بسم الله الرحمن الرحيم
أمير ابن الدُرَّه
للكاتب
نقدالله خليل احمد
ملخص :
تحاول الرواية أن تعبر عن أهمية القيم والعادات الموروثة التي تذخر بها الريف السوداني ، وعمق التمازج والانصهار بين مجموعة السلالات المكونة لهذا المجتمع ومايحتويها من مقومات تصلح لإنجاب المبدعين والمواهب في شتى المجالات الإنسانية .
وتحاول الرواية إبراز فشل النخب المتعاقبة في استثمار هذه المقومات واستنهاضها لبناء الوطن مما أقعدت البلاد عن ركب التقدم والازدهار وأدخلتها في صراعات وكوارث متتالية أخذت تاكل من هذا الإرث التاريخي العظيم .
تحاول الرواية أن تعكس كل ذلك من خلال تناول شخصية الفتى الريفي أمير وعلاقاته والبيئة الاجتماعية لقرية الدُرَّه التي أنجبته وصروف الأقدار التي آلت إليها حاله بفعل الممارسات السياسية للنخب الفاشلة .
الكاتب
امير هو الاسم الشائع لذلك
الشاب الطويل الأسمر الذي يدرس بقسم الفلسفة في الجامعة .
جاء امير من أسرة ريفية وهويحمل معه صفات إنسان الريف البسيط .
بشاشة امير وحسن مظهره ورجاحة عقله دفع بزملائه إلى إطلاق أسم أمير عليه تعبيراً عن التقدير والإعجاب بسلوك الفتى الغرباوي النبيل .
في بداية حياته الجامعية إنكبّ أمير على الاطلاع في أمهات الكتب الأدبية وكتب الفلسفة والعلوم ، وكثيراً ما كان يبهر زملاءه بالقصص والحكم والأشعار النادرة مما ساعد بدور كبيرفي تنامي الأصدقاء والمحبين حتى امتدت صداقته لتشمل معظم طلاب الجامعة وأصدقاء من الروابط الطلاب
ة من الجامعات الأخرى .
وبرغم عمّا يتصف بها شخصية امير من التحشم وروح التصوف فقد تمددت علاقاته لتشمل مجموعات من طالبات الجامعة وبخاصة زميلاته في الكلية وكثيراً ما تجده يشاركهنّ الحوار والمناقشة عقب المحاضرات والمنتديات حتى اشتهر عند بعضهنّ بأسماء خاصة تلقبنه بها كالحكيم والراهب . فهو إلى جانب ذكائه ورجاحة عقله يتميز بشيئٍ من روح الدعابة والمرح .
وقصة الراهب هذه وموضوعها هي أن هذه الحوارات والمناقشات العفوية قد تكثفت وتعمقت مع مجموعة خاصة من بنات دفعته وهن : إقبال الطالبة في السنة الثانية قسم القانون ، ابتهاج وهي في السنة الثانية قسم الإعلام ونصرة وتدرس في السنة الثانية قسم اللغات .
وأخذت جلساته تتكرر معهنّ كمجموعة في ساحة بابل التي تتوسط مباني كلية الآداب ، وكانت تتم بصورة مفتوحة يشارك فيها كل من يمر بالحلقة وينصرف متى ما شاء ويأتي آخرون . وكثيراً ما تنقطع وينفض السامر بحلول موعد المحاضرة أو سماع الآذان أو تعليق أحد الأصاب مازحاً بالاحتجاج على استهلاك امير والاستئثار به من قبل هذه الثلة ليجتمع الشمل غداً أو بعد غدِ وهكذا . فأطلق الطلاب على هذه المجموعة اسم الراهبات وبنات الراهب . وأطلقوا على ساحة بابل اسم بابل الراهبات . وسرعان ما اشتهر هذا الاسم وسط طلاب الجامعة . وقد قابلت المجموعة هذه التسمية بالرضى والترحاب وسعت وبمرور الأيام إلى التشكل في صورة مجموعة منظمة أخذت تتقمص الشخصية المثالية وتدعو إلى نشر القيم الفاضلة والصدق والمحبة وسط الأسرة الجامعية ، وامتد نشاطهنّ إلى الحدائق الداخلية للطالبات والتي قد تمتد لساعات طويلة في الأمسيات . وازدادت شعبيتهنّ وصبحن ينظر اليهنّ كصالحات انقطعن لنشر الكلمة الطيبة والمحبة الخالصة في التعامل داخل الجامعة . وسعت المجموعة إلى إصدار جريدة اجتماعية دورية تقوم بنشر مقالات وموضوعات تعالج قضايا الحياة الجامعية وبطاقات التعارف وإضاءات حول سير بعض الشخصيات الهامة داخل الجامعة . وقد استهلت الاصدارة نشاطها بسلسلة حلقات مع امير تناولت التعريف بنشأته الأسرية وعلاقاته داخل الجامعة ، وفي سؤال الصحيفة لإحدى الطالبات عن رأيها وعلاقتها مع امير قالت : في رأيي قد يكون لأمير جذور تربطه بعالم الجن إما أباه أو أمه ينتمي إلى ذلك القبيل . إن صفات أمير كلها لايمكن أن يجتمع في البشر العادي وخاصة فراسته وقراءته للأمور . وهذه الرؤية منسوجة في أذهان الكثيرين الذين يرون أن لأمير صفات ومواهب خارقة لا يمكن أن تتوفر كلها لدى بني البشر . وبجانب نشاطه الاجتماعي يعتبر أمير طالباً متميزاً أكاديمياً ، فهو ملتزم بصورة جادة في حضور المحاضرات والسمنارات ، وزبوناً معتمداً في المكتبة ، ويتمتع بعلاقات قوية مع أساتذته في الكلية ، وهو صاحب أعلى درجة تحصيل دراسي في كل عام ، ورئيس جمعية طلاب الفلسفة وقد سعى لتزويد مكتبة القسم في عهده بأمهات الكتب والاصدارات العربية والاجنبية عبر مراسلاته مع جمعيات الآداب في مصر وبيروت والكويت وغيرها . وبرغم ثقافته السياسية وسلوكه الاجتماعي يعتبر أمير مستقلاً في أفكاره عن الانتماء لأي من التنظيمات السياسية في الجامعة ، فهو لا يميل أبداً إلى السجالات والمناظرات القحة ، ولكنه مرحب به أين ما حلّ وفي جميع المنابر ، وكثيراً ما يقدم له الدعوات لتشريف المناشط المختلفة للروابط الطلابية وقد ترأس مبادرات عدة بغرض تنقية الممارسة السياسية داخل الجامعة من السوالب ونبذ العنف وتنسيق العمل وتنظيم الحملات الانتخابية فيما عرفت بمبادرات الأمير .
وبالحاح شديد من قبل جمهور من الطلاب وافق أمير على الترشح ضمن قوائم المستقلين وأحرز أعلى الأصوات من بين الفائزين وتشكلت اللجنة التنفيذية الجديدة واختير أمير سكرتيراً اجتماعياً للاتحاد . ورغم مرارة الهزيمة التي منيت بها قوائم التنظيمات غير الفائزة ، فقد أصدروا بيانات التهنية وأخصوا الأمير بأجمل العبارات متعهدين بمساعدته في كل برامجه الاجتماعية .
وفور الاعلان لقائمة الفوز سارعت الراهبات بالدعوة للاحتفال بفوز امير ضمن مقاعد الدورة الجديدة . وكان الاحتفال ملحمة طلابية فريدة امتلأت ساحة بابل عن جنباتها بالحضور على رأسهم مدعوون من الأساتذة والموظفين والطلاب . ودارت سجالات طريفة وجدال فلسفي بين المنهج النظري والممارسة التطبيقية في بناء المنظمات السياسية مستدلين بأمير نموذجاً لنظرية قيادة المجتمع من خلال السلوك الاجتماعي الرشيد .
وتحدث أمير شاكراً المحتفلين بفوزه ومنوهاً إلى أهمية ربط مؤسسة الجامعة مع المجتمع وتغطية جميع جوانبه بالمناشط الطلابية والقوافل لأصقاع السودان المختلفة بغرض العطاء والتعرف على البيئات والثقافات والعادات المختلفة للمجتمع السوداني . وقد أبلت الراهبات بلاءاً حسناً في إخراج الاحتفال بصورته التي نالت إعجاب الحضور وبخاصة دور الإعلامية الموهوبة ابتهاج .
وخلال مسيرة الدورة أبدت السكرتارية العامة احتجاجات بسبب ضيق فسحةالدار ومزاحمة الجمهور مما يهدر الوقت وبخاصة ديوان الأمير وشيرون بذلك إلى مكتب السكرتارية الاجتماعية الذي ظل محتلاً تماماً وبشكل دائم من قبل وفود الطلاب والطالبات مما دفع بقيادة الاتحاد إلى تخصيص ساعات النهار بكاملها لقضايا جمهور الطلاب وتحويل الاجتماعات والأعمال الإدارية الأخرى لساعات الليل .
وذات مرة جاء الراهبات يطلبن أمير بالانفراد في جلسة خاصة ويكون هو لوحده .
استغرب أمير لهذا المطلب الدراماتيكي المشروط ولكنه وافق قائلاً خير إنشاء الله ؟
وفي الجلسة تحدثت إقبال بطريقة جادة ومشحونه بالعواطف قائلة : تعمقت مسيرة معرفتنا بك يا أمير. وترسخت المعاني والنصائح التي أخذناها منك والتي أصبحت رسالة المجموعة وبرنامج حياتها . الصدق في القول والمعاملة مع الجميع وحب الخير لكل الناس حتى أضحى ينظر إلينا كراهبات يطبقن وصايا فيلسوف جديد و… تدخلت ابتهاج مقاطعة وكأنها رأت أن هذه المقدمة كافية لتهيئة أمير وسألت مباشرة : لماذا لم تتحدث لنا أوتبدي حتى إيماءاً علاقتك الخاصة بعنصر المرأة كجزء مكمل وشريك أساسي في الحياة ؟ هل ذلك لأن عالم الجن أرفع من عالم البشر ! انفجر الجميع بضحكة قطعت حديثها .
قال أمير : يازميلات تعلمن أنعلاقتي معكنّ تعتبر من أنبل العلاقات على نطاق الجامعة وبشهادة الآخرين . وأنكنّ بحق أقرب الناس إليّ ،وأنني ما تركت شيئاً لم أناقشه معكنّ في قضايا العلاقات العاطفية . المشكلة في رأيي ورأي الكثيرين هي أن علاقتي معكنّ قد أحجبت الجماهير الطلابية عن كنزٍ نادرٍ من الجواهر وبدلاً من أن تشرق ويعم أنوارها للجميع أخذت تغرق في عالم المثالية والخلق وتصعد بنفسها إلى آفاقٍ لا يمكن التطلع إليها .
وصمت قليلاً ثم واصل : إن هذا السودان المترامي الأكراف وتعدد مناخاته الجغرافية وكثرة قبائله وتنوع عادات وتقاليد سكانه يتطلب من المرء أن يتحلى بالتأني في الخوض في هذه الملفات . وأنكنّ ودون إطراء خيرة طالبات الجامعة وأنا أنتظر منكنّ أية مشورة تحتجن إليها في هذا الجانب . وطأطأ قائلاً ولكنّ غاية الشكر على هذا الكرسيّ الساخن الذي وضعتنّني عليه هذه الامسية .
تدخلت نصرة وكأنها رأتأن امير يريد أن يغلق هذا الباب وينهي اللقاء دون أن يتحصلن على ثمرة ما تريدين وقالت : كم أتمنى لوأعرف له مجرد خاطرة حول اية زميلة في الجامعة أو في خارجها حتى نسعىللتعرف عليها والتقرب منها . أعتقد أنها حتماً ستكون لها صفات عظيمة تفيدنا في حياتنا المستقبلية . والتفتت إليه قائلة : أقول صادقة لو أنك تقدمت إلينا نحن الثلاثة سنوافق على أن نزف إليك في يوم واحد . وأجابت زميلتيها بنعم وبصورة جادة تدل على الحزم .
وجد أمير نفسه في ورطة وغير مهيئٍ لإجابة يمكن أن تخرجه فاتجه إلى إقبال قائلاً : ماذا ترين أنت يابنت الطهطاوي ؟
قالت : الحقيقة أننا لم نتمكن أن نكتشف لك إشارة تدلنا على اهتماماتك في هذا الجانب إلا كلام العلم والفلسفة كما قالت ابتهاج . وبحق أنت لنا في مقام الأب والأخ والصديق . وأصدقك أنني فكرت كثيراً محاولة تحديد من هي التي تكون في مقامك ولكنني فشلت وبعد استخدام جميع أدوات القياس .والحال هذه لا مفر من استخدام نظرية الروح . اسمح لي أن اختار لك اختي نصرة هذه التي إلى جوارك . إنني واثقة من أنها تصلح لهذا الشرف ، وأحلف لكم بنها أصلح بنت حواء عرفتها في حياتي . وأشهد الله أنني لم أقل رأيي هذا لأحد من قبل ولوكنت رجلاً لجالدتُ دونها السيف .
تدخلت ابتهاج قائلة : والله سبقتني بها لو لم تقل هي لقلت نفس الكلام .
تسمرت نصرة في كانها وكأنها فقدت وعيها من الخجل ثم استقوت وكانها تتحدى قائلة : لو أن مهر أمير يعدل وزنه ذهباً ثم طلب مني أن ادفعه لقبلت ، ولو قال بأنه ينتمي إلى قبيل يسكن في جزائر المحيط لقبلت أن أطير معه وغطت وجهها بالمنديل . وانسحبت المجموعة وتركت أمير مشدوهاً في مكانه .
واحتجب الراهبات عن الظهور في ساحة الجامعة ليومين . وفي اليوم الثالث أرسل إليهنّ أمير لمقابلته في دار الاتحاد . وحضرن يتضاربن في مشيتهنّ وكأن أرجلهنّ لا تقوى على حملهنّ خجلاً مما يعتبرن أنهنّ أبدينها من وقاحة في الجلسة . وسلمن بأصوات متهدجة وجلسن وهنّ مطأطآت وكأنهنّ أتبن جرماً عظيماً .
صمت أمير برهة ثم قال في عبارات متقطعة : وحبسكن الحياء ! وهذه واحدةمن أعظم صفات المرأة . ومنظركنّ هذا هو اعلى درجات القياس . يسعدني جداً أن أرى هذه المكانة السامية لشخصي عندكنّ . ويشرق قدري الهدية ولو كانت أية واحدة منكنّ . الأمر ليس بالسهل وأرجو أن تعيننّي وتكنّ إلى جواري . الامتحان على الأبواب وسنتعاون في المراجعة وأتمنى أن نحقق جميعاً التفوق ولنا لقاء بعد الفراغ إنشاء الله .
انتهت امتحانات السنة ، وأعدت السكرتارية الاجتماعية للاتحاد برنامجاً للعمل الصيفي للطلاب يشمل تسيير القوافل الثقافية لأصقاع السوان المختلفة وقوافل صحية ورياضية في أحياء العاصمة القومية وبرامج داخلية لتجميل الجامعة . وتوزع الطلاب في تنفيذ هذه المناشط . وجاء تكليف أمير برئاسة القافلة المتجهة إلى الإقليم الشمالي عطبرة والدبة وكريمة ودنقلا .
وطافت القافلة وعلى مى شهر كامل أصقاع الإقليم وأقامت المهرجانات واللقاءات ونفذت برامج ثقافية وخدمية عكست صورة مشرفة لدور طلاب الجامعة تجاه المجتمع . وجاءت أيضاً فرصة سانحة لأمير للتعرف عن قرب على بيئة ذلك الجزء من السودان ، فهي المرة الأولى التي تطأ قماه تلك الديار وإن كان يملك جزءاً من الصورة في ذهنه من خلال التاريخ الموثق والاحتكاك مع بعض الزملاء القادمين من تلك المناطق . وكانت لمشاركة بنات الراهب ضمن القافلة أثر كبير في تنوير أمير بكثير من التفاصيل حول طبيعة وعادات المنطقة . وقد أعجب أمير وتعجب كثيراً من عراقة ذلك الجزء من السودان وأصالة سكانه . كما وانهش السكان في المناطق المختلفة من بلاغة هذا الفتى الغرباوي ونباهته .
وبختام البرنامج استجاب أمير لدعوة غداء تقدمت بها زميلة الرحلة نصرة لزيارة قريتها ، ووصل الوف في الصباح الباكر مستقلين عربة المجلس البلدي التي خصصت لخمة أغراض القافلة . وبرغم من أن الزيارة ليست جزءاً من البرنامج الرسمي فقد فوجئ الوفد بالحشد الجماهيري الكبير أمام منزل الأسرة لاستقبال الضيوف . وأقام الوفد لقاءاً مفتوحاً مع أهالي وأعيان المنطقة تحدث إليهم أمير رئيس القافلة محيياً عبر مكبر الصوت المجهز في العربة أهالي القرية معبراً عن مفاجأتم السارة بالاستقال الحاشد والترحيب الحار بوفدهم رغم أن هذه الزيارة ليست جزءاً من البرنامج الرسمي للقافلة ولكنها جاءت تلبية لعوة اجتماعية من الزميلة سكرتير القافلة ، وحث على الاهتمام بتعليم الأبناء ،وتحدث عن دور الجامعة واسهامها في بناء المجتمع ، وعن أهمية الإنسان ودوره في خدمة المجتمع وإعمار الأرض ،وتحدث عن أصول هذه الأمة وقيمها وعااتها الاجتماعية الراسخة . وتطرق إلى انطباعاته الشخصية والصور التي شاهدها عن إنسان الإقليم ، وقال إن الصورة عنده قد اكتمل بمشاهدته لهذه الحفاوة وأنه قد رأى صفحات من هذه الأصالة من قبل من خلال تعرفه على ابنة المنطقة الأنموذج نصرة . وقال إن الاستقبال إن دلّ إنما يدل على مكانة هذه الأسرة وسط قومها وحبهم وتقيرهم لابنتهم التي عرف الوفد أنها أحد أعضاء تأسيس ذلك المسجد الشامخ الذي يقف معلماً بارزاً وعنواناً للقرية . وبشر بأن هذا السودان الفسيح واعداً بالخير الوفير ويحتاج إلى كل السواعد المدربة من أمثال الطالبة نصرة ابنة المنطقة وأن الزيارة جاءت تعبيراً ووفاءاً لمكانة هذه الطالبة وسط زملائها طلاب الجامعة .
وتحدت نصرة محيية أهل قريتها على حسن الاستقبال الذي رفع رأسها أمام زملائها الضيوف ، شاكرة الضيوف على تلبيتهم لدعوتها رغم أن الأمر ق كان خارج البرنامج الرسمي مثمنة الهدايا القيمة التي تبرع بها الوفد للمدارس وفريق الشباب ومسجد القرية والمركز الصحي . وقالت مخاطبة أهلها : أن الذين ترونهم أمامكم هم خيرة طلاب الجامعة وقادة المستقبل بلا شك وأنها إذ تتعامل مع هذه القامات السامية تدين بالشكر الجزيل التي أرضعتها وسلحتها بالقيم والأصول للتعاون مع الآخرين . وأنها في حلها وترحالها تعلم جيداً أنما هي إلا بنت بيئتها . وتحدث عدد من الأعيان الذين عبروا عن دهشتهم للفهم الكبير من طلاب الجامعة لقضايا الوطن ، وطالبوا بأن تنال القرية حظها في القافلة القامة .
يقول أحد أعضاء الوفد أن الترتيبات بحق كانت معدة إعداداً دقيقاً . وقت للراحة والاستجمام ، ووقت لتجاذب الحيث ، ووقت لتناول الطعام والشراب وأداء الصلاة . وأما المائة فقد كانت لوحة كاملة تعكس خيرات وامكانات هذه المنطقة وعادات وتقاليد سكانها في صناعة الأطعمة وأساليب تقديمها . وبعد العصر خرج أمير برفقة أحد أعيان القرية للتعرف على بعض المعالم الأثرية . وعند قفولهم راجعين استأذن أمير لزيارة المقابر القديمة للقرية . وعند الوصول لموقع المقابر ترجل وتقدم رافعاً يديه بالدعاء ثم أجال بنظره بعيداً وقلبه متلفت وكأنه يتفحص مرقداً لعزيز ثم همهم يرحمكِ الله .وانصرفا راجعين . استغرب الرجل المرافق لهذه الخطوة من الضيف الغريب وسأل : اراك يا استاذ تقول يرحمكِ الله ؟ أجاب مسرعاً أقصد المقبرة .
وقبيل المغارة تقدم الضيوف لتحية العمات في الداخل ، وبعد السلام والتعريف التفتت والدة زميلتهم نصرة إلى أمير سائلة : من أين أنت يا سيّد ؟
قال : من قرية الدُرّه في غرب السودان .
قالت : وأين الست والدتك ؟
قال : الشيخة حيّة .
قالت : يمدّ الله في أيامها . إذا ذهبت بلغها السلام .
قال : يبلغ يا أمي .
وفي وداع أم نصرة لضيفاتها الطالبات قالت : زميلكم الأخضر هذا ابن أصول !
أجابت إقبال : بزهوٍ هو أمير .
قالت : أمير الجامعة ؟
قالت إقبال : لا أدري ربما يكون أميراً لجزر المحيط ولكن والله يا خالة إذا تقدم يطلبنا أنا وصويحباتي نرسل لكم تلحقونا عندهم وضحكن .
ارسلت ام نصرة ابتسامة تبدو عليها الدهشة من هذه الشفافية والمزاح مع صديقات ابنتها اللائي قاربن أن يصرن صديقاتها في يوم واحد قائلة صلاة النبي عليه .
وغادر الوف بعد المغيب تحت واع حار من الأهالي وكأنهم مبتعثون لتمثيل القرية في محفل عظيم .
وبنهاية البرامج وعودة الوفود أقام الاتحاد احتفالاً ضخما بمناسبة ختام العمل الصيفي للطلاب ، شرفه بالحضور وزراء التعليم والثقافة ومدراء الجامعات ولفيف من الأكايميين ورموز المجتمع وقامى الخريجين من الجامعة . وقد سميت ورة الاتحاد تلك بدورة صداقة الجامعة والمجتمع وتم تريم أمير في الاحتفال ، وقلده مدير الجامعة وسام الطالب المثالي وهي المرة الأولى التي تحدث في الجامعة .
وفي مكتبه بار الاتحاد التقى امير مع بنات الراهب واللائي حضرن للتهنئة بانجازات العمل الصيفي والتكريم ، وابلغنه بعزمهنّ السفر إلى رفاعة لمرافقة إقبال وزيارة أهلها . وأثناء الدردشة سألت نصرة : ما سرُّ زيارة المقابر ؟
قال : تريدين كنه ما وراء الظلال ؟ الغرض زيارة جدة أم الخال ! وضح الجميع . وبادرت نصرة بتسجيل العبارة وهي تقول جدة أم الخال! وداع يا أمير .
قالت إقبال : سوف لن تتأخر الهدية .
قال أمير : إذن رافقتكنّ الهداية . وانصرفن .
أيام الفراغ التي اعقبت نهاية العمل الصيفي استعداداً لاستئناف الدراسة قد أعطت أمير فرصة للاستجمام والتفكير بهدوء في معالم الحياة المستقبلية التي بدات تزاحمه بتصوراتها وتتجاذبه الامواج فيها بين اتجاهين : اتجاه تدفعه نحو مسئولياته المنتظرة تجاه أهله وقريته الذين يحدوهم الشوق لعودة إبن كبيرهم من غربته التعليمية ليكون النجم السابع عشر لصليل قادة العشيرة الذين سطرت لهم الأمجاد والمواقف في ديوان الأسرة . واتجاه أخر تجذبه نحوالانضمام إلى الحياة المدنية المعقدة والمليئة بالتحديات والأمراض رغما عما يرى فيها من رغد العيش . واستحضر في خاطره ذكرى إحدى جداته البيرق التي وجد قصتها في الديوان وكيف أنها بعد زواجها من ذلك الرجل الغريب البحاري قد وافقت على تفويض سلطتها الأسرية لأختها والسفر مع زوجها لبلاد البحر وانقطعت عنهم الاخبار بسبب الحروبات التي نشبت في اتجاه البحر في تلك السنين . وأصبحت هي الأميرة المفقودة في ديوان الأسرة .
جاءت نصرة بعد أيام من السفر لوحدها وأرسلت على الفور في طلب أمير . واستقبلت وهي ممتلئة حيوية ونشاطا وكأنها تريد أن تبشر بمعنويات وذكريات عن الرحلة . وقالت : الاخوات يبلغنك عاطر التحايا . ابتهاج سافرت إلى والديها في كسلا ، وتأخرت إقبال في الحلة وقد أعطتني رسالة لأوصلها لك . ومدت الرسالة .
في الرسالة :
الاخ امير .
بعد التحية .. نبلغك بأننا وجدنا الأهل كلهم بخير ولكننا افتقدناك يا سيد ..
اصبحنا وكأن الحياة مهما تحلو لا تكتمل إلا في حضرتك ..
أختي الصغيرة زحل تبلغك السلام وتقول لماذا لم تحضر كما وعدتها في السابق . ابتهاج سافرت إلى كسلا لزيارة اسرتها وأنا تأخرت لمرافقة الوالدة وزيارة أخوانها في البطانة .
مرسل لك الهدية عسى أن تسليك ! ودامت سعادتكما .. اقبال .
تبسم أمير وقال : صويحبات يوسف . حمدالله على السلامة . وأنا والله مشتاق إليك .
أرسلت نصرة ابتسامة مليئة بالخجل : تقول والله ؟
قال أمير : نعم وأنا قد تأكدت من عزيمتك الجبارة في هذا الأمر . هل تعلمين أن صورة الصداقة التي نعيشها في الجامعة هي اعلى بكثيرمن الواقع المعاش ؟ أنا فكرت قبلكِ في هذه القضية وكان ممكن ان افاتحك النقاش فيها ولكن اصدقك ما كنت اعتقد انك بكل هذه القوة والعزيمة في مثل هذه الموضوعات . وقد آثرت أن لا افتنك في مشوار لا تستطيعين أن تقوى على السير فيه . واصدقك ما كنت احمل الصورة الكاملة لديار منشأك قبل زيارتي الأخيرة لتلك الأصقاع . وأسألك : هل مع كل هذه التفاعلات في الجامعة والمجتمع وانت أنت التي اراك امامي بدون أية مواقف سابقة في هذا المجال ؟
قالت بصوت متهدج : كل الذين زاملتهم في حياتي يقولون لي أنت تصلح ، ولكن لم يقل لي أحد قط أنت تصلح لي . أجزم ياأمير ما من أحد يستطيع ان يقرعك بالحجة والبرهان أو يبزك في السلوك واسلوب التعاون مع الآخرين . وأهلي هم الذين رأيتهم سريرتهم علانيتهم وهم يا أمير افضل لهم ألف مرة هذا الشرف بدلاً من ان يروني هائمة بقية حياتي أروغ حافية أمصُّ شعراتي من الندم .
قال مقاطعاً : حاشاك لا تغرقي في هذه الصوفية . هل فكرت جادة في أن تكون شريكتي
اضطربت وقالت : والله كل ما أحاول التفكير في هذا الكلام أرتجف وأهرب وأحس بالحمى . أطلب منك طلب يا أمير : إذا كان لكم معارف هنا بالعاصمة أرجوك أن تعرفني بهم .
قال : لعلك تريدين صحبة صبايا من بنات أبي مرة ؟
قالت ضاحكة لا والله ما عاد يهمني ذلك . فقد صرت مجنونة ولا أخاف من الجنون ولكنني أريد مصاحبة أخوات من معارفك .
قال : وستورين الدرة في الإجازة القادمة ومعك صويحباتك ؟
تهللت : أنا أوافق على تلبية الدعوة .
قال : لا . أنت تصلح لإنجاب البيرق .
ضحكت : ولم لا يكون أمير ؟
قال : لا . لأنها هي التي ستقلده الخاتم في مرسم قرانه ولابد أن تكبره سناً والسلام .
في بداية العام الدراسي الجديد ، وذات يوم قدّم امير الدعوة لزميلاته الراهبات للمشاركة في مناسبة اجتماعية في منزل أحد أقاربه بحي الثورة بمدينة أمدرمان . وهي إحتفالهم بقدوم مولود جديد “الطاهر” . وقد جمعت المناسبة لفيف من الأهل والمعارف . وما لفت انتباه الراهبات في المناسبة هي مكانة امير وسط أهله الذين كثيراً ما ينادونه بابن الشيخ ، كثرة مناداته من قبل العمات في داخل الدار للسلام عليه واللائي غالباً ما يقلن إنشاء الله يحمل الاسم . وهو يرد اسم الشيخ انشاء الله .
وفي المناسبة تعرفت الراهبات على عدة صديقات من معارف أمير . وخاصة زبيدة طالبة القانون والتي كانت تجالسهنّ طوال اليوم . وعند حضور أمير مرة للسلام على بعض العمات شاغلته زبيدة مبتسمة ، أبا كوكب ما أحلى العصافير ! تبسم ولكنه لم يرد بكلمة .
وكانت نصرة تتوق بكل حواسها لمعرفة أي شيئ وكل اللائي رأتهن في المناسبة ولكنها تحاول أن تخفي اية إشارة تدل على مشاعرها ، ولم تتحرك من مكانها إلا مرات قيلة مخافة من لفت النظار إليها . وأما صديقتيها فقد غرقن في المجاذبات والتنقل مع الصديقات الجدد والمشاركة في الخدمات كشأن البنات في كل مناسبة .
وقد مثلت تلك المناسبة فرصة تعرفت من خلالها الراهبات على جدد ، وتلقين الدعوات لتبادل الزيارات . وبخاصة الصغيرة لمياء أخت المولود المحتفى به والتي أصرت على الهاب مع صديقاتها الجدد زميلات إلى الجامعة بنهاية المناسبة ولكنهنّ أقنعنها بصعوبة بأنهنّ سيأتين لاصطحابها في يوم الخميس بعد نهايةالدراسة لتمكث معهنّ حتى مساء الجمعة . كما سرهنّ عبارات الوداع الجميلة التي قالها التاج والد لمياء وسماهنّ صديقات الأسرة مطالباً بأن يستمر تواصلهنّ مع الدار ، وأنه سيقوم بدعوتهنّ في يوم خاص آخر ووافق بأن تذهب معهنّ لمياء في ايام العطلات للجامعة لأنها ستكون يوماً ما هناك .
واستمرت السكرتارية الاجتماعية في دورها كجسر واصل بين الاتحاد وجمهور الطلاب ، واستمر أمير في قيادته للمبادرات الفريدة وشارك بإعداد عدة أوراق علمية في سلسلة سمنارات أقامها الاتحاد لإعداد التصور العام لدور الاتحاد في ترقية البيئة الجامعية وقيادة التغيير في المجتمع .
ذات يوم حضر الراهبات إلى نجائل بابل وأرسلن إلى امير .
وحضر ووجدهنّ جالسات ومطأطآت وكأنهنّ تلقين نبأً بنعيٍ أليم .
سلم وسأل : ماذا جرى ؟
قالت ابتهاج : أجلس . خير إنشاء الله .
قال :اللهم اجعله خير .
وبدأت بالحديث وهي المعروف عنها إنها دائما ما توصل ما تراها بأقصر الطرق وأفصح العبارات قائلة :
امضينا نهار الامس في زيارة قريتكم زبيدة . سألناها فيما نريد أن نعرفه عنك .
وأجابتنا علي كل الأسئلة : عن اصل جدكم الاكبر الذي كان احد الاركان لمملكة كنشأت في افريقيا علي ساحل المحيط استمرت لقرون . وانه بنى في تلك المملكة إرثاً عظيماً وعمراناً وحقول وحدائق كانت حديث المملكة في زمانها . وأن المملكة انهارت عندما هاجمها الرجال البيض بالسفن الحربية وغادر جدكم مع أهله وحشمه إلى منطقتكم الحالية الدرة . واستقر فيها عمرها أحسن التعمير ، وأنشأ لها نظاماً إدارياً يتعاقبها صليل أبنائه . وذكرت لنا أن جدكم كان له صفات وقراءات خارقة كان قد ورثها من آبائه . وكان يقول أنه سيأتي من بعده بزمان ابن له يشبهه في صفاته وسيرته . يجمع الشمل ويزدهر في عهده الديار إزدهاراً عظيماً ، ويحدث في عهده ابتلاءات عظيمة كما حدثت له . وقالت لنا إن أمير الي اسمه هو اسم لك الجد ، وكذلك اسم والدته وصفاته المعروفة وسط العشيرة منذ ميلاده جعلهم يتنبؤن بانه هو حلمهم المرتجى وذلك ما ترونه من اهتمام الكل به .
وواصلت ابتهاج قائلة : وسألت زبيدة وأنت تعرفي كل هذه السيرة ولا تتشبثي بعناقه ليختارك إحدى الفائزات وأنت يتمناك أي أحد ؟ اجابت لنا ياليت وإذاً لحملت امير على كتفيّ ولكن ديوان الأسرة لا يسمح لأمير الإقتران إلا بمن لها صلة رحم مباشرة من ناحية الأب او الام او كليهما .
وقالت إن كل الذين رايناهم يوم المناسبه من الرجال والنساء لا يقول احدهم أنه يجتمع مع امير في صله رحم مباشره ولكنهم جميعا أبناء فروع من ذلك التاريخ مسجلين في ديوان الأسرة ويتشرفون بتعاقب هذه السلالة في قيادة شؤنهم الأهلية . وقالت أن الجد الأكبر ومعه خمسة عشر أميراً تعاقبوا على قيادة الأسرة ، الآن يقع مرقدهم في وسط القرية في مقابر منظرها يوحي بأنها لعظماء قلدهم التاريخ . سكتت ابتهاج برهة ثم قالت : أكل هذا صحيح يا أمير ؟
أطرق أمير متواضعاً وقال :هي صادقة .
قالت ابتهاج :والله يا أمير منذ أن تعرفنا عليك كنا نجتهد لنعرف عن حياتك الخاصة. من أنت من بين بني البشر . ولكننا لم نتحصل على هذه المعلومات واجتهدنا وقالوا وللمجتهد أجران ، وإزاء الحال فنحن نعتذر لك .
قال أمير : أفصحي يا بنت كرومة ؟
قالت : نقفل موضوعكما مع نصرة ، ونكونوا أحد فروع العشيرة .
وهنا انتفضت نصرة والتي ظلت صامتة طوال الجلسة قائلة : والله لن أتنازل عن أمير وهو يمتلك كل هذه المعلومات من قبل . وانحنت إلى إقبال التي إلى جوارها ، وقدأخذت صديقتيها هن الأخريات تمسحان الدموع بالمناديل .
قال أمير : وصدقت نصرة . ومسح بيده على ظهرها ولم يعهد له قط إلا مس كفها في مصافحة السلام . و انصرف .
في الأيام التي تلت هذه الجلسة حست نصرة وكأن مشاعرها تجاه أمير أصبحت أكثر ثقة ورسوخا من أي وقت مضى . وأخت تشعر كأن هناك قوة سحرية تقف معها تدفعها للتغلب على الصعوبات التي تواجه مشروع حياتها مع أمير . وبدت أقوى شجاعة من زميلتيها اللائي قاربن على أن يلقين السلاح . وأضحت هي التي تحضهنّ على الاستمرار في مواصلة الزيارات مع صديقاتهنّ من معارف أمير . وتغريهن وتلح على عدم التهرب والتطرق للموضوع في أي جلسة يجمعهنّ مع أمير . وبدت تظهر في الجلسات التي تجمعهنّ مع أمير وفي قاعة المحاضرات أكثر حيوية وشاطاً وطلاقة في المناقشات العامة . عكس صديقتيها اللائي أصبحن لا يكدن يجدن ألسنتهن عند الحديث مع أمير .
وفي إحدى الجلسات العابرة وبعد استئانهنّ بالوداع قالت نصرة ، وأما أنا فسأثقّل ظلّي وأبقى مع أمير . وهرولت زميلتيها من فرط الخجل .
جلست على البنش إلى جوال أمير واستقبلت بمحياها وهي مبتسمة وكأنها تريد أن تقول ها أنا ذا قوية وأن عزمي لن يخور . وقالت : لم يخالجني شك بأنني فائزة في هذا المشروع .
قال أمير : وكيف ؟
بدأت تعقد أصابعها تعدد : لأنك قلت وصدقت زبيدة . وقلت لنا بعد ثلاثة أيام أنه يشرف قدرك الهدية . وقلت الأمر ليس بالساهل ورجوت منهنّ المعاونة . ولكن للأسف أصبحت أنا التي أعاونهن وأدفعهنّ دفعاّ للتمسك . وقد رأيتهنّ من قليل وهن يفررن فرار الجآذر . وقلت من قبل أنك كنت لا تريد أن تفتنني في مشوار تظن أنني لا أقوى على السير فيه . وسبق أن سألتني هل فكرت أن أكون شريكة لك . وأيضا عندما سألتك هل أنا أصلح لك أجبت بأنني اصلح لإنجاب البيرق . ويومذاك إذ حلفت أنني لن أتنازل عنك قلت وصدقت نصرة .
يا أمير منذ أن تعرفت عليك لم أعهد قط أنكفشلت في أمر قد أقدمت عليه بمحض إرادتك . رأيت بالأمس رؤية غريبة : زارتني أمي في المنام وعانقتني وقالت اين ابن أختي ؟ قلت من هو ؟ ولكنها ابتسمت ولم تجاوب .
أخي : أنا لن أتنازل عن حقي ورغبتي لأشياء لا أعرفها إلا أن يقع الطلاق بائناّ لأعيش بقية حياتي أسيرة لهذه الذكرى .
قالت كل هذا الكلام ثم تنهدت وكأنها أنهت خطاباّ فلسفياّ تريد أن ترى أثره وصمتت .
تبسم أمير وقال : سبحان الله . أكل ها من مسحة واحدة .
قالت : والله إن تلك كانت لي كشاحنة كهربائية أعكتني ومن وقتها قوة ما كنت أملكها . واعلم إن فيها سراّ ولكنني استحيت أن أسألك عنها .
قال : وما إذا كانت مرتين فستقبضين بكلتي يديك على كفي وتقفزين وكأنك بنت الخامسة دون أن تستحي . وضحكا .
وعندما أهمت بالانصراف اشارت بعصبعها قائلة انا متمسكة بزيارة الدرة في الإجازة .
قال: والله الموفق .
لحقت نصرة بصديقتيها في الداخلية والائي استقبلنها وهن مطربات يرنين من طرف ففي وكأنهن لا يطقن معرفة هول ما حدث بعد فرارهن .
سلمت وقالت أين ساندوتش البيض ؟
إنفجرت صديقتيها بالضحك .
قالت إبتهاج : منذ أن حضرنا لم تصل الماء الي حلوقنا من فرط شفقتنا ومخافتنا عليك وتأتي لتسألي عن الساندوتش ؟
قالت نصرة : والله ! ومماذا تخافين ؟ من امير يخطفني ويطير بي ؟
قالت إقبال : وإذا لطرنا من الفرح . لا تستهزئي بنا و قلوبنا مقطوعة .فقد خفنا والله من أن ينهار أعصابك في حضرة امير وكنا قد فررنا وتركناك لوحدك .
قالت : وإذاً لمسح أمير على ظهري وسرت رجلاً جلداً وهي تضحك .وقالت تهدينّي وتفرن وكان امير قد رجاكنّ الوقوف إلى جواره ؟ والتفتت إلى إقباللاوقالت . وهذه أنت التي تقولين لو كنت رجلاً لجالدت دوني السيف ؟ فبكت صديقتيها وأخذت هي تمسح على ظهر كل واحدة منهنّ وتقول لا عليكن .
انتهت دورة الاتحاد التنفيذية والتي سميت بدورة صداقة الجامعة والمجتمع . وقد تميزت بالانجازات الحافلة أهمها تلك المسودة التي تحمل الرؤية الاستراتيجية لدور الطلاب في قيادة التغيير في المجتمع . والتي أودعها مدير الجامعة في ملف ضمن مشروعات تطوير الجامعة . وكان قيادات من التنظيمات السياسية في الجامعة قد تناقشوا وأجمعوا على ضرورة أن يتقدم أمير لقيادة الاتحاد في الدورة المقبلة . واتفقوا على أن يضمن اسمه في كل القوائم المتنافسة حتى يضمن له الفوز في كل الاحوال . ويعلن التنظيم الفائز ومجلسه الأربعيني أمير رئيساً لدورة الاتحاد ويسارع التنظيمات الأخرى بالمباركة والتاييد . فهم يجمعون في موقفهم ها أن أمير هو أنسب من يتقدم مسيرة الطلاب ويقود التغيير المنشود ولدى ملف الاتحاد القادم الجديد أهم التوصيات التي تتصدرها مشروع بناء دار الاتحاد الجديد ، وتغيير الدستور ، وإنشاء المكتبة الثقافية ، وربط فراع الجامعة بالاسطول الدائري لنقل الطلاب وغيرها . وقد تكونت لجنة التقت أمير وشرحت ما أجمعوا عليه وحشدوا دوافعهم لذلك .
وفي الاجتماع شكرهم أمير على الثقة مؤكداً أن ما قاموا بها في الدورة المنصرمة هي مجهودات كل الزملاء وما أمير إلا قلماً كان يسجل الأفكار والمقترحات ويصيغها ويقدمها في المناشط . وقال معتذراً : تعلمون أيها الاخوة إنني لا أميل إلى العمل السياسي رغم أنني مقتنع تماما ومدرك للدور الحيوي الذي تضطلع به التنظيمات السياسية في الجامعة .والتي تعتبر الجسر الأساسي الواصل بين الجامعة والمجتمع كما جاءت في مسودة التغيير .
وانني لا اريد تمييع هذا التنافس السياسي الحيوي والصراع البناء الي قضايا الابنية والتحسينات. وأنني كطالب في الجامعة ومن خلال علاقاتي الشخصية مع الاطراف كلها اري انه واجب عليَ تلبية اية دعوة ولكنها ليست بالصورة الرسمية التي تقترحونها .
وانتهى الاجتماع وأدرك الأصحاب أنهم ربما لا يستطيعون مقارعة أمير الحجة ، وللك رأوا أن يتوسطوا إلية بالسيد عميد الفلسفة لمساعدتهم في تليين مواقفه . واستأذنوا العميد في مكتبه وشرحوا موضوعهم واجتماعهم بأمير وعدم تمكنهم من إقناعه .
وتحدث الدكتور قائلاً : أشكركم على هذه الزيارة الكريمة . وجميل أن يتواضع الجميع على أهداف مشتركة ويسعون إلى تنفيذها . وأتفق معكم بأن أمير هو صاحب موهبة وإبداع وهويصلح ان يكون عالماً أو مفكراً ونحن في القسم نتنبأ له بذلك . ولكنكم تعلمون أبنائي أن جل الفلاسفة والعلماء والشعراء والمبدعين لم ينشأوا في بداية حياتهم في بلاط السلاطين فمحلهم نبض الشارع . وهم يتعاملون مع الأحداث بعيداً عن حجب السلطان وبروتوكولاته . ويستنبطون من خلال التعاملات نظرياتهم العلمية والفلسفية وتعبيراتهم واشعارهم وغيرها .
إنني أرى من وجهة نظري لا تغلقوا هذا الشاب في المواعين السياسية والنقابية الضيقة بل اطلقوه حراً فهو صاحب أسلوب فريد وسيتفجر بالعطاء الزاخر في مقبل أيامه في المجتمع . وأقول لكم ، إنه قد زارني مرات عدة لمناقشة أفكار وأوراق كان يعدها في موضوع المناشط الطلابية ، ومسودة خة التغيير قبل إجازتها في المؤتمر الطلابي . وقد سعدت كثيرا بالأفق الواسع لهذا الشاب .وأقول لكم إن السياسيين المرموقين هم الذين ينجحون في التطبيق السليم للأفكار والمقترحات التي قدتأتي من بيوتات خبرة مختلفة ، ولكنها تحتاج إلى الكادر المناسب للتنفيذ والتقويم . وانتهت مجهودات اللجنة بالفشل في تحقيق غرضها الذي قامت من أجله . ولكنها تعرفت بالقطع على بعض المبادئ الهامة في فلسفة وسلوك الممارسة السياسية الهادفة .
وقد قابلت الأوساط السياسية في الجامعة هذه النهاية بالرفض والاستهجان الشديدين ، وحظيت ردود الافعال بمساجلات كلامية كثيرة حتى أن البعض اتهم التنظيمات السياسية بالانانية وعدم التحمس لرعاية المصالح الاستراتيجية للطلاب . وأعلن بعضهم انهم سيسعون لإعداد قائمة انتخابية من الطلاب العاديين على رأسهم امير ويطرحونها للمنافسة في الانتخابات . وإزاء تلك الضغوط اضطرت اللجنة للإعلان عن مؤتمر صحفي لتوضيح الحقائق للطلاب .ودعت عميد الفلسفة للمشاركة وتعزيز موقفهم ، والتحدث في قضايا الأفكار والأدوار التطبيقية . وكان اللقاء ناجحاً جدا ، فبالإضافة إلى توضيحه للمعلوات المقنعة ، جاء بمثابة ندوة علمية هامة أخذ كثير من الطلاب يسجلون محاورها في مدوناتهم .
وانتهت دورة الاتحاد وقامت الانتخابات وجاء الاتحاد الجديد الذي أقام احتفالاً تكريمياً لعضوية الدورة السابقة قدمت فيه الوشاحات ولوحات التكريم والإشادات التاريخية خاصة لشخصية السكرتير الاجتماعي الذي أعلنه الاتحاد الجديد رئيساً فخرياً للدورة .
وبانتهاء إمتحانات الدور الأول ودخول الإجازة الصغرى التقى امير زميلاته الراهبات على عجالة وقال تعالين عندي لكنّ مفاجأة . وقدم مظاريف وقال تجهزن فقد تم تأكيد الحجزليوم الجمعة ، وانصرف .
وهرولن على الفور إلى المسكن وفتحن المظاريف ليجدن في كل واحد تكرة سفر ومبلغاً مالياً. رجعن مسرعات وقابلن أمير دون أن يفكرن في ماذا يقلن .
قال أمير : استعجلتنّ السفر ؟
قالت ابتهاج : ما هذا يا أمير :
قال : مظروف واحد .
قالت : وما فيها ؟
قال : كانت تذكرة سفر ومصروف قليل .
قالت : هذا مصروف قليل ؟ وماذا نعمل بها ؟
قال : تشترين بعض الاحتياجات الشخصية والملابس وكذا .
قالت : وهذا أكثر من الشنطة والملابس وكذا . وهل نحن لا نعجبك بملابسنا القديمة ؟
قال : مهلاً يا بنت كرومة ، الضيف في يد المضيف وأنتنّ ضيوفي بدأً من نهار اليوم ، ومن حقي أن أعبِّر حسب سليقتي كما أنني ما رددتُ لكنّ طلباً قط .
تدخلت إقبال : إذا كنت يا امير تريد أن تذهب لتعرس بنا أخبر حتى نستوفي الشرط ونذهب لنشتري ملابس الحريم .
قال : وهل يكون المهر تذكرة يا مولاي القاضي ؟ وضحك الجميع .
قالت نصرة : وأما أنا فأشكرك وصاحباتي ولكن أخبرنا ماذا نحتاج لنشتريها في هذه الرحلة ؟
قال : أما الضيافة والمفارش فعلى فرسة . واشترين احتياجاتكنّ الخاصة .
قالت ابتهاج : لا لا أما أنا فلا شيئ في الدنيا أخافها كخوفي من الحصين .
ضحك أمير وقال : هي طائعة ومن بنات الشيخ .
وأقلعت الرحلة في تمام السابعة ، وفي بداية الرحلة عمت المجموعة صمت عميق ولم يتحدث أحد ، وأخ أمير يطل من الشباك على مناظر الأشجار والجبال والفلوات وسرح بخياله حتى همهم جميل والله .
قالت نصرة : من ؟
قال : السودان .
وضحك الجميع ، وانطلق الحديث وقالت الزميلات أنهنّ تهيبن ركوب الكائرة فلأول مرة تجرب أرجلهنّ صعودسلم الطائرة . ودار وتشعب الحديث وشارك ركاب من المقاعد المجاورة ، ولم يتوقف إلا عند سماع صوت الميكرفون يهنئ الركاب بالوصول ويطلب ربط الأحزمة للهبوط .
وفي المطار استقبل أمير من قبل جموع من الأهل يتقدمهم ابن عمته سراج وزير الخدمات الإقليمي الذي اسحبهم إلى منزله في داخل المدينة . وتقاطر الأهل والأقرباء لتحية أمير بالوصول ، وتفانى سراج في إكرام ضيوفه .
وبعد الغداء تحركت عربتان لتقل الوفد إلى الدرة تحت وداع حار من الحاضرين وتعهدهم باللحاق . وعلى مشارف القرية لاحت أسراب الخيّالة وهم يتسابقون في حركات بهلوانية مستبشرين بقدوم أمير . وأخذ الزميلات يتطاولن من داخل السيارة مهرجلات كأنهنّ فراخ زرزورٍ أتى أمهنّ بصيدة .
وجاء عقيد الخيالة الكناني ود أمرادس ووقف بحصانه أمام العربة وترجل .
نزل أمير من السيارة وهو يضحك قائلاً : ابن العمة .. وتعانقا .
قال ود أمرادس : حمد الله السلامة . الدرة تتشرف بك يا مير .ومدّ بصره إلى العربة قائلاً لعلك أتيت مغنِماً ؟
قال : والديوان .
قال ود أمرادس : إذاً أهدي ؟
قال : لا أملك . هنّ أصيلات من بنات البحر .
قال ودأمرادس : البحر ثانياً يا أمير ؟
تناول أمير اللجام وضرب على صفحة الحصان واعتلى السرج .
التفت ود أمرادس إلى رجاله قائلاً أوقفوا السباق . وتقدم شاب ودفع بحصانه قائلا ً خذ أبا جوهر . واعتلى ود أمرادس صهوة الجواد وقدم أمام الأمير والشبان يحفهما وهم يهتفون ويرفعون الأعلام الخضراء .
وتوقف الموكب أمام المنزل وعلا الهتاف والزغاريد وترجل الفرسان ونزل أمير وتقدم الشيخ الكويل ومن حوله الرجال ، وفتح ذراعية ليشمل بهما ابنه الذي طال شوقهما . وبكى أمير في حضرة والديه ومدت فرسة منديلاً ليمسح به الدموع .
وتقدم سراج ومعه الزميلات معرفاً السلام عليك يا خال . هنّ زميلات حضرن مع أمير لزيارتكم .
قال الشيخ الجهور : مرحب بناتي .
وتقدم إلى أم فرسة والدة أمير وقال السلام عليك يا خالة . هن أميراتٍ حضرن مع أمير وهو يضحك .
قالت الشيخة : مرحب بناتي . ومّت يدها مصافحة . وعندما صافحت نصرة التي في آخر المجموعة أمسكتها وأطالت السلام وقالت ما اسمكِ ؟
قالت : إسمي نصرة الفاضلابي .
تبسمت ومسحت على ظهرها وقالت ما شاء الله تبارك الله . والتفتت إلى فرسة قائلة خذي بنت البيرق وصاحباتها إلى الداخل .
قال سراج : يا فرسة أين ابنيّ التوأمين ؟
قالت : ذالكما على ظهر فرس الكناني .
قال : وعلاهما السرج ؟
قالت : أخوك لا شغل له غير اعتلاء السروج .
انشغل أمير في استقبال ضيوفه الذين يأتون لتحيته بالوصول ولم يتسن له مقابلة زميلاته الضيفات إلا في مساء اليوم الثالث في اللقاء الذي أقامته فرسة لتحية بنات الدرة .
وقالت اقبال في ذلك اللقاء نحن في الجامعة لو كنا نعرف كل هذه المكانة لأمير لضربنا عليه الحجاب . وقالت ان موقع أمير وسط زملائه الطلاب يقارب أن يصل مكانته عند أهله هنا وهم لا يعرفون أن أمير ملكٌ في بلاده . وقالت وما ترددنا ق ونحن أخوات في مرافقته كل هذه المسافات الطويلة لزيارةأهله في هذه القرية الجميلة ، ولو فتح المجال لامتلات عن جنباتها باصدقاء أمير من طلاب الجامعة . واتجهت تخاطب فرسة يا أم الجوهرين لو خيّرنا لتركنا الجاعة والأهل وجلسنا إلى جوارك لنتعلم هذا المنهج الفريد في تأليف القلوب . أننا لم نسمع بامرأةٍ تحظى بمكانة في قومها كما حظيت بها الأميرة فرسة إلا في كتب التاريخ لأميرات في العصور الغابرة . وأخذت تسرد المفاجآت المتتالية التي ظلت تدهش بها الأميرة ، وقصة الخروف المحمّر الحامل الي بداخله الفراخ والحمام التي تحمل هي الأخرى البيض المسلوق والأقاشي والبركيب وغيرها .
وتحدثت ابتهاج : والتي أمتعت الحاضرين وأضحكتهم بقصص وأعاجيب من عادات أهلها في شرق السودان وتقاليد الزواج وعادات التعامل بين الرجل والمرأة . وكانت ابتهاج قد نشكت في تصوير اللقطات التذكارية وكأنها قد تصدت لتوثيق الرحلة .
وتحدثت نصرة قائلة : حضرت في صغري حياة جدتي لأمي المتن بنت الحلاج وكنت صبية لا أتذكر كثيراً من أحداث تلك الفترة . وعندما جئت إلى هنا ورأيت أمنا الشيخة حضرتني صورة كاملة لجدتي . وسبحان الله يخلق من الشبه أربعين كأنها أم الشيخة . إنني أحس ومنذ وصولي إلى هذه القرية بأنني بين اهلى ووالديّ في السلمة وهنالك وجهاً للشبه قوياً بين أهلي وهذه الأسرة .
وتحدث أمير : وبعد عبارات التحية والشكر قال ، يا فرسة لا شكّ أنه في فترة غربتي في هاتين السنتين فيكنّ من زادن وفيكنّ من يرغبن في الزيادة وضحك الجميع .
قالت فرسة : اثنتا عشرة جوهرة قد اكتمل تزيينهنّ وستقوم أنت بتزويجهنّ في الجمعة . وهنَ الأن معنا في هذه الجلسه وهنَ يتداررين ملطخات بالزينْ .
قال أمير : فقط دستة ؟ وهل فيهنَ الكنانية ؟
قالت : لا توجد عندنا أخريات بلغن التمام . وجوهرة يا أمير سيتم زواجها في وفد البيرق !
قال : إذاً لكل واحدة منهنَ بقرة دارة لتؤمَن لها الحليب. وعلي إبني جوهر تولي هدايا الأزواج ضاماً بيديه التوأمين .
قالت : وعلي إبن الكناني حصان لكل عريس .
قال: وعليَ للمجلس السكر والشاى واللبن والدقيق والزيت والسلام . وفي اليوم التالي وعند العصر كان إحتفال مدرسة الشيخ البدوى الاولية المزدوجة وخلوة الأغبش بقدوم أمير وزميلاته الضيوف . وتحدث الأستاذ الضوء بحرالدين المشرف التربوى للمدارس الأولية قائلآ : لا بد أن أذكر في هذا المقام مآثر أبونا الشيخ البدوى رجل الدًرة طيب الله ثراه. فهو صاحب الدور الرئيسى فى تأسيس هذه المدرسة . وأذكر أننا سافرنا شخصي والأخ مدير المأرف بالمديرية والشيخ البدوى وذلك ومطلع الخمسينات قبيل ميلاد الأستقلال إلى الخركوم والتقينا الاحباب في البقعة ، وقد أوصلنا السيّد الإمام إلى عالي وزير المعارف الذي صادق مشطوراً على غنشاء هذه المدرسة . وكنت اول مدر لها أشرفت على تشييدها وافتتاحها في العام 1952م وسميت باسم الشيخ تقليدا لدوره ومساهمته في بناء المدرسة وأتشرف ايضاً ان من بين أوائل الذين تتلمذوا على يديّ ف هذه المدرسة إبني أمير هذا الذي تحتفلون به اليوم وآخرين كلما أذكرهم أزداد فخراً بأنهم بعض تلامذتي النجباء . وأتمنى أن يقتفي امير اثرآبائه الكرام الذين خدموا البلاد وقدموا الغالي والنفيس من أجل رفاهية اهلهم الطيبين .
وخاطبت الشيخة دار السلام ام المهاجرين اللقاء قائلة : يرحم الله أبانا الشيخ البدوي فقد تعلمنا القرىن على يديه . وكان دوماً ما يحث الناس على الاهتمام بالعلم . وهو الذي جاء بفكرة المدرسة ذات الرأسين مدرسة للتلاميذ واخرى للتلميذات متجاوتين وتحت إدارة واحدة . ولا ازال أذكر مقولاته المشهورة في الخطب ” لا فائدة لعلم بلا عقيدة ، وعلى الناس أن يعرفوا أمور الدين والدنيا معا ، عقلي في الرأسين وقلبي في التقابة ” وأنا إنشاء الله سأظل دوما راعية لطلبة العلم في المدرسة والخلوة حتى لو اتسعت لتشمل اهل الدرة باجمعهم . وجزى الله خرا الاستاذ الضوء فقد خدم التعليم في البلاد لاكثر من ثلاثين سنة ولا يزال يعمل وأدعوا أبنائي المدرسين والشيوخ للاجتهاد في البراعم وحسن تربيتهم . إنما نحن نقاس أمام الناس بأخلاقنا .
وتحدث أمير قائلا : نسأل الله الرحمة لروح جدي فقد كان داعية . وسنمضي على طريقه في خدمة العلم زأهل العلم إنشاء الله . وقال منبهاً يا إخوتي وأخواتي الصغار ، مررت على ديار كثيرة ورأيت الناس كلهم يتسابقون لتحصيل العلم ونيله . ودونكم هؤلاء الزميلات هن من ارياف مثل الدرة ولكننا نتزاحم كتفاً بكتف في تحصيل الدراسة في الجامعة وربما يفوتنّي .
ارجوأن لا نصير في مؤخرة الركب سنسعى إلى تاهيل وتطويرالمدرسة ، وتأهيل الحفظة في امور الفقه والدعوة ، واقول للشيخة يمد الله في أيامها سألتزم بكفالةكل طالب وطالبة من الدرة يدخل إلى الجامعةأرعاه حتى تخرج وهذا عهد مني والتزام عليّ ما حييت .
تفرغت فرسة في الأيام التي تلت هذه المناسبة لمصاحبة صديقاتها بنات البحر وأخذت تعرفهنّ على المعالم الرئيسية للقرية ، السوق والمدرسة والخلوة ووادي القرية المسمى بحر الدرة الذي يبعد ثلاث كيلومترات إلى الشرق ، وهو العمود الفقري لاقتصاد المتنطقة ، ويذكّر في منظره للوهلة الأولى بنهر النيل ، وتمتدإلى جنباته المزارع والحقول التي تنتج الغلال والفاكهة والخضر وقصب السكر والاعلاف . ومناظر فرقان البدو بماشيتهم . وأخذتهنّ إلى جنينة على ترتيبات تجهيز عروسات الجمعة .
وصحبتهنّ في ليلةٍ إلى مقابر الدرة التي تقع إلى الشمال من القرية على نحو كيلومتر واحد ، تحفها أشجار البان الطويلة من الخارج والسيال والقمبيل . واخذت تعرفهنّ على مراقد اجدادها وجداتها وتحدثت إليهنّ مطولاً عن سيرة الدرة قائلة : قريتنا القديمة أنشأها جدنا الشيخ طاهر وكانت تقع إلي جوار الوادي إسمها الرخا. وفي زمان جدتنا الدرة بنت مالك ، فاض البحر وإجتاحت الرخا السيول أثرت في الناس والمنازل والبهائم .فتم نقل القرية من موقعها القديم إلي الموقع الحالي في جنوب المقابر وسميت بإسم جدتنا الدًرة لأستبسالها وتفانيها وكانت تخوض غمار البحر لإنقاذ الأطفال حتي إنها غرقت في السيل . فسميت تخليدآ لذكري الأميرة .
ونسبة لما جرت عليه العادة فالناس لا ينطقون إسم الدًرة حافية فيقولون أمي الدًرة والحدث والصبيان لا يستطيعون نطقها ويقولون ما بدًرة ودارة ومابدقري فتحولت إلي ما بدقري ودارا في بعض الأزمان والآن إستقرت في الإسم القديم الدًرة . وجدتنا الدًرة لها ثلاثه أبناء البيرق والشريف الجزولي وهو الأمير الثالث عشر في الديوان وذاك مرقده ، والأميرة نجفة هي الصغري وهي تنسب لأمي جدة أمها وترقد بذاك الناحية .
سألت نصرة : وأين مرقد جدتي البيرق ؟
طأطأت فرسة رآسها وكأنها تبكي وقالت : لا أدري .
وضعت نصرة يديها علي كتفي فرسة قائلة : أحك لنا هذه السيرة حتي ولو كان فيها المحازن فنحن أصبحنا جزءآ من ذلك التاريخ . وحكت فرسة قصة جدتها الأميرة المفقودة في الديوان وقالت إن مساحة مرقدها خالية تقع أمام مرقد أختها النجفة وقالت : وصمتت قليلآ ثم همهمت : يا ليتها ليلة منها سينتظم الشمل ! وجاء يوم الجمعة ، وبعد الصلاة تقدم أمير لعقد القران للمتزوجين . وبعد ان حمد الله حيًا المصلين قال : فيما علمت لم تتبقي في الدًرة عاذبة من المكلفات لم تتزوج إلا عروسات اليوم .
صمت قليلآ وقال : وهذا أيضآ حمدٌ آخر بأيتهًن نبدأ التزويج وكلهن يحفظن القرآن . وأخذ الناس في همهمات جانبية , ونهض الأغبش من مكانة قائلآ :بسم الله وبعد السلام . يا أمير نبدأ العقد بأمة الله هاجربنت ابو الرخا كاتب الديوان فهي أحسن حفظآ وتدرَس حلقات النساء في الفقه على المذهب المالكي .
قال أمير : تبارك الله . وتم القران وأقيم دعوة الغداء احتفاءاً بالمناسبة . وكان بحق عرساً لقرية الدرة ، فقد جابت المواكب شوارع الدرة والعرسان على صهوات الخيول ، وتبارى الفرسان في ميدان النقعة استمرت حتى قبيل الغروب .
وبعد صلاة المغرب قالت فرسة لأخية امير : جهزت شنطتك ولدينا سفر قصير .
قال : إلى أين ؟
قالت : وسيكون بعد ساعة ، اذهب وابحث لك عذراً عند أصحابك .
وبعد وقت وجيز استأذن سراج الذي كان ضمن حضور المناسبة وقال هيا يا أمير .
قال : إلى أين ؟
قال سراج : إلى حيث قالت فرسة .
وهنا عرف أمير أن فرسة قد أعدت لها مفاجأة بالتنسيق مع حماها .
استأذن أباه وأمه وهو خجلاً وقال إن فرسة وحماها قد أعدا لي فخاً وحزما شنطتي وطلبا مني السفر ولا أدري إلى أين .
قالت الشيخة : على بركة الله . وأنا أعرف إلى اين .
وقال الشيخ : تصحبكم السلامة .
وتحرك الوفد في صحبة سراج ليقضي الليلة في ضيافته ، وبعد الصبح قال وهو خارج إلى مكان عملة تجهز يا أمير رافقتكم السلامة العربة جاهزة والسائق . وخرجت الأميرة وصديقاتها قائلة : صباح الخير هيًا يا أمير .
قال إلي أين ؟
قالت: سنذهب في رحلة إلي جبل مرة .
قال : أونسوح في ديارنا !
وخرجت نساء الأأسرة تودع وتحمل العربة بالحافظات وحلل الطعام وكأنهنّ سهرن في الإعداد . وغادر الموكب قبل الشروق ، وانطلقت العربة تعبر تلك الطرق الوعرة إلى شرق جبل مرة . وفي كل منطقة يمر بها يتجول الوفد ويأخذ اللقطات التذكارية وتقدم الأميرة الهدايا للأطفال وتنشط ابتهاج في الأسئلة والتدوين في مفكرتها . ومرّت القافلة على قرى كاس وطور ونيرتتيي ومرتجلو وصولاً إلى قلول في الظهيرة . وحط الركب في الاستراحة في إحدى الأجنحة ، وبعد قسطٍ من الراحة والغداء قام بالتجوال في الحقول والجداول والشلالات التي أهمها وأشهرها شلال ثاورة الذي يبعد مسافة كيلومتر واحد من الاستراحة . وأخذت ابتهاج تلتقط الصور لمنظر الشلال يسكب الماء من أعلى الجبل إلى البحيرة في القاع وأمير يشرح معالم هذه المنطقة وما يشتمل عليه الجبل من المناطق السياحية الأخرى في سوني ودرباد وزالنجي ، وما يحتاجها من اعداد وترويج لتصبح من أهم المناطق السياحية في السودان . وأخذت الأميرة ترقب أخاها وهويتحدث وكأنه مديراً لإحدى هيئات السياحة في البلاد جاء ليشرح الامكانات السياحية لوفد أجنبيّ زائر .
قالت : أوأنت تقرأ هذا في الجامعة !
وضحك أمير .
قالت نصرة : أخوك عالم في كل شيئ يا أميرة .
قالت وهي تبسط اصبعها كأنها تبدي حيرة إلا في شئون النساء ! وضحك الجميع .
وعادت المجموعة إلى الاستراحة لتظل تسمر في تلك الليلة المقمرة في صحبة الأطعمة الشهية والفاكهة إلى وقت متأخر من الليل لينصرفوا لأخذ الراحة .
استيقظ أمير بعد طلوع الشمس على إثر حركة من سائق العربة في الخارج . وبعد أداء الصلاة تقدم إلى جناح الأميرة وضرب بقلمه على الشباك قائلاً اليوم قد أضحى . وبعد وقت وجيز جاءت الأميرة وصديقاتها يحملن المرطبات .
قال أمير : سبحان الله ! وكأننا نفضنا عن أنفسنا غبار السنين .
قالت الأميرة : والله ما صحونا إلا على إثر نقراتك .
قالت إقبال : أصبحنا نعيش في جنة يا أمير !
قال : ومقصورات في الخيام ؟
قالت : وهي تضحك ومعنا مقصورة .
قال : ما هي ؟
قالت : لا أدري ربما تكون الأميرة . وضحكن .
قال : تفضلن بالجلوس . وأثناء الجلسة سمع أصوات وهتاف خارج الاستراحة ، وخرجوا ليجدوا رحلة مماثلة قد حطت رحالها في الجناح الجاوز .
قال أمير : إنها رحلة لتلميذات من زالنجي . إنتفضت الأميرة وتهللت وكأنها تستقبل ضيوفآ في دارها وتقدمت قائلة : مرحب بالمشاعل . وأخذت المديرة والمعلمات وإصطحبتهًن إلي جناحها إلا واحدة تخلفت لترتيب أمور التلميذات . وبعد تقديم واجب الضيافة عرفت قائلة : أنا أختكم فرسة بنت النعمان من قرية الدًرة ، وذاك أخي وزميلات حضرن من بلاد البحر وهًن طالبات في الجامعة جئنا في زيارة إلي الجبل .
قالت المديرة : كنت قد تلقيت دورة تدريبة في الجامعة في مجال التربية ، وقافلة الجامعة في الصيف الماضي أستضيفت في مدرستنا .
وجاء أمير وحيًا المعلمات قائلآ : تعلمين يا سيداتي الفاضلات إن مثل هذا البرنامج تزرع البسمة في نفوس اليافعة . ويا سبحان الله رقم أننا قد صرنا راشدين فقد احسسنا بهذه الرحلة وكأنها غسلت قلوبنا بالماء فكيف بالبراعم.
وبعد أن استأذنت المديرة والمعلمات بالانصراف قالت فرسة يا أمير نريد أن تستقل العربة لمشوار قصير .
قال : أرجو أن لا تفرن وتتركنّي مع هذه البلوم .
قالت : وإذا لصرت أمير البلوم . وضحكن .
وذهبت الأميرة وصديقاتها إلى قرية مجاوزة وعدن وهنّ محملات باحتياجات الضيافة ومعهنّ سيدتين ورجلمن الأهالي .
قال أمير : لعلك تريدن إقامة عزومة ؟
قالت : سأساهم في إعداد الطعام للمشاعل . والتفتت إلى إحدى النسوة اللائي حضرن معها قائلة تجهزن الطعام قبل الثالثة ؟ قالت إنشاء الله .
قالت الأميرة : إذاً سنبدأ على الفور ، وذبح الرجل الخروفين بمساعدة أمير ، وأخذت فرسة وصاحبتها نصرة يساعدن في إعداد الطعام وتولت اقبال وابتهاج خبز الفطيرة .ٍ
وعند الظهيرة تقدم أمير ومجموعته للمشاركة وإلتقاط الصورالتذذكارية مع الرحلة المدرسية . وقبيل الغداء إستأذنت فرسة بأن تصطحبها بعض التلميذات لمساعدتها في شىء. وعدن محملات بقدور الطعام والفطائر والحلوى وحقائب فيها الهدايا . وقالت هذه هدايا بسيطة لبناتي التلميذات .
وبعد تناول وجبة الغداء قالت المديرة متحدثةً : إن هذه المصادفة التي جمعتنا مع هذه المجموعة ستظل ذكري لا يمكن ننساها ، ولا شك أن هذه السيدة وأهلها يتصفون بالقيم الأصيلة والمحبة للعلم ولطلبة العلم .
وكذلك من المعاني الطيبة لهذه المصدفة أننا إلتقينا نموذجآ للطالبات الناجحات اللائي عبرن لمصاف الجامعة . وهذه كلها هدايا تصدقت بها هذه السيدة المحسنة للتلميذات . وقدمت أمير لمخاطبة التلميذات .
وتحدث أمير وحيا العلم والمعلمين وطلبة العلم وأشار إلي أهمية تعليم البنات ودور المراة في المجتمع . وقال أتمني أن أراكن جميعآ في المواقع المتقدمة في المجتمع طبيبات ومعلمات وموظفات . وتحدث عن زالنجي الجميلة ومعرفتة السابقة بها . وعن شواطئ وادي أزوم وأريبووالحقول والحدائق ومزارع قصب السكر ، وأحياء كنجومية وكونوا والحصاحصا وحي الموظفين ومدرسة جبل عصيدة . وقد استقبل حديثه بالهتاف والتصفيق الداوي وتدخلت المديرة قائلة لابد ان تزوروا معنا زالنجي حتى ولو ليوم واحد . ووافق امير قائلاص سنعرج معكم إلى زالنجي ونغادر من عندكم غداً بعد الظهر إنشاء الله .
وعاد أمير ووفده إلى الدرة في مساء اليوم الثالث . واستقبلتهم الشيخة قائلة : عوداً حميداً يا ولاد . يا فرسة أخرنا حفل ضريرة العروسات يوماً كاملاً في انتظارك .
قالت فرسة : عفواً يا أمي فقد مدّ أمير يوماً زرنا فيه زالنجي .
قالت : جميل لك ، العروسات رفضن الخروج بالامس غلا بعد حضورك ز وقد امرت بخروجهنّ اليوم وذهبت خمّرت رؤسهنّ بالمسك .
قالت فرسة : وذلك تشريف سيكتب في الديوان يا شيخة !
قالت ليكن فهنّ مشرفات اصلاً بالقرىن ، وفيهنّ بنت اخيك كاتب الديوان .
كانت الشيخة ومنذ قدوم ابنها ووفده يتملكها شعوراً قوياٍ وإحساساً عظيماً يجذبها تجاه إحدى زميلات ابنها الزائرات . وظلت تحاول ان تداري ذلك وترقب من بعيد ولكنّ احساسها في كل يوم يزداد يقيناً وأحياناً يسبقها لسانها في الحديث فتقول لها وأنت يا أمي .
كان احساس الشيخة الداخلي يقول لها إن هذه السمراء الفارعة ، التي تكسوها الهيبة والوقار ذات اللثة الخضراء ، والتي تبرق في محيّاها وطريقة مشيتها وأسلوب حديثها ، تحمل ختماً لهذه العائلة . ويبدو ان الشيخة قد غلبها الظن وأحزمت أمرها وهي تعلم أن إقامة الضيفات قد قاربت الانتهاء .
قالت الشيخة : يا فرسة أريد شيئاً .
قالت فرسة : ماذا تريدين يا أم فرسة ؟
قالت : أريد أن أجلس مع إحدى صاحباتك ، واريد أن يكون ذلك بكريقة لا يشعر لغرابتها أحد حتى لا يحدث بلبلة في العشيرة .
قالت فرسة : انا أعرف التي تريدها ، وسأفعل بالطريقة التي تقولين .
قالت : تعرف ؟
أجابت فرسة : وهل أنا إلا أنت يا أمي ؟ هي التي تبرق في المحيّا .
وبعد الافطار قالت فرسة يا بنات سنتوزع اليوم لزيارة عروسات بنت ابي الرخا . وسنسليهنّ بالاخبار والصور التي رايناها في الرحلة . وكل واحدةمنا ستزور ثلاث عروسات بمفردها وتسابقت اقبال وابتهاج في الاختيار وظلت نصرة صامته وكأنها تستحي ان تذهب لمفردها .
إلتفتت فرسة إليها قائلة إذاً ستذهبين لتطبقي شعرات ابنتك .
قالت : ابنتي ؟ جوهرة ؟
قالت فرسة : التي تقول لك وأنت يا أمي .
تهللت نصرة وقالت : أنا أحب أمي الشيخة يا أميرة .
قالت وهي تحبك وكلنا نحبها .
وخرجت فرسة وصاحبتيها وتركن نصرة بالمنزل .
وحضرت الشيخة محيية .
قالت نصرة : تفضلي يا أمي . الأميرة والأخوات تركنّي لأصفف شعرك .
صافحتها الشيخة ومسحت على ظهرها وقالت : أجلسي واخبريني عن الرحلة الجميلة التي ذهبت إليها مع أخواتك .
وجلست نصرة واستخرجت الصور التي التقطتنها في الرحلة ، وأخذت تقلب فيها وتتحدث بكلمات متقطعة وهي تنظر إلى الارض . قائلة ما رأيت مناظر مثل هذه من قبل ، الناس طيبون ، هل زرت الجبل يا أمي ؟
قالت الشيخة وأمسكت بالالبوم ووضعته جانباً ، أخبريني من اين انت يا بنتي ؟
قالت : من قرية السلمة في الشمالية على البحر .
قالت الشيخة : أمك حيّة ؟
قالت : نعم .
قالت الشيخة : يمدّ الله في ايامها . وما اسمها ؟
قالت : رقيةبنت الشعراني .
قالت الشيخة : وما اسم أمها ؟
قالت : المتن بنت الحلاج .
قالت الشيخة : والله نعم الإسم . وما اسم أمها ؟
قالت : لا أدري .
وصمتت الشيخة قليلا كأنها تنتظرها لتتذكر .
قالت نصرة : اسمع أمي واخوالي يقولون أن جدتهم النجفة بنت الشيخ وهم يتحسبون بها . ولكن لا ادري ايتها جدة .
اضطربت الشيخة وتحركت وهي ترتجف وكأنها تحاول أن تقوم ولا تستطيع . قالت هي أميّ النجفة بنت البيرق ! وضمت نصرة إلى حضنها ومسحت على ظهرها ثم أقعدتها ويديها على كتفي نصرة وأخذت تنظر إليها باهتمام شديد قائلة : والله يا بنتي منذ أن استقبلتك وحتى هذه اللحظة أحس بأنك جزء مني . انت تشبهين أمهاتي في صفاتك كلها . أرجو لا تذكري غحساسي هذا لأحد . وسأكلف إبني لمعرفة الحقيقة ، القلب ينظر قبل العين . وستصدق مشاعري وسيكون لذلك شأن عظيم فنحن نبحث عن رحمٍ منا في تلك الناحية . وأزاحت خمارها وقالت : سرحي شعرات ابنتك حتى تبر بكلامك واستخرجت فتيلاً فيها خمرة النساء .
قالت نصرة : أنما أنت أمي ! وأصلحت شعر الشيخة وادهنته وغطته بالخمار . وقالت ما شاء الله شرفتمونا يا أمي .
قالت الشيخة : لا عاش لك عدو وشرفك الله يا بنتي . وانصرفت .
وفي صباح اليوم التالي حضرت فرسة وصاحباتها إلى منزل امير وتقدمن للداخل .
قال أمير وهو ضاحكاً وماداً برقبته : وخمرتهنً ما الفخّ الجديد يا فرسة ؟ وضحك الجميع .
قالت فرسة : تلك نصرة دهّنت أمها بالامس .
قال أمير : يشرفني هذا .
قالت نصرة : يشرف الله قدرك .
قال أمير : تجهزن ، ستكون رحلة عودتنا للفلسفة في صباح الجمعة .
قالت نصرة : ارحلوا أما أنا فقد تحولت إلى قسم الآثار .
قال : إذاً ليكون مشروع تخرجك تدهين الكنوز الأثرية . وضحك الجميع والتفتت فرسة إلى إقبال قائلة ماذا يقولون !
قالت إقبال : لا ذاك كلام الطير في الباقير .
قالت فرسة : إذاً سنتفرغ وصاحباتي لترتيبات الوداع .
قال أمير ك وعلى راحتكنّ .
وبعد ذلك بقليل جاءت الشيخة إلى منزل ابنها قائلة : صباح الخير يا إبني .
خرج أمير مهرولاً وقبض على كفيها قائلاً : صباح النور يا أمي إليك تتوق أشواقي . وأخذ امه غلى الداخل واجلسها على البساط وجلس إلى جوارها قائلاً : أدهنك زميلتي الطالبة ياشيخة ! تبسمت وقالت : من أين هذه الغزال التي تبرق ؟
قال : من قرية في الشمال على ناحية البحر .
قالت : هل زرت القرية ؟
نكس أمير راسه مطأطأً وقال نعم .
قالت : متى ؟
قال : في الصيف الماضي .
قالت : آخر يوم في شهر سايق التيمان ؟
صمت أمير وهو ينظر إلى الأرض وكانه يرجع بذاكرته وقال : أظنه بالضبط .
قالت : ذلك في تمام الميّة على وفات جدتك البيرق .
قال : وكيف عرفت يا أمي ؟
قالت : لا أعرف . ولكن أحك ما حدث لك في ذلك اليوم .
صمت أمير ورفع رأسه للحظات ثم قال : نا في زيارة عمل يخص طلاب الجامعة في الشمالية ، وطلبت منا نصرة التي كانت ضمن المجموعة أن نزور قريتها التي ليست جزءاً من الجولة وترددت في الموافقة لأنها يمكن أن يؤثر في زمن برنامجنا هناك . وفي تلك الليلة وفي المنام شلع عليّ ضوءٌ ساطعٌ من ناحية ، وأطلت منها امرأة طويلة فارعة يكسوها ثوب من الحرير الأخضر وقالت وهي تبرق ثناياها : تمر بالديار ولا تزورنا ابن النجفة ؟ وأخذت تختفي قليلاً قليلاً حتى خمدت . وعند الصباح وافقت على الزيارة وذهبنا للقرية وفي العصر زرتُ بصحبة أحد الأهالي بعض الأماكن في القرية منها المقابر القديمة وترحمت على كل الأرواح وقلت يرحمك الله لصاحبة هذه الرؤية .
كانت الشيخةترقب ابنها بعينين جاهظتين وهو يروي وكأنها تنظر إلى قلبه حتى أكما حديثه . قالت : هل تعرفت على معالم المرقد ؟
قال : لا . ولكن على مسافة داخل المكان هناك أشجار كثيفة أظنها تشبه ذلك المنظر الذي رأيته في المنام .
قالت : سبحان الله .
قال : ماذا ؟
قالت : في الليلة التالية قالت لي تلك المرأة شكراً يا نجفة إبنك الوجيه قد زارنا في تمام الميّة . يا إبني منذ أن حضرتم إلينا وأنا أراقب زميلتك هذه وأحس انها إنما هي جزءٌ منا . وجلستُ بالأمس خلسة معها وسألتها عن أصلها وهي لا تعرف كثيراً في النسب ولكنها قالت أنها تسمع أمها تقول أن إحدى جداتها تسمى النجفة بنت الشيخ وهي ذات حسب ، ربما تكون هي بنت جدتك البيرق سمتها تخليداً لذكرى الأسرة . يا إبني ابحث عن هذه السيرة ولا تفشها ، وأنا سأخبر أباك وإذا وجدت دليلاً قاطعاً أرسل إلينا حتى نبعث أهل الأنساب .
وفي عصر يوم الخميس أقامت فرسة حفل وداعٍ لأخيها ووفده شرفته الدرة باكملها واعتلى الفرسان صهوات الخيول منذ النهار وقررت العروسات إنهاء الحجر وزففن للمشاركة . وتبارت الدرة في تقديم الهدايا التذكارية لزميلات أمير ، الأطباق والبراتيل والتحف والأوشحة والزيَن المصنوعة من النايلون والمواد المحلية والتي نحتت فيها عبارات الحب والاحترام ، والحلى الذهبية والملابس التذكارية وغيرها .
وتقدم ودأمرادس وأهدى لكل واحدة من صديقات أم جوهرة نحتاً لفارس على جواد ووشاحاً مطرزاً من الحرير الأخضر مكتوب عليه إمارة الذرة .
وجاء الأغبش متوشحاً ببردته انتصب أمير على الفور من المجلس لاستقباله قائلاً : الاغبش ! قال : حيّاك يا امير . وانحنى واضعاً برتالاً من النايلون فيه ثلاث عباءات خضرٍ ومصحفاً وقال تأخذونها وبحقها رافقتكم السلامة يا أمي، ولوى بعنقه راجعاً .
تقدم أمير وتناول المصحف مقبلاً وقال أدعو الله لنا يا أغبش .
قال وهو رافعاً أصبعه بالنجاح والتوفيق ومضى .
وجاءت فرسة وقدمت لكل واحدة من صاحباتها لبسة مكتملة من الحرير الاخضر وجزمةً خضراء وخاتماً من ذهب .
وتقدمت الشيخة والبست كل واحدة عاجاً من الذهب .
وجاء الشيخ أبا فرسة وقال : أشكركنّ بناتي على هذه الزيارة التي زرعت البسمة في أرجائنا . بلغوا سلامنا لأهلنا في نواحي البحر . إن نظام الدرة لا يسمح لي بتقديم الحلى والملابس ولكنّي أهدي لكل واحدة قيمة ثلاث بقرات ولكنّ الحرية فيما تردن أن تدخرينها ويبارك الله فيها .
وانتهى الحفل وتعانق الجميع وأسكبت العبرات ، وانتحت الشيخة ببنتها نصرة جانباً واعطتها فتيلاً ملفوفاً في قطعةمن الحرير قائلة ختيها في شنطتك ولا تمسيها وكن وصلتِ بنت البيرق أديها . وغادر الوفد قبيل المغرب تحت وداعٍ حار ليقضي الليلة في ضيافة سراج في طريق الوصول إلى الخرطوم .
وطالعت صحف الجامعة في صباح السبت بيانات الترحيب بقدوم أمير والراهبات الخضر بعد قضاء الإجازة الصغرى في زيارة الأهل في غرب السودان . وقالت السكرتارية الاجتماعية للاتحاد في بيانها أنها تعتبر الزيارة منشطاً رسمياً وتطالب بتقرير مفصل عنها ، وأهابت بتبادل مثل هذه الزيارات الاجتماعية بين الطلاب وقالت أنه إذا أقيم متحف أو مزادٍ لما غنمتها الراهبات في هذه الزيارة من الحلى والنوادر لغطت ميزانية المناشط لهذا الصيف .
وانتظمت الدراسة ، وهذه هي السنة الاخيرة لأمير في الجامعة . وأمتعت ابتهاج الطلاب في عمودها “إمارة في السماء” بسلسلة حلقاتها الشعبية التي تحكي قصة زيارتها إلى الدرة مدعّمة بالصور الحيّة النادرة . خاصة حكاياتها ( فرسة أم الجوهرين ، جنينة النعمان وجنة السودان في الجبل ) .
في إحدى جلسات الأنس الليلية في نجائل الجامعة قالت لمياء الطفلة والتي كانت في زيارة لصديقاتها الراهبات . باكر لازم تمش معنا البيت يا عمُه .
قال أمير : نعم أوعدكِ ولكن في أي زمن ؟
قالت : في الصباح .
قال : إذا أنا أذهب لأغسل ملابسي وأكون جاهزاً .
قالت : جيبها يا عمي نغسلوها مع البنات . وضحك الجميع وقال أمير شكراً .
وفي الصباح رافق أمير ونصرة لمياء إلى منزل الأسرة ودار حديث طويل عن زيارة الدرة وعن ود أمرادس الصديق اللدود للتاج والد لمياء .
وعند العصر قالت نصرة لأمير هامسة اليوم جمعة وغداً تبدأ المحاضرات في بعد العاشرة ، سنبيت اليوم في ضيافة لمياء .
قال : ولكنّي لست معزوماً في هذا المبيت .
قالت : على أية حال أريد أن أتحدث معك بعيداً عن جوِّ الجامعة .
قال : إذاً يمكن أن نغشَى حديقة الجندول في الموردة نقضي بعض الوقت .
قالت : أحسن .
في الحديقة جلس أمير ونصرة على إحدى الطاولات وبعد تناول المشروب قالت نصرة : هل شرفك حقّاً تدهيني للشيخة يا أمير ؟
ضح أمير وقال : أحكِ ما سرتكِ الشيخة .
قالت : أنها وعدتني بأنها ستخبرك . وحكت ما قالته الشيخة ، وقالت هي حملتني أمانة لأوصلها لأمي الآن في شنطتي في الداخلية وقد تحولت الغرفة إلى عطّارة حتى استحيتُ وحولت ملابس الجامعة إلى شنطة اقبال وابتهاج . الزميلات في الداخلية لا يكفَّن عن الحديث عن الغرفة الأميرية .
سأسافر بإذن الله إلى الشمالية في نهاية الشهر لزيارة الاسرة وتوصيل الامانة . ووالله يا اخي غن مشاعري كلها تقول لي أن فينا رحمٌ منكم ز وسأتقصى مع أمي واخوالي في سيرة نسبهم .
قال أمير : القلوب لبعضها ، أنا ايضاً كنت أحسُّ منذ أن عرفتكِانه ربما يكون فينا صفات وراثية مشتركة . أمي الشيخة أضحت اثر ميلاً إلى تقصي هذه السيرة وكلفتني رسمياً بالبحث والإفادة . تعلمي أننا في السنة النهائية والامتحان على الابواب أرجو أن لا تنشغلي في هذا الامر حتى لا يؤثر في نتيجتكِ في التخرج .
قالت : سوف لن اتأخر ولكن أوعدني يا أمير بأنك لن تقبل الترشيح لدراسة السنة الخامسة لنيل الشرف .
قال : يشرفني أن أكتشف للدرة انكم رحم منا .
وسافرت نصرة إلى الشمالية لتود بعد أيام قائلة : تقبل سلام أمكَ بنت العطَّارة يا أمير .
قال : ما الخبر ؟
قالت :حضرت بالأمس مع الخال الذي هو الآن عند بعض أهلنا ، وسيأتيك بساطعة الأخبار في الغد .
وفي اليوم التالي استقبل أمير ونصرة الخال السنهوري على بوابة الجامعة ، والذي حضر يرافقه رجلان من أهله وتقدم أعداد من الطلاب لتحيتهم وتم استضافتهم في قاعة الزوار بدار الاتحاد .وقال السنهوري إن وفدكم في العام الماضي جاءنا وعه هذا الشاب وصارت الزيارة حديث السلمة فيما بعد وحتى اليوم ، أرجو إذا كانت لكم زيارات أخري في هذا الصيف إلى الشمالية ان تكون السلمة جزءاً منها ,.
وبعد أن خفّ الجمع اتجه الخال إلى أمير قائلاً : يا إبني جاءتنا بنت الفاضلابي بخبر قد اهمنا وهو سبب زيارتي هذه . تقول نصرة إنها سافرت في الإجازة معكم غلى بلدكم ووجدت أن لنا صلة رحم قديمة تربطنا بأسرتكم عرفتها من السيدةوالدتك ، والتي ارسلت لأمِّ نصرة بهدية أظنها ترمزإلى هذه الصلة القديمة.
أنا يا إبني السنهوري بن الشيخ الشعراني وانا الأخ الأكبر لأم نصرة رقية ومعنا اختين أخرتين عزيرة وتسكن الآن في ضواحي البطانة ، ووصال أم هذين الإبنين منير وابي دجانة وقد توفيت يرحمها الله وهما الآن يسكنان هنا في بُرّي . وامنا هي المتن بنت الحلاج الرفاعية ، وهي بنت النجفة بنت الشيخ البنونه العالم الورع الذي طاف أصقاع السودان في زمانه . وهي الإبنة الوحيدة للشيخ من زوجته العطّارة الشريفة البيرق . ويقول الشيخ أنه تزوج البيرق من أسرة شريفة لها سيادة في إحدى الإمارات في الغرب . ويقول إنها حضرت معه لأخ المهاجيرين إلي تلك الديار لحفظ القرآن الكريم والتفقه في أمور الدين ولكن ظروف الحروبات حالت دون عودتهم . فنحن ننسب من جهة أمهاتنا أبناء الشيخ البنونة لزوجته العطارة .
لم يتمالك أمير نفسه فتقطرت دمعاته أمام الحضور ونهض إلى خارج القاعة ولحقت به نصرة في الموضأ واضعة كفها علي كتفه , عد إلي خالك يا أمير .
رجع أمير وجلس مستجمعآ وقال : إنما غمرتني دموع الفرحة يا خال . أنا إسمي الطاهر بن الشيخ النعمان شيخ قرية الدًرة ,وأمي الشيخة دارالسلام بنت عبدالقادر المصري , وأمها كوكب بنت سعد العلوية وهي بنت الزرافة بنت بكر , والزرافة هي بنت النجفة بنت الشريف هاشم .والنجفة هي أخت الشريفة البيرق بنت هاشم . وأمهًن هي الدًرة بنت مالك المسمي عليها قريتنا الآن . هي زوجة الشريف هاشم جدنا الثاني عشر في سلسلة شيوخ الامارة , وأمها تمرالجنان العلوية .
قال الخال : هذه بشارة ساقها الله علي أيديكما أنت وأختك نصرة . أرجوك تبلغ أخوالنا يأتونا حتي يجتمع الشمل .
قال : سأفعل وعليكم قبول دعوة الرد .
وضحك الجيع .
وطار الخبر العاجل إلي الدًرة يحمل البشري وأقيمت الذبائح . وقال الشيخ أبا فرسة أمام الجموع , سنجهز وفدآ لزيارة أمنا البيرق يليق بمقامها .
وفي الجامعة طالعت صحيفة الراهبات الطلاب بالخبر الداوى إكتشاف صلة الرحم الأسرية للطالبة نصرة بأمير إبن خالتها . وتبارت الأعمدة الإجتماعية في تناول الخبر والتحليلات عن الروابط المتشابكة لهذا المجتمع السوداني علي الرغم مما يُري من إختلاف السحنات وبعد المسافات . وتعمق المحللون في مقارنة الصفات الإجتماعية والإنسانية ووجهات الشبه التي تجمع بين الشخصيتين وتساءل الكثيرون هل تستطيع الراهبات تطوير هذا الإكتشاف وإستثماره لخدمة الاهداف السامية لهذا المجتمع ؟ وأهابوا بتمليك الأسرار حول علاقة أمير والراهبات .
إنتهت الإمتحانات وظهر النتائج التي حملت في لوحاتها تخرج أمير بدرجة الإمتياز . وإستدعاه عميد الفلسفة في مكتبه مهنئآ وقال له : مبروك يا إبن طاهر هذه النتيجة . فهي تتيح لك الفرصة لدراسة السنة الخامسة مرتبة الشرف التي تؤهلك للقبول مساعدآ للتدريس في الجامعة وتستطيع أن تواصل مشوار تحضيرك للماجستير والدكتوراه وعلي نفقة الجامعة أنت يا إبني تصلح لأن تكون أحد أعمدة هذه الكلية وأنا شخصيآ سأتولي رعايتك وأوصي بها وربما ستذهب في بعثة دراسية في الخارج .
قال أمير : أشكركم أساتذتي الأجلاء فالفضل يرجع إليكم في تبصيرنا بسبل الحياة وهو المعين والزاد . وأشكركم علي النصائح والإهتمام وأرجوا أن تقبلوا الإعتذار فلدًي إلتزامات أسرية يصعب معها الإستمرار في مواصلة الدراسة في الجامعة .
قال العميد : طيب يمكن أن تملأ إستمارة التسجيل والمواصلة في الدراسة لحين تجد الفرصة المناسبة وسأعمل لك إفادة بالتخرج تساعدك في التوظيف إذا أردت .
قال : نعم
قال العميد : يا إبني منظرك لا يوحي بأنك من أسرة محتاجة !
قال أمير : هم يتاجون إلي رعايتي .
قال العميد : هل أنت إبن أمير كما يقول الطلبة ؟
قال : أنا إبن شيخ قرية الدًرة .
قال العميد : يا إبني أنا أريد أن أُعدُّك لترعي مصالح الأمة وأنت تريد أن تذهب لترعي مصالح قرية ؟
قال: وهل إنما تكون الأمة من تلك القري يا أستاذي ؟
قال العميد : صدقت والله إنما يحدث التغيير من الاساس ، ولا فائدة فيما لا أساس له . والصدفة وحدها هي التي تأتي بالقمة التي لا قاعدة لها . فنحن واجبنا أن نعلم الأجيال ونفرخهم في المجتمع لأحداث التغيير , وكنت آمل أن تكون أنت ضمن هذا الأسطاف . زميلتك نصرة هي الأخري تؤهلها تخرجها لدراسة السنة الخامسة ونيل مرتبة الشرف ولكنها رفضت أيضآ هذه الفرصة . ربما إهتمام هذا الجيل في إتجاه تشريف مختلف عن زماننا ! إذهب يوفقك الله وأبقي علي الإتصال .
قال : وأنا مدين إلي هذه الرعاية ما حييت . مع السلامة .
بعد أيام من التخرج حطت في مطار الخرطوم طائرة تحمل وفد الشيخ أبا فرسة , وتم إستضافتهم بأركويت في منزل إبن الدًرة الشيخ علي البرلماني عضو مجلس الشعب القومي . وأقام لهم إحتفاءآ جامعآ حضره أحباب الشيخ أبا فرسة زعماء الكيان في البقعة ولفيف من الأهل والمعارف . وتكوًن الوفد المغادر إلي السلمة من سبقه عشر عضوآ هم : الشيخ النعمان , وإبنيه الطاهر وابي الرخا , وبنته فرسة , وأم فرسة الشيخة دار السلام , والتوأمين إبني فرسة , وهاجر بنت إبي الرخا , وإبني أخت الشيخ وهما سراج الدين الوزير والكناني ود أمرادس , وإبن أخيه علي البرلماني ,والأغبش شيخ الخلوة , والتاج أبا لمياء , وثلاثة شيوخ وإمراة من مجلس الديوان . ووصلوا إلي السلمة التي إستقبلتهم عن بكرتها يتقدمهم الشيخ الفاضلابي إمام القرية . ومكث الوفد أسبوعآ كاملآ كان حديث المجتمع في تلك الديار . وأقيمت ندوة كبري في عطبرة . وإستضيف فيها أمير بن الشيخ والسيد سراج الدين الوزير والشيخ علي البرلماني في سهرة تحدثوا فيها عن التماذج السكاني والعلاقات التاريخية بين المجتمعات السودانية , والعادات والتقاليد والإمكانات الطبيعية والثروات التي تذخر بها إقليم غرب السودان . وخلال الزيارة إلتقي الوفد العديد من النسًاب والعارفين لتنقيب سيرة الجدة البيرق والتعرف علي فروع الأسرة في ناحية البحر . وفية أيضآ زار الشيخ ووفده المقابر القديمة للترحم , وأثناء الزيارة تقدمت الشيخة إلي ناحيةٍ في المقابر ونقرت بأصبعها علي معالم حجر قد غاص في التربة قائلة مرقد الشيخة إلي جوار البيضة .
قال أمير : نقبوا الحجر . وشرع الناس في الحفر وتجمهر أعداد غفيرة في المقابر . وبعد تقليب الحجر الذى كان في شكل البيضة وفي حجم العجل وجد منقوشآ فيه : بسم الله الرحمن الرحيم
هذا قبرالمرحومة الشريفة البيرق بنت هاشم
آخر سايق التيمان 1288ه 1867م .
وعلت أصوات التهليل في المقابر , وخاطب الشيخ النعمان الجموع قائلآ : لن نقيم تشريفآ أكبر مما شًرف به الاميرة أهلُها . ضعوا الحجر في مكانه وستغرس بنتها شجرة إلي جوار مرقدها وشكرآ. للجميع وأرجوا أن نتفرق إحترامآ لحرمة الموتي . وتفرق الجميع في هدوء.
وفي يوم الجمعة وبعد الصلاة تقدم الشيخ أبا فرسة وأبنائه إلي المنصة وجلسوا إلي جوار الإمام ونهض الأغبش الجهور قائلآ : السلام عليكم أيها الأحباب , عندنا قران فأشهدوه , الزوج أمير الطاهر إبن النعمان , والزوجة نصرة بنت الفاضلابي ,الصداق المعلوم أربعون بقرة تنيًة ومائة من الأغنام , والعوائد حسب عاداتنا في العشيرة , والدعوة عامة للتهنئة بمنزل الشيخ الفاضلابي وتم القران وأقيمت الأحتفلات والفرح . وقبيل المغرب غادر وفد الشيخ أبا فرسة قافلآ مخلفين الكناني وزوجته فرسة وبنت إبي الرخا . لإكمال المراسم وإصطحاب أمير . وقضي أمير أسبوعآ آخر عند أخواله قبل أن يسافر برفقة عروسته ووفده والصبي النضر بن الفاضلابي أخو العشيرة الذي أهداياه والداه لإبنتهم العروس . وإلتحق أمير بوفد والده وقضوا أسبوعآ في العاصمة ليحط بهم طائرة الجمعة في نيالا .
وواصلت الأميرة فرسة وأخوها أبي الرخا وإبنته والكناني وإبنيه ومجلس الديوان إلي الدًرة لترتيب الإستقبال . وبقي أمير ووالديه وزوجته وإبن الفاضلابي في ضيافة الوزير سراج الدين لترتيب الدعوات لأحتفال التدريج لأمير السابع عشر لأمارة الدًرة والذي سيكون بعد شهر من القدوم . وتزينت الدًرة عن بكرتها بالملابس الزاهية والأعلام الخضراء فوق أسطح المنازل وأستجلب أمير ألفآ من شتول المانجو ليتم غرسها في المنازل السكنية والساحات تخليدآ لذكري التدريج .
وأقيم إجتماع الديوان لإقرار التدريج وكتابته . وضحي يوم التدريج وقف أمير وزوجته في منصة الإستقبال في الميدان الرئيسي في قلب الدًرة وهما متوشحان بالزي الكامل , ومن ورائهما والديه وأسرته وألحق بهم إبن الفاضلابي أمير البحر ومن خلفهم النصب التذكاري العالي يحمل نحتآ لفارس علي صهوة جوادرافعآ بيمينه مصحفآ ويضم بيسراه بيرقآ أخضرآ من الحرير يرفرف عاليآ فوق النصب , وقد كتبت عليه إمارة الشيخ الطاهر . وعلي جوانب الميدان أصطفت فرقة الخيالة متزينين بالملابس والأعلام الخضراء يتشكلون سبعة عشر فرقة في كل فرقة سبع عشرة فارسآ تيمنآ بمقدم الأمير الجديد , ومن خلف المنصة يقع مبني الضيافة الفسيح الذي تفننت أيادي الدًرة في تشييدها من المواد المحلية والمفارش والزين , وأمتلأ الميدان عن جنباته بالجماهير الغفيرة . الرجال والنساء والأطفال والغلمان المتزينين بالملابس والأعلام الخضراء .
جاء الأغبش ووفده من سبعة عشر شيخآ ومائة من الغلمان ومثلهم من الحواري الذي اكملوا حفظ القرآن , وجلسوا علي مفارشهم في مقدمة الجماهير وهم يهللون ويضربون الدفوف . ولاح موكب الزوار قادمآ يتصدرهم حاكم الأقليم وسلطان ولاية مايدوقري ووفد من نيجيريا . والسلطان الشاب إبراهيم أبوجدو سلطان ودًاي ووفده من أبشي , ووفد البرلمان القومي , السلاطين والنظار والشراطي والأمراء يثلون مجتمعات وقبائل الأقليم , ووفد هيئة كيان الأنصار من البقعة ووفد الساده الختمية وجبهة الميثاق , ووفد إذاعة أمدرمان , ولفيف من المسؤلين والأعيان , ووفد إبن الفاضلابي وزوجته رقية والشيخ السنهوري من الشمالية . وتم التدريج وتقدم حاكم الأقليم وسلطان مايدقري وابشي وألبسوا الأمير التاج والوشاح . وتقدمت زوجة سلطان مايدقري وزجة سلطان ودًاي ودرجتا الأميرة نصرة .
وخاطب الحاكم الجماهير معددآ مآثر هذه العشيرة ودورها في دعم التماذج الإجتماعي وخدمة أهل القرآن عبر القرون ودورها في خدمة العمل الوطني وغيرها . وتحدث سلطان أرولا وسلطان أبشي متناولان الجذور التاريخية والممالك والحضارات التي نشأت في أفريقيا عبر القرون وأهمية تواصل إرث هؤلاء الأجداد أجيالآ وراء أجيال . وتحدث أمير الدًرة الجديد محييآ تاريخ أجداده العظماء في أفريقيا أمبراطورية كانم ومملكة ودًاي الإسلامية ومملكة الفولاني ومملكة الهوسا والماوماو في كينيا قائلآ : ما هؤلاء الذين ترونهم أمامكم سوي عقدآ من تلك السلالة الفريدة لعظماء هذه القارة وحيًا الدور الرشيد للحاكم ورعايته للمناشط الأهلية والإجتماعية في الإقليم . وحيًا الزعماء السياسيين وزعماء الإدارة الأهلية وعدد مآثرهم والمكونات السودانية المختلفة ودورهم في ربط الاخاء والتعايش بين القبائل وقال إنما أنا إبن لهم جميعآ وحيًا أباه الشيخ وأمه وعشيرته علي تكريمهم له بهذا التدريج وأعلن أن الإحتفالات ستستمر لثلاثة أيام .
وأنتهت المخاطبة وتقدم سلطان أرولا بهداياه إلي الأمير وهي مصحفآ بخط اليد , وفلوآ أحضروه معهم بالطائرة يقول إنه من سلالة خيل ترجع إلي أيام مملكة كانم , ودرعآ من النحاس يحمل عضوية تشريفية لعائلة السلطان في نيجيريا .
وتقدم سلطان أبشي وأهدي سيفآ من الذهب وأبريقآ من الفضة ومصلاة من الحرير وجواهر وقد أندهش الجميع لعبارات الشكر البليغة التي قدمتها الأميرة نصرة باللغة الفرنسية للساده الضيوف وتفرغ الوفد للضيافة وأخذ الراحة .
وخرج تيم الإذاعة للتجوال فيي نواحي الدًرة ويقول من الإذاعة وأول ما لفت إنتباههم مناظر المشاتل الجديدة لشجر المانجو التي عمت مناحي القرية , ومناظر أزيار الماء الفخارية بأكوابها الخضراء وقداح الطعام المخطاه بالبراتيل المزركشة المصنوعة من النايلون , أمام منازل السكان في مناظر لا يكاد يخلو منها بيت واحد .
كما لفت إنتباههم خلو القرية تمامآ من الحيوانات الأليفة التي تم إخراجها إلي خارج القرية , وحفظ الدواجن داخل الأقفاص وعلفها حفاظآ علي صحة البيئة ونظافة القرية . وكذلك مناظر الأطفال بالأزياء والأعلام الخضراء وهم يجيبون الشوارع تحت رعاية المعلمين وشيوخ الخلاوى . ومهرجانات سباق الخيول ساحة النقعة . وانواع الفاكهة والعطور التي تقدم أحتفالآ بهذه المناسبة .
وعند العصر شرف وفد الإذاعة إحتفالات الختان لمائة طفل وطفلة . تحت رعاية أطباء حضروا من المدينة , وذلك تخليدآ لذكري هذه المناسبة .
وغادرت الوفود الرسمية المنطقة قبيل المغرب .
وبختام الإحتفالات وإنتهاء زيارات الوفود والتي أستمرت لشهر , شرع الأمير الجديد في مزاولة مسؤليته القيادية في الأسرة . أستهللها بوضع حجر الأساس لست عشرة قرية فرعية هنً بنات الدًرة . وإختار لكل واحدآ شيخآ من الأسرة يشرف علي نشأتها ويرعي تطورها ويسجل ذلك في الديوان . وعين مجلسآ من ثلاثين عضوآ برئاسته لرعاية نهضة وتطوير الأمارة . وطور مجلس الديوان في بنائه ووظائفه . وبدأ بالتخطيط لتطوير إمارة نموذجة من سبعة عشر قرية تحًيي ذكري العظماء من أجداده الذين تحكي عنهم الروايات والأساطير . وأنشأ خطة لأعادة ترسيم وتخطيط الدار الذي يقع تحت ملكية العشيرة القري والمزارع والمراعي والطرق الرابطة و المسايل المائية وغيرها . وأعاد تخطيط قرية الدًرة حاضرة الأمارة , وتخطيط القري الفرعية والتي سميت بأسماء الرموز الذين تعاقبوا علي زعامة العشيرة وهي القري : قرية الشيخ طاهر , حلة بكر ’ قرية الشيخ مالك ’ قرية أولاد الجزولي ’قرية الشيخ هاشم ’ قرية ابوالرخا ’ قرية زرافة ’ قرية الشيخ بدوى , قرية المقني , قرية إبن الفاضلابي ’ قرية تمر الجنان , قرية الشريف البيرق , قرية فضل واسع , قرية الأميرة فرسة , قرية النجفة , وزريبة النعمان وهن بنات الدًرة وبدعوة تقدم بها وفد الماني زار الأمير ولاية سكسونيا السفلي وإلتقي بحاكم الأقليم الذي وافق علي رعاية ودعم خطة لإنشاء أمارة الدًرة النموذجية وجاء وفد خبراء سكسونيا ليضع مشروعآ متكاملا لنهضة ريفية ليشمل دراسات لتطوير البيئة السكانية والتنمية الزراعية والحيوانية ومشروع السوق النموذجي لتجارة الملشية .
وزار الأمير نيجيريا إلتقي أبائه في مقاطعة أرولا سلطان مايدقرى وشيخ الطريقة التيجانية الذين تكفلا ببناء معهد الشيخ احمد التيجاني لعلوم القرآن بالدًرة .
وإستقطب معونات من الدول والمنظمات الخيرية للمساهمة في مجالات التنمية المختلفة .
وفي سنوات قليلة صارت الدًرة حديث المجتمع في غرب السودان , وأخذ الركبان والمسافرين يتحدثون عن الامارة الخضراء أمارة المانجو . وجابت قوافل أبو الرخا التجارية الأقليم لتوصيل منتجات الدًرة حتي تخوم الصحراء الشمال , وجنوبآ إلي ما وراء البحر , وشرقآ إلي مدن القوز في كردفان .
وأصبح الكثير من مناطق الإقليم تكاد تعتمد كليآ في الحصول لإحتياجتها من البقول والخضر والفاكهة من منتجات الدًرة . ولا تزال تذكر مدينة نيالا قصة ذلك الرجل الذي حضر إلي السوق بعربته ماركة الفورد محملة بشحنة البصل وتسابق التجار إليه كل يقدم عرضه في يوم شهد ندرة في البصل وغلاء في ثمنه , كما كان من الرجل إلا أن حمل إناءآ وصعد إلي ظهر اللوري وصاح بعبارتة المشهورة بقي بصفر بقي بصفر . وتدافع إليه الناس ليوزع أبوالرخا الشحنة مجانآ ويتحرك بعربته خاجه من السوق . ومنها جاءت المقولة المشهورة للتجار نبايعة بيعة أبوالرخا للبصل .
وكذلك قصة تاجر البطيخ الذي جاء إلي أبو الرخا مستأجآ العربة لتوصيل شحنة من الدًرة إلي زريبة البطيخ في الفاشر وعندما قبل سعر الترحيل قال أرخيها , يا أبا الهاجر . قال له : وأنت وبضاعتك مجانآ وفور وصولهم إلي السوق صاح أبو الرخا بعباراته المشهورة ليوزع شحنة البطيخ مجانآ ,ووضع يده علي راس صاحب البطيخ صائحآ بقي بصفر بقي بصفر ومن ذلك اليوم صار إسم البطيخ مائدة أبوالرخا في تلك الناحية وإقترن سيرة الرجل في الديوان . بهذه اللونية من الصفات . وأصبح شائعآ في السوق أن يصيح التاجر في بضاعته بقي بصفر بقي بصفر ويوزعها مجانآ كنوع من التصدق . وزات مرة جاء بدوي من الفرقان القريبة إلي زريبة الماشية في يوم السوق وفي نهاية اليوم عندما راي أبا الرخا مارآ سأل : من هذا الرجل ؟ فقالوا له : أبو الرخا إبن الشيخ . فصاح في ثلاثة نعجات له بقي بصفر بقي بصفر ولم يتقدم أحد لأخذها فإستغرب وسأل فقال له شخص : يا هذا أبوالرخا لا يهدي نعجات فشلنً في مسابقة التسوق فأصبحت حكمة متداولة .
كما شهدت تلك الأيام سجالات شيوخ المعهد وإختلافهم حول جوانب من زكاة الزروع وفتاوي بنت أبا الرخا كيلة في جوالي البصل وكورة في جوال الليمون والقياس علي ذلك في الأمثال .
وامتدت نشاطات الأمير العمرانية وإشتري قطعة أرض سكنية أخري علي ضواحي المدينة تبلغ مساحتها مئة ألف متر مربع وقام بتسويرها ووضع عليها يافطة مكتوب عليها ضيافة حره لأهل الدًرة وأصبحت هي المحطة الاولي للقادمين إلي المدينة للتسوق والخارجين منها من أهل الدًرة .
وتعمقت صلات الأمير بأهله وإزدادت محبتهم إليه ولأسرته الذين أضحوا يرونهم كصالحين تجري علي ايديهم البركات . وقد تجلي ذلك في إحتفالات الدًرة بمناسبة ختان نجلي الأمير البيرق وهاشم في صحبة المئتي صبي وصبية . وفي وفاة الشيخة أم الفقراء والدة الامير . وفي الليلة التي دفنت فيها الشيخة حضر الأغبش ومعه مائة وأربعة عشر من حملة القرآن جثوا علي المقبرة يبتهلون بالدعاء حتي بزوغ الفجر سائلين المولي أن يشمل امهم بالرعاية كما كانت ترعاهم .
وفي الليلة التالية جاءت مئة جارية ووقفن يقسمن علي المولي بما هداهنً الله وحفظنها أن يغمر أمهنً بمحبتهم ويتكفلها برحمته كما كانت ترحمهنّ .
وهكذا إستمرت الدًرة ولكن الحياة بطبيعتها لا تشير علي منوال واحد , والأمم من النهية التاريخية تمر بحالات من التحضر والبداوة بشكل دوري مستمر , مكونة في ذات الوقت تجمعات صغيرة وريفية .
فقد تسلم مقاليد الأمور في البلاد في نهايات القرن العشرين وبداية الإلفية الثالثة قادة يفتقرون إلي أدني مقومات القيادة الرشيدة . وجاء إلي سدة الحكم فتي بني أمية الجديد . وصحيح ما قاله عميد الفلسفة فالصدفة وحدها هي التي تأتي بالقمة التي لا قاعدة لها .
يقول هذا الفتي في إحدي خبه البطراء : وعليه فإننا نعلن ونقر ونؤكد ونهتف بأنه من الضروري لكل مخلوق فرد لكي ينال رضانا يجب عليه أن يخضع نفسه لسلطان هذه الدولة ولشخص سيد الأسياد صاحب الحق الذي ليس مسؤلآ أمام أحد إلا الله وحده , وإن الجميع مسؤلين أمامه وهو الذي له كل الحق في إصدار المواثيق والقوانين , وأيضآ في تفسير وأعلان وتعديل هذه القوانين حسب ما وعندما يري ذلك كما هو معروف في المثل الشائع إرادة الرئيس يتم نفاذها من خلال القانون .
وفي أشد الفترات براوة وخصوة في تاريخ السودان أخذ الفتي يقسم الناس إلي أصليين وفرعيين وتابعين ووافديين وأحرار وعبيد . زعمآ بأن الأجداد قد أهملوا وفرطوا تجاه حراسته من تسلل العمي والوافديين وأنه لا بد من تحديد السكان الأصليين وطرد الدخلاء إلي حيث أتوا , وجيش الجحافل من ضعاف النفوس وقصيري النظر والخونة لتعكير العلاقات ودق أسفين الكراهية والبغضاء بين أبناء الشعب . وذهب يدقدق مشاعر الأحلاف ممن يشبهونه في هذه السلوك الأفكار . وبداءت حملة التنظيف وصالت الجحافل ماسحت القري والفرقان بطرد الوافديين من نواحي أفريقيا الذين تسللوا وإستوطنوا في غفلة من الأزمان الغابرة .
وذات يوم صحت الدًرة لتجد نفسها في مهبً الريح , أصوات الطائرات المغيرة وهدير المدافع والقصف الرعدي والكتائب العسكرية وفرسان التطهير وتسابق الناس إلي الشعاب والجروف , وطار الفرسان إلي الثغور , ومضي يوم عصيب من المواجهة والأمير في ناحية من القرية يوجه الفرسان للدفاع ويوزع الأدوار . وجاء فارس مسرعآ حتي وقف أمام الأمير فلم يعرفه قال: من الفارس ؟
ترجل من فرسه وقال : أنا جوهرة .
قال الأمير مندهشآ : بنت الكناني ؟ ماذا جري ؟
قالت : لله ما أخذ ولله ما ابقي . إستشهد أبي وإستشهد عمي أبو الرخا علي تلال زرافة إثر قذيفة من طائرة .
وأعتلت صهوة الجواد قائلة : وسنعدل ميزان السروج وغادرت مسرعة .
أسترجع الأمير الدموع تزرف من عينيه إنا لله وإنا إليه راجعون إبن الأم وإبن العمة !
ثم استجمع وهتف قائلآ : ليجمع أهل الديوان والأعيان حاضرآ . وكرر .
وعند حضور القوم وقف الأمير أمامهم وعيناه تذرفان قائلآ : أيها القوم الأمبراطوريات تقوم وتسقط . والأجناس تتدهور إلي أضمحلال . والقوي تنقلب إلي ضعف وخوار . والجمال يذوي إلي تجاعيد وشعر أشيب . ولكن الحياة تمضي في مسيرتها الأزلية . وبذا يتقاع منحني الزبول والأفول مع الخط المتصاعد مع رفق الشباب . لقد شهدت المعمورة قيام أمبراطوريات عاتيه , وأجناسآ أشداء العزم , ومثالياتمتعالية وجمالآ نقيآ طليعآ , وهكذا فأن أنبوب الموتي يجري متوازيآ مع تفجير ينابيع القصب وبصليات الحاة إن خراب الدًرة يمثل خسارة كبري للحضارة الإنسانية .
أبناؤكم أبلوا بلاءآ منقطآ النظير , وواجهوا الاعداء بصدور عارية .
غرقت الدًرة وأحترق الرخاء .
تموت الدًرة ويبقي أهل الدًرة .
وضج الناس بالبكاء .
وصمت الأمير قليلآ ثم قال : البكاء ليس هو الحل سندفن الشهداء ونخرج في جنح الظلام . لا تحملوا إلا الزاد والسترة وما خفّ حتى ينشغل الأعداء بالغنائم . سأتكفل أنا بحماية التاريخ ، ويتولى الفرسان الحماية والسقيا حتى تنزلوا . والحقّ لابد أن يعود ولو بعد حين .
وخربت الدرة ودخلتها جحافل الثقفي الجديد لتحيلها إلى أطلال بالية ولم تنج حتى السدود والمقابر وأشجار المانجو الظليلة ظانة بأنها بذلك قد أطهرتها وأعادتها لدولة الأمويين الرشيدة .
وزحف الأهالي إلى وجهة النزوح الجديدة وهي ضيافة أهبل الدًرة إلي جوار المدينة التي أنشأها الأمير تحسبآ لمثل هذه الحالات الطارئة .
وبعد وصول وترتيب المنازل وإصلاح أحوال المرضي والمصابين جمع الأمير أهله ووقف فيهم قائلآ : الحمد لله علي كل حال . ويرحم الله من مضي منا شهيدآ . صدفت نبوءة جدكم الشيخ . عمرت الدًرة أعمارآ عظيمآ وهاهي النكبة وستكون الهبة بأن الله .
أخلف فيكم إبني الأمير هاشم بن الطاهر , ويتعهده الساده مجلس الديوان بالرعاية , لحين يشتد ساعديه . وستتولي فرسة وأم البيرق رعاية أحوال الناس المعيشية والأموال والأملاك وقفآ لأهل الدًرة .
وصمت قليلآ ثم قال : صحيح إنما يكون أصلاح الأمة من القمة . أعاهدكم سأتفرغ منذ اليوم لرعاية مصالح الأمة . وأعتلي السرج وسارع الفرسان إلي خيولهم ووقف أمامهم قائلآ : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتي يرأف إلي جوانبه الدم وأنطلق غائصآ في الغابة وهو يقول الهًبة يا رجال الهًبة يا رجال .