عبد العزيز التوم ابراهيم
ان مسالة فشل بناء الدولة الوطنية بالضرورة يقتضي الركون عن البحث في بدايات الحركات الوطنية التحديثية ونقدها وبما ان النقد يسعف في قراءة الواقع وتفكيك رموزه وكما ان النقد يساهم في ترسيم المستقبل ،ومن المعلوم ان الماضي يلقي بظلاله علي الحاضر والمستقبل ، بل نجد ان الماضي يشكل حضورا وخاصة في الفضاء السياسي السوداني وما تجليات الازمة السودانية الراهنة الا صورة من صور الماضي مقترنا بالحاضر !
فمنذ ان ظهرت طلائع المتعلمين في فضاء العمل كانت صفوية في مزاجها وفي تكوينها المعرفي والعقلي مفارق للواقع السوداني مما ادت الي ميلاد شخصية سودانية مغتربة عن الذات والباحثة عن ذات اخر ،وهذه الازمة تتجلي في كثير من الفضاءات وحقول المعرفة اليومية سواء كان علي الصعيد الاقتصادي او السياسي او الثقافي او الاجتماعي ،وان ازمة الاغتراب عن الذات منذ البدايات قد اسهمت بشكل جوهري في اضعاف فرص لتاسيس ثقافة البناء الاجتماعي ،فبدلا ان تقوم النخبة من تأسيس ثقافة البناء الاجتماعي أستنادا الي ثقافات الشعوب السودانية المختلفة ،وتأسيس الاقتصاد والسياسة علي حسب معطيات الواقع السوداني ،فقد جعلوا من الغريب الوافد نموذجا ومثلا يحتدي به ،حينما ظهر المتعلمين في القرن العشرين في الشارع العام ،تشبثوا بالغريب الوافد وتمثلوه في الملبس والمسلك والغريب يتمثل في الرجل الانجليزي والفقيه العربي والشاعر العربي ،مما جعل هؤلاء النخبة غرباء عن بيئاتهم وثقافاتهم ومجتماعتهم .
وبدأت الكارثة بعد خروج الاجنبي في عام 1956 وتركت السلطة علي ايدي هذه القيادات وهم بمثابة الحرس الايدولوجي لميراث المستعمر .
ان حلقات الفشل في السودان عديدة فمنذ ما يصطلح بلاستقلال لتاريخ اللحظة ظل المثقفون في واد وشعوب السودان وقضاياه في واد اخر ،اهملوا قضايا الناس ومشكلاتهمم الاساسية ووظفوا عقولهم وعبقرياتهم في تصفية الحسابات السياسية ونسفوا تماما فرص التأسييس لثقافة البناء الوطني عبر الجهود الجماعية ،ولو تعقبنا قليلا للوراء نجد ان العمل الجماعي اتسم بقدر كبيرمن الشللية والطموحات الشخصية والدسائس والمناورات ،ففي الفترة من عام 1942-1956 فاق عدد الاحزاب السياسيىة عشرين حزبا ،كانت معظمها تجمعات صغيرة دون اي سند شعبي ،وكانت جلها تتمحور حول حركتي الاستقلالية والوحدة. اذن ماذا نستخلص من هذا العدد الكبير للاحزاب السياسية منذ بواكير الحركة الوطنية !‘هذا يعكس بوضوح ضعف العمل الجماعي وغياب روح الديمقراطية وحدة المنافسة القائمة علي ترضيات الذات ،الي جانب الجميع فرضوا انفسهم عي اساس انهم قادة واصحاب قرار وان الموقع المناسب لهم هو الصف الاول والا فلا .ولكن في ذات اللحظة ان هنالك حقائق تاريخية لايمكن جحدها او نكرانها وخاصة ان طلائع المتعلمين كانوا ضحايا لاوضاع معقدة صاحبت لحظات تكوينه الفكري والمعرفي كما كانوا رهينة لظروف قاسية مروا بها ،وان الادراة البريطانية فرضت ظروف قاسية وسياسات عقيمة ،وقامت بتشجيع روح المنافسة بين زعماء الطوائف ،هذا الروح والسياسة القائمة علي منهجية rule and divide قد تسللت في نفوس القيادات السياسية ،واصبحت الدسائس والمؤامرات وحب الذات هي السمة المميزة لهذه القيادات ،وايضا من الحقائق المشهودة ان الادارة وضعت نظاما تعليميا بما يتماشي مع اغراضها الاستعمارية في توفير الوظائف الكتابية والفنية وليس بناء نظام تعليمي نقدي يحرض العقل ويجعله ان يقف بحيادية تامة علي ماهيات الاشياء قبل الاخذ او الحكم عليه.
نتيجة للمارسات النخية منذ المحطة التاريخية 1956 لتاريخ اللحظة وصل الانسان السوداني لاعلي مراتب الهدر الوجودي ،لذ اصبح للانسان السوداني خبرة عالية في التصالح مع الانهيار والتعايش والتدهور والصبر علي الخراب ، وهي محصلة نهائية لمنهجية القادة وتعاطيهم مع الشان العام ،وتأتي ابرز تجليات الفشل لحراس الميراث الاستعماري في السودان حول تحقيق المرتكزالحضاري للسودان او بمفهوم اخر “الهوية” وفي اطار الحديث عن فشل بناء الدولة الوطنية لابد من التأمل علي ازمة الهوية السودانية لانها المحور الاساسي لكل العلائق والبني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاجتماعية ،فالوعي بالذاتية قد تنامي وشمل كل اجزاء السودان بفعل ممارسات العقل السياسي السوداني الذي لايوجد اخر بداخله ، تنامي الوعي بالذاتية في دافور ،وديار البجة وجبال النوبة والنيل الازرق وكل الشعوب الذين تم استبعادهم من فلك الدولة ،اذن مسألة الهوية من المسائل الجوهرية التي تحتاج لمزيد من الحوارات واجراء مراجعات شاملة في المسار السياسي.
[email protected]