة للسمعة. وما أكثر ما سمعت الأهل والأصدقاء يشكون لطوب الأرض، من هذا العناء شبه اليومي الذي صادر حيوات الجميع، وسحب أنشطة الأفراد من العمل المفيد إلى مجال التجريدات الطقوسية الشعائرية. لكن لا أحد يجرؤ ليقول “البغلة في الابريق”. فمن يجرؤ، تنهال عليه السهام من كل حدب وصوب. ولا أحب أن أُفهم خطأ هنا، فصلة الرحم، وصلة الأصدقاء والمعارف، كلها قيم نبيلة، دون شك، ولكنها يمكن تنظيمها، كما يمكن وضعها في موضعها الذي لا يمنحها الأولوية المطلقة، على كل ما عداها.
أما ما طرأ على عاداتنا في الأفراح من تباهٍ بالثراء، ومن غلو في التباهي بالوجاهة الاجتماعية، ومن “فشر” مقرف، حتى لدى ولاة الأمر، فطبيعته الموغلة في الرعوية، فلا تحتاج مني إلى دليل. وما من شك أن سفه المناسبات الاجتماعية وسط الكبار، ليس سوى طفحٌ فاض من مستنقع الفساد، ومن تراجع الفضائل، واستشراء الضحالة، واختلاط حابل الفضائل بنابل الرذائل. ودعونا نضع كل هذه الأمثلة البسيطة التي ذكرتها في كفة، ونضع قيم الإسلام التي نعرفها، ولا نعمل بها، في كفة أخرى، ولننظر: هل ما نفعله في كل هذه المناحي ذو صلة بالدين، أم هو مجرد جاهلية رعاة؟ يقول رافائيل باتاي، إن المشترك بين قيم الفرد العربي وتعاليم القرآن، قليلٌ جدا، فقيمه تبدو أكثر صلة بقيم ما قبل الاسلام. (Rafael Patai, The Arab Mind, Charles Scripners, NY, 1983, p. 97).
(يتواصل في الحلقة الأخيرة)