صلاح شعيب
الوثائق المسربة لا تقيم فقط من خلال المعلومات التي تحتويها، ولكن أيضا من خلال المصداقية التي تتعلق بتشكلها عموما. والنقاش الدائر حاليا حول ما إذا كان الاجتماع المسربة نتائجه قد انعقد، ووصل إلى تلك المداولات، أم لا، يمثل جهدا مفيدا بشكل كبير لفهم عمق عقليات نشطاء من الحكومة، والمعارضة، في وقت واحد.
وهكذا متوقع في هذا النقاش أن ينورنا بقدرة المهارات التحليلية التي أثارها أولئك الذين قادوا حملة لإثبات غياب المصداقية إزاء الوثائق المسربة، وأولئك الذين فعلوا العكس. ولكن، حتى الآن لم نعثر على تحليل ثمين، ومقنع، من المتحاورين المشاركين في النقاش لإنقاذ الحكومة، أو تحذير المعارضة من الوقوع في الفخ. وقد اتفق بعض حكوميين مع معارضين على أن النظام أساء استخدام الدكتور إيريك ريفز، بل إن ثمة معارضين بذلوا جهدا لتبرئة الحكومة أكثر من عضويتها في محاولة البحث عن المصداقية.
الجانب الآخر هو أن بعض نشطاء المعارضة، والحكومة، معا – قد يعتقد، في صمت، أن الباحث الأمريكي لديه ذكاء كافيا يعصمه من أن يكون غبيا. وبالتالي، فإن كلا الجانبين، المجهر والصامت، تأتى لهما تشكيل طريق ثالث في هذا النقاش الساخن.
ولكننا لا نركز هنا على البحث عن صدقية الوثائق فحسب. فبدلا من ذلك، فإن التركيز ينبغي أن يكون عن العلاقة المتلازمة بين الوثائق المسربة، وما يجري على الأرض. هذا النهج التحقيقي لا يهدف فقط إلى معرفة إلى أي مدى يوجد هناك مسرب واحد، أو حتى أكثر، شغل، أو شغلا، أو شغلوا، الإعلام السياسي بهذه البضاعة القذرة، والقيمة للتحليل في الوقت ذاته!.
بالجوهري هناك دائما وثائق مسربة من الأنظمة الديمقراطية، والاستبدادية، في كل مكان. وفي كوكبنا الصغير هذا ليس غريبا قراءة، أو رؤية، وثائق مسربة للفساد الحكومي، أو لسوء استخدام السلطة. فبعض هذه “المواد غير المصنفة للنشر، أو البث” تصل إلينا من خلال أوراق، والباقي من خلال مواد صوتية. وبالنسبة لحكومتنا الاستبدادية فإنه ليس جديدا الاستماع لمواد تمنحنا معرفة بشيء ما هو سيء – مخبأ عن أعين العامة.
قادة حزب المؤتمر الوطني ـ وفقا لدستورهم ـ كان يجب أن يحاكموا محليا أو دوليا – – للتسريبات الماضية التي أثارت جدلا مماثلا حول حيازة الاراضي، والفساد في العمل العام والخاص، والإجرام السياسي المنظم، وانتهاكات حقوق الإنسان. صحيح أنه لا يمكن الوثوق في الحكومة في حالة إنكار علاقتها بالتسريب الحالي أم لا. ولكن لا يعتقد المرء أنه من مصلحة الجماعة الظالمة صياغة قصة تتضمن أكاذيب لكبار قادة حزب المؤتمر الوطني كوسيلة لتخويف القوى الدولية، والإقليمية، والداخلية.
إن التسريب المعني، أيضا، يحتوي على معلومات حكومية مروعة، ودقيقة، تعالج مشاكل الحكومة للفترة الحالية، والمقبلة. وفي جانب آخر، إذا قارنا بين محتوى المسرب من معلومات، وما هو معروف، ومشاهد، على الأرض سوف نجد تطابقا كبيرا. أما أولئك الذين يقولون إن التسريب المحبوك تم أساسا من أجل إظهار قوة الحكومة، وقدرتها على هزيمة كل خصومها، لا يدركون، حقا، أن السياسة المخيفة لم تسعف النظام ليكون مستقرا، طوال هذه الأوقات. فكيف إذن تنجح الحكومة هذه المرة في ما فشلت فيه سابقا؟
وعلاوة على ذلك لاحظنا أن سياسة الإرهاب دائما ما تساعد على تصاعد النضال ضد إسلاميي البلاد، لا غيرهم. وفي المقابل هذا النوع من التسريب الإرهابي – طبعاً إذا كان محبوكا – سيجعل المعارضة، بالضرورة، أكثر وعيا بالتكتيكات الارهابية، وتكنيكات التنفيذ التي تستخدمها الحكومة. على كل حال الإرهاب ليس هو الحل للتغلب على الإخفاقات السياسية. وقد حاول الإسلاميون تنفيذ سياسات الإرهاب منذ بداية تطبيق “المشروع الحضاري” من خلال “بيوت أشباح” وهلم جرا. ومما لا شك فيه أن هذه السياسات إن كانت ناجحة لغابت المعارضة الحادة حاليا ضد النظام.
الآن، إذا كان النظام، مثلما يقول معارضون، يفكر هكذا حول امكانياته التحذيرية لإرهاب قوى المعارضة التقليدية بمثل هذا التسريب الموصوف بالحبكة، فإن المقاومة الشعبية – بجانب أدوارها المعروفة – يمكن أن تسد هذه الفجوة في المعارضة الحزبية. وجزء من المحنة التي تواجه النظام الآن هو أنه عوق حركة هذه القوى التقليدية، وبالتالي ظهرت تلك القوى العنيفة الساعية لتقديم الجماعة المتسلطة للمحاكمة محليا، أو دوليا. وعلينا أن ندرك أنه وفقا لثورتي أكتوبر، وأبريل، فإن الإطاحة باثنين من الأنظمة الاستبدادية لم تكن لتحدث إلا من خلال معارضة كل القطاعات الاجتماعية، وحروب الجنوب الاستنزافية، والعامل الخارجي كيفما كان، فضلا عن الكمون العضوي لعناصر الفناء داخل هذه الأنظمة. الشاهد أن ثورة سبتمبر الأخيرة لم تنبثق من جوف الغضب العارم للقوى التقليدية الحزبية. وعموما، كانت المقاومة الشعبية على نطاق واسع هي الأساس في إضعاف كل الأنظمة المتجبرة.
إن الرابط الكبير بين نتائج الاجتماع المسرب النتائج، والحقيقة على أرض الواقع، هو فشل رحلة البشير إلى المملكة العربية السعودية. وثانيا اخترق الزعيم الاسلامي حسن الترابي صمته الطويل، وأدان قرار النظام بإغلاق القنصلية الثقافية الايرانية، وقال إن الغرض من رحلة البشير هو الحصول على الاستثمار العاجل لذلك القرار التحفيزي، والذي اتخذ مخادعة لصالح المملكة السعودية. ويمثل هذان التفاعلان الإقليمي، والمحلي، استجابة سريعة، وبغضب، على ما اقترحه حضور الاجتماع – محل الجدل – للتعامل مع المملكة، و”المشيخة”.
فالمجتمعون تحدثوا بلهجة ابتزازية عن قوة علاقتهم بالإسلاميين في المنطقة، وإمكانية توظيفهم لها ضد معظم الدول الخليجية. أما الترابي فقد فضحوا نوايا حزبه المدجن بالتدرج، إذ كشفوا للرأي العام من خلال الوثيقة تسلم الحزب الدفعة الأولي من المليارات الثلاثة. وذلك ما أغضب الترابي ليقول “علينا أن نشايع من هو على حق ونخاصم من هو على شر ونتقي الله ليرزقنا وينصرنا وليس كما يفعل هؤلاء، في إشارة إلى الحكومة السودانية، يذهبون لآل سعود ويقولون لهم أغلقنا المركز الإيراني فادعمونا”.، إ وهكذا جنى النظام حنظله من وثيقته. إن كل ما هو حادث على مستوى الأرض السياسية هو نتاج لهذا التفكير المتضمن في الوثيقة المعنية، وهذا النهج من التعامل المهين، والمتشيطن، مع الواقع هو سبيل إسلاميي الحكم، سواء صدقوا في إظهار نواياهم الخبيثة، أو زوروها.