د.الشفيع خضر سعيد
نحو أفق جديد
ضل الفيل وكيفية التغيير
الناس في السودان، لم يعودوا بحاجة إلى قراءة المقالات المدبجة والإستماع إلى الخطب المفوهة، والتي تركز على وصف وتشخيص الواقع المأساوي الذي يموتون فيه يوميا، هم والوطن. فالمعاناة الحياتية والمعيشية إخترقت لحم المواطن ونخرت عظمه، في كارثة حقيقية لا ينكرها إلا المتسببين فيها من الحكام، ومنهم أصحاب البصيرة العمياء والعقول الزائقة، اللذين لا يرون في الشعب السوداني إلا مجموعة من الشحاذين والكسالى المتعطلين، ويجهرون بذلك في جهل وجهالة مقيتة. ومنهم علماء السلطان الذين ما فتئوا يزينون الباطل ويفتون حسب أهواء الحاكم ومصالحهم، إرضاءا للسلطان وإبتعادا عن الله وهم يعلمون!. ما يحتاجه الناس هو البديل والوسيلة لتحقيق هذا البديل، وهمهم الرئيس هو رحيل هذا النظام لصالح تركيبة سياسية جديدة تضع حدا للحرب الأهلية، وتسيد الديمقراطية والحريات والإعتراف بالآخر، وتؤسس لنظام حكم جديد يصون كرامة الانسان ويزيح عن كاهله معاناة شظف العيش، ويوسع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا وتهميشا.
والناس في السودان يشهدون بأم أعينهم جسم الإنقاذ وقد تخثر تماما، وما من موضع فيه إلا وأصابه التقيح والتقرح وبدت عليه علامات الموات. وهم مقتنعون بحتمية التغيير وبضرورة الإسراع به، درءا لكارثة التفتت والتمزق والموت جوعا. وفي الحقيقة، ما أن يلتقي إثنان إلا وكان ثالثهما الوطن وسؤال “البلد دى ماشة لى وين…، والبحلنا شنو؟”. لذلك تتصاعد وتيرة الجهر بالتغيير في أوساط السياسيين والمثقفين، ووسط المتضررين وأصحاب المظالم، ووسط الشباب الذين ضاقت جداريات الفيسبوك بكتاباتهم. بل وتعالت أصوات المطالبة بالتغيير حتى ممن كانوا الأمس من خلصاء النظام وحماته ومنظريه. وفي كل المنابر، في الواقع أم في الأسافير، تحتدم مناقشات جادة تجاه ما وصل إليه حال الوطن، وبهدف البحث عن البديل. وفي معظم هذه المناقشات تطرح تساؤلات، أغلبها يبتدئ بأداة السؤال كيف: كيف يستعيد الشعب زمام المبادرة ليحدث التغيير المنشود، ويخلصنا من قبضة الفساد والإستبداد؟، وكيف نبني أدوات وآليات التغيير؟، كيف نصنع البديل وكيف نبني وسائل تحقيقه؟،… كيف… وكيف…؟!. كما تثار أسئلة أخرى تعبر عن قلق شديد تجاه مآل الحال في البلاد، وفي الذهن سوريا واليمن وليبيا، أو ربما حالة خاصة جدا إسمها السودان وحربه الأهلية المستدامة ومليشياته المتنفذة. أما إذا أردت المساهمة في الإجابة على سؤال كيف، فأقول أن أي فرد منا، السائل والمجيب، يمكن أن يساهم في الاجابة، ولا يوجد مرشد أو دليل (manual) جاهز لكيف يتم التغيير أو كيف تبنى أدواته، وأن الإجابة الأقرب إلى الصواب تأتي نتيجة جهد جماعي، في المؤسسات والمنابر المعنية. وأعتقد أن أي إجابة تدعي الصواب، لا بد أن تكون ملهمة للشباب المتشوق للتعبير عن رفضه لأي ظلم، حتى يضاعف من قدرته على حسن إدارة الوقت والاستفادة القصوى منه، وحتى يقمع أي احساس باللاجدوى، ويقتنع بأن أي عمل في هذا الواقع، المتشعب المشكلات، مجدي. وبالطبع، أنا هنا أتكلم عن الذهن المفتوح لإستيعاب الآخر، المتفق في الهدف وإن اختلف معه آيديولوجيا، الذهن الذي يشرع الأبواب لكل ما هو مطروح للمقاومة وتثوير الشعب من أجل إقتلاع الحقوق وتحقيق حياة تليق بقيمة الإنسان.
أهل السودان يفكرون بطرق مختلفة ويرون الأشياء من زوايا مختلفة، ولكنهم يسعون لتوحيد الأهداف الأساسية التي تسمح بتعايشهم السلمي الذي يحفظ لكل منهم تماسكه الوجداني، وكرامته الإنسانية، بل وتطلعاته الإقتصادية. فنحن نتوق للديمقراطية تحت ظلال السلام والأمان، حتى نبني الوطن وننعش التنمية ونؤهل الأجيال الجديدة. وحتى الذين أصابهم ضرر من ممارسات الإنقاذ، ورغم ما حل بهم من ذل وعسف وظلم، فإنهم لا يهددون بحملات الدفتردار الانتقامية، بل يطرحون قضايا ربما يتفق معها الجميع، عدا المؤتمر الوطني!. قضايا في جوهرها، تنص على قيام نظام حكم ديمقراطي لا مركزي، يحقق المساواة على أساس المواطنة، ودون أي تمييز بسبب الدين أو العرق أو الثقافة أو النوع، ويكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان وسيادة حكم القانون وإستقلال القضاء والفصل بين السلطات، وينتشل المواطن من شظف العيش، ويضمن العدل في إقتسام السلطة والثروة مع تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي للأقاليم والمناطق المتضررة بالحرب….، هل من عاقل حادب على مصلحة الوطن يمكن أن يرفض هذا الطرح؟.
لكن، وعلى الرغم من صُفرة الموت البائنة على وجه الإنقاذ منذ فترة، فإنها لا تزال تحكم، وهنا المفارقة (paradox)!. ونحن في هذا المجال، غير معنيين بتشريح ومناقشة هذه المفارقة، فقد تناولناها أكثر من مرة وفي أكثر من موقع. ولكنا نقول، أن هذا النوع من المفارقات، إذ يتعارض مع طبيعة الأشياء ويخلخل الناموس الذي يربط ببعضها البعض، يجعل من المحتم حدوث فعل معاكس يلغي ذلك التعارض، ويعيد ذلك الناموس إلى وضعه الطبيعي ودوره المعهود. وقطعا سيأتي هذا الفعل المتوقع، وستكتمل دائرته، عندما يتوحد الناس في أوسع إطار ممكن، ويضعون نصب أعينهم تحقيق هذا الفعل المعاكس. فالثابت أن نقطة تقاطع خطوط الفعل المقاوم الذي يقوم به هذا الفصيل وتلك الحركة المطلبية وذاك التحالف الشبابي، هي النقطة التي سيحدث عندها التغيير. وتقول التجارب، أن نقطة التقاطع هذه لن تتجسد على أرض الواقع إلا عبر إنخراط الجميع في عمل قاعدي واسع يمثل صمام الأمان لهزيمة أي مخطط إجرامي لصالح مجموعة بعينها تسعى لإختطاف الوطن، محتكرة السلطة والثروة ومتحكمة في إدارة المجتمع، ولهزيمة أي محاولة لإغراق البلاد في مستنقع التعصب الإثني والنعرات القبلية، وهزيمة أي محاولة لزعزعة الثقة في الحلول التي تضمن التعايش السلمي وثقافة المشاركة والتفاعل في أمور الحياة. ويشكل العمل القاعدي الواسع دفعة إيجابية لإسترداد زمام المبادرة لمجابهة تحديات ما بعد نكبات الحرب الأهلية وإنفصال الجنوب، بدلا عن مواصلة البكاء على اللبن المسكوب. فالوطن بخريطته الجديدة يعج بالكثير من التحديات، ومازالت هنالك مخاوف من ظهور خرائط جديدة أخرى للوطن، وفي نفس الوقت، أبدا لن نفقد الامل في عودة خريطة الوطن الأم.
وبالعودة إلى الفعل المقاوم، نقول هناك من يفكر بطريقة راديكالية، أي تنفيذ فعل سياسي مباشر يؤدي إلى التغيير. وقد تشمل خيارات هولاء، الانتفاضة الشعبية السلمية أو المسلحة، العصيان المدني، الانقلاب العسكري، أو المقاومة المسلحة. ونجد آخرين يفكرون بطريقة إصلاحية تهدف لتقويم النظام دون الإصطدام معه، فيعمدون إلى الحوار، اصداء النصح، التنبيه إلى ملفات الفساد، والحد من الشطط والعسف السلطوي، محاربة الغلاء بمقاطعة السلع…الخ. وما بين هاتين الطريقتين، هناك الكثير من مناهج التفكير الأخرى، تتشكل بحسب الرؤى والمشارب الفكرية، ويعبر عنها بالتاكتيكات المختلفة، وإن كان لها هدف واحد هو إحداث التغيير في البلاد. ولعل الاستنتاج الرئيسي هنا، هو أهمية وحتمية تكامل الأدوار والتاكتيكات المختلفة للأحزاب والكيانات المختلفة لتحقيق هذا الهدف الواحد.
لكن، من المهم جدا التشديد على أن أي دور من هذه الأدوار ليس بالضرورة أن يكون سياسيا، أو يبتدئ سياسيا، وإن كان في الغالب سينتهي سياسيا. فالتغيير ليس له مسار واحد، ولا يجب أن نطلب من كل الناس أن يكونوا سياسيين، أو نحدد لهم الهدف النهائي كما نشتهيه نحن. مثلا، الآن ارتفعت حدة الصراع السياسي في البلاد بسبب الحرب الأهلية المشتعلة في الهلال الدامي، واصبحت هنالك كثير من المخاوف من الصوملة أو الحالة الرواندية. فتحركت جهات عديدة، حركات واحزاب سياسية ومنظمات غير حكومية، في اتجاه رفض هذا الواقع. لكنا لا نشترط أن تعبر هذه الجهات عن مطالب خارج نطاق تخصصها. فالأحزاب السياسية مثلا، ترفع مذكرات تدين الحرب، تدعو إلى المواكب، تنادي بمؤتمر دستوري..الخ. ومنظمات المجتمع المدني تكوّن شبكات وقف الحرب، تتقدم بالعون الانساني للنازحين والمشردين من جراء الحرب، وهكذا. أما الإحتجاجات المطلبية، كإحتجاجات السدود أو الأراضي أو محاربة الغلاء، فإن سقف حراكها محدود بشعاراتها المطلبية والتي ليس من بينها إسقاط النظام، ولكنها كفعل إحتجاجي إجتماعي تضغط على مافيا الفساد والإستبداد، وتعري سياسات النظام وتخلخل بنيتة، وتجعله في مواجهة مع المواطنين مما يكسب فعلها أبعادا سياسية. لنأخذ مثالين، تطرقنا لهما في مقالات سابقة: قبل فترة دعت جمعية حماية المستهلك إلى مقاطعة شراء اللحوم بعد تضاعف أسعارها، مبتدرة بذلك فتح جبهة محاربة الغلاء. كثيرون إنتقدوا هذه الدعوة، ومن منطلقات مختلفة. فهناك من يرى ان الحياة في السودان تحتاج إلى مقاطعة شاملة وليس شراء اللحوم فقط، وهناك من يرى أن المقاطعة ستؤثر فقط على شريحة الجزارين وهم ليسوا المتحكمين الفعليين في الأسعار، وهناك من إرتاب في دوافع الحملة لأن الحكومة أيدتها!!، وهناك من قال إن جمعية حماية المستهلك “عينا في الفيل وتطعن في ضلو”، مشيرا إلى أن الأجدى هو الدخول مباشرة في معركة إسقاط النظام. والقول الأخير يشترط على الفعل اللازم، أي مقاطعة اللحوم، أن يتعدى محاربة غلاء السوق ليسقط النظام، محملا هذا الفعل فوق طاقته. فالجهة التي صدر منها الفعل ليست كيانا سياسيا، وليست معنية بتبني شعارات الأحزاب والتنظيمات السياسية. أما حملة مقاطعة اللحوم في حد ذاتها، فقد لا تؤدي إلى أكثر من تخفيض أسعار اللحوم، وربما مؤقتا، ولكنها من جانب آخر تمثل إختبارا حقيقيا لإستجابة الشعب لنداء التوحد، لا تحت شعار موحد فقط، وانما في حراك عملي موحد لإنجاح فعل إحتجاجي ضد سياسات النظام. وبهذا الفهم، فإن حملة مقاطعة شراء اللحوم، أو أي سلعة أخرى، ليست “شتارة” وإنما جبهة أساسية من جبهات الصراع السياسي/ الاجتماعي. ثم أن إنجاز فعل التغيير السياسي لن يتم من فعل واحد ومن جهة واحدة ومن أول خطوة، وإنما، عبر الحراك الجماهيري المتصاعد والموحد كمحصلة تحركات متعددة ومتنوعة ومن جهات مختلفة، فيها السياسي وغير السياسي. كما أن أي تاكتيك سياسي يحصر نفسه فقط في هذه الدرجة من المباشرة: فعل سياسي يؤدي إلى اسقاط النظام، يضع نفسه في مأزق نفسي خطير. أولا، لأنه يظلم الجماهير التي تريد ان تشارك في أداء الفعل بتحميلها مسؤولية الفشل وإشعارها بالعجز السياسي. وثانيا، لأنه يقلل من قيمة الفعل في تصعيد الحراك الجماهيري. إضافة إلى أنه سيحرم الفعل السياسي من مجموعة أفعال مساعدة تمكنه من الوصول إلى تحقيق المشتهى. أما تهافت حكومتنا على تأييد دعوة مقاطعة اللحوم، فلا يعكس التحامها بالشعب بقدر ما يعكس مدى الخوف من تحركه، كأنما المباركة ستعطيها صك براءة من تسببها في الغلاء الفاحش وضنك المعيشة. لكن، الشعب يعرف أن “غول” الأسعار هو صنيعة وتربية الحكومة في حظيرة سياساتها الاقتصادية البعيدة عن هموم الجماهير، وفي تورطها في حرب الهلال الدامي. كما إن نظرية مؤامرة القوى الخارجية الصهيونية، وفكرة العدو الخفي المتوهم، الذي يتلاعب بقوت الشعب، لا يمكن بلعها وهناك، 500 شركة حكومية تعمل متخفية في زي الشركات الخاصة، كما ذكرت الصحف، مما يعني الفساد ولا شيئ غير الفساد.
المثال الثاني مأخوذ من تجربة المناضل الهندي أنا هازاري. افترش هذا العجوز، المولود في 15 يونيو 1937، والمعجب بالمهاتما غاندي، إفترش بلباسه الابيض، وبسمته البسيطة، الأرض في حديقة راميلا العمومية بدلهي، معلنا اضرابا مفتوحا عن الطعام حتى يتم تحقيق مطلبه بتفعيل محاربة الفساد في الهند، وكان ذلك بتاريخ 5 أبريل 2011. في البدء، سخر كثيرون من هذه الخطوة، وشككوا في قدرتها على إحداث تغيير ما. لكن الحملة بدأت تحشد يوميا عشرات المؤيدين، ثم الآلاف منهم، مما شكل ضغطا سياسيا متزايدا على الحكومة الهندية. قالت احدى المتحمسات للحملة: “الفساد يزداد يوما بعد يوم في بلادنا، هذه فرصتنا للتنديد به، لأن هازاري قد لا يتكرر مرة اخرى، وأنا لا افعل الكثير بخلاف إهتمامي ببيتي وعملي، لذلك طلبت يوم عطلة لمساندة هذه الحملة”. وتحولت حركة هازاري من إحتجاج فردي محدود إلى نشاط جماهيري واسع أجبر الحكومة على الاستجابة إلى مطالبه.