طلاق الجنوب من الخرطوم
سيكون يوما حزينا عندما تبلغ الأوضاع حد اختيار الجنوبيين الانفصال النهائي عن السودان، ويبدو أن نهاية الارتباط بالخرطوم صارت شبه حقيقية، عندما يحين موعد الاستفتاء الشعبي في العام المقبل. لو صار سيكون واحدا من أكبر الانفصالات في التاريخ الحديث، حيث يقسم البلاد بالسكين في المنتصف تقريبا.
بعض السودانيين أرهقهم صراع الجنوب وبلغوا منذ زمن حالة الاستعداد لفسخ العلاقة مع الجنوب. كانوا يعتبرونه إقليما غريبا فشلوا في دمجه، حيث لا يلتقي معهم في شيء من الخصائص، فالجنوبيون ينطقون لغات مختلفة، ويعبدون آلهة مختلفة، ويتشكلون من نحو مائتي جماعة إثنية. الحقيقة أن أهمية السودان في كيانه الكبير، وهو ليس الوحيد في العالم المتعدد داخل الدولة. هذه القيمة والخصوصية للجنوب لم يستوعبها النظام الحالي الذي أوصل الأمور إلى مرحلة الفشل، سياسيا وعسكريا ثم سياسيا وشعبيا الآن.
وفي رأي الكثير من السياسيين السودانيين فإن معظم الحروب الماضية مع الأطراف الجنوبية كان يمكن تفاديها. كانت وعود الحكومة المركزية تحقيق انتصار عسكري تحت شعارات دينية وافتخار حزبي، ضمن معارك أحيانا لا علاقة لها بالجنوب بل بالصراع المستمر في العاصمة. من خلال حروب الجنوب سعت السلطة المركزية للإمساك بالشمال وعسكرة الدولة وتهميش الأحزاب المنافسة لها، وهكذا كانت العلاقة تتدهور حتى في أيام السلام.
أضاعت السلطات الفرصة الأخيرة في المصالحة التي عقدت قبل نحو خمس سنوات، حيث لم تلتزم الحكومة بالوفاء بكثير من وعودها. مثلا، وحسب الاتفاق منحت السياسيين الجنوبيين مناصب في الحكومة لكنها مجرد شكلية، فكانت تعين وزير الخارجية من الجنوب لكن تنقل صلاحياته إلى وزير الخارجية السابق تحت مسمى مستشار الرئيس. وهكذا انتهت التجربة، أو توشك على الانتهاء، بشعور عام عند السياسيين الجنوبيين أنه لا فائدة من التفاهم مع حكومة الخرطوم.
لماذا فعلها النظام في السودان في الوقت الذي يعاني من إشكالات دولية وفشل على الجبهة في الجنوب؟ في رأيي هي مشكلة طبع، أي أن طبيعة النظام في تفكيره وسلوكه لا يستطيع التصرف بعقلانية رغم كثرة خسائره وتراكمها. فهو الذي جلب على نفسه الملاحقة والمحاكمة في الغرب، والآن يتسبب في فصل نصف البلاد، بعد أن كان له معالجة معظم الخلافات بالعمل السياسي العقلاني. وتلوم الخرطوم الغير على فشلها، وهذا جزئيا صحيح. فهناك من يريد أن يرى السودان ممزقا، وله مصلحة في تخريب وضعه السياسي ووحدته، وهذا أمر متوقع في ظل النزاعات الداخلية والإقليمية والدولية، وكان المنطق يقول بالتعامل معها بحذر، وحرص حقيقي للمحافظة على الوحدة الوطنية. إنما من يعرف كيف تدبر السلطة شؤونها في الخرطوم لا يتوقع منها أن تحقق حظا أفضل في إدارة شؤون جوبا، عاصمة الجنوب.
ربما بقي القليل من الوقت لكنه يستحق بذل كل الجهود لإقناع الجنوبيين بالاستمرار والمحافظة على سودان موحد، خصوصا أن انفصاله لن يضمن له وضعا أفضل في منطقة دائما مضطربة، ونظام اليوم ليس حكما أبديا.